انتظر الغرب عاماً كاملاً حتى يتبنى وجهة نظر روسيا بشأن الحرب في أوكرانيا، فهل يمكنهم فعلاً "سحق" موسكو في نهاية المطاف؟
إذ أصدر رئيس وزراء بريطانيا، ريشي سوناك، بياناً مشتركاً مع نائبة الرئيس الأمريكي، كامالا هاريس، وصف الصراع في أوكرانيا بأنه "حرب عالمية"، واتفقت لندن وواشنطن على ضرورة إلحاق الهزيمة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، "مهما طال الزمن".
الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أكد الرسالة نفسها، إذ قال إن الدول الغربية جاهزة "لنزاع طويل الأمد" في أوكرانيا، مضيفاً أن "الوقت ليس للحوار" مع موسكو. أما الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، فقد كرر جملته المفضلة: "لا بديل عن انتصار أوكرانيا".
الصراع في أوكرانيا "حرب عالمية"
لماذا اندلعت الحرب في أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط 2022؟ لا يمكن البدء في وضع تصورات للكيفية التي قد تنتهي بها الحرب قبل التوقف عند هذا السؤال، فالحرب لن تنتهي إلا بهزيمة عسكرية ساحقة يلحقها طرف بالآخر أو أن تنتفي أسبابها.
وجهة النظر الروسية، التي عرضها بوتين باستفاضة عشية بداية الحرب، أو "العملية العسكرية الخاصة" كما يصفها، تتمثل في سعي الغرب إلى ضم أوكرانيا لحلف الناتو، وهو ما تعتبره موسكو تهديداً لأمنها القومي. وفي هذا السياق، طالبت موسكو، واشنطن بأن تقدم لها ضمانات ملزمة قانونياً بأن كييف لن تنضم إلى الحلف العسكري الغربي، وهو ما رفضته إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن.
على الجانب الآخر، يرى الغرب أن الهجوم الروسي على أوكرانيا ليس إلا "غزو عدواني غير مبرر"، سببه رغبة بوتين في إعادة أمجاد روسيا القيصرية والاتحاد السوفييتي المنهار من خلال ابتلاع أوكرانيا وضمّها إلى الاتحاد الروسي. وهكذا اندلعت الحرب قبل عام كامل، قدم خلاله الغرب جميع أشكال الدعم العسكري الممكن لأوكرانيا، مع الحفاظ في الوقت نفسه على ألا يتحول الصراع إلى حرب مباشرة مع روسيا.
وفي هذا السياق، تأتي تلك "الاعترافات" العلنية من جانب لندن وواشنطن وباريس وباقي العواصم الغربية بأن الصراع في أوكرانيا عبارة عن "حرب عالمية" طرفاها روسيا والغرب، بمثابة تأكيد لوجهة النظر الروسية، وهو ما سيقوي موقف بوتين داخلياً بطبيعة الحال.
جوزيب بوريل، منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، كان قد عبر عن هذا السيناريو، خلال ديسمبر/كانون الأول، بقوله: "لقد تحولنا إلى عالم غير منظم متعدد الأقطاب، كل شيء فيه سلاح: الطاقة والبيانات والبنية التحتية والهجرة. … الجغرافيا السياسية هي المصطلح الأساسي، كل شيء جيوسياسي"، بحسب تقرير لشبكة DW الألمانية.
ثم جاء مؤتمر ميونيخ السنوي للأمن ليؤكد هذه الحقيقة، التي لم تكن غائبة عن أحد بطبيعة لكنها الآن جاءت على ألسنة القادة الغربيين، مما يطرح جبلاً من التساؤلات بشأن ما ينتظر العالم أجمع، خصوصاً أن تلك الحرب قد أصابت الاقتصاد العالمي بحالة من التضخم يعاني منها الجميع.
وهذا ما جاء في البيان الصادر عن سوناك وهاريس، حيث إنهما "اتفقا على أن حرب بوتين في أوكرانيا حرب عالمية، سواء من حيث تأثيرها على الغذاء وأمن الطاقة، أو من حيث تداعياتها على الأعراف المقبولة دولياً مثل السيادة".
أما ماكرون فقد جاءت كلماته في مؤتمر ميونيخ، الجمعة 17 فبراير/شباط، لتلقي بمزيد من التشاؤم على أي فرص للتوصل إلى تسوية سلمية للحرب في أوكرانيا، إذ قال: "نحن جاهزون لنزاع طويل الأمد. أقول ذلك ولا أتمنى هذا الأمر. وإذا كنا لا نتمنى ذلك، فعلينا أن نكون جميعاً صادقين في قدرتنا على الاستمرار في هذا الجهد".
هل يمكن أن ينتصر الغرب على روسيا؟
يأتي هذا التطور الأخير من جانب الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، متزامناً مع الذكرى السنوية الأولى للحرب في أوكرانيا وأيضاً مع بداية هجوم روسي كبير، بعد أن شهد ميدان المعركة حالة من الاستقرار خلال فصل الشتاء، الذي أوشك على الانتهاء.
وتفيد التقارير الواردة من ساحة المعركة بأن القوات الروسية تحقق بالفعل تقدماً على طول خط المواجهة، بينما تعاني القوات الأوكرانية من نقص حاد في الذخيرة. فخلال الأسابيع القليلة الماضية، يبدو أن روسيا بدأت تستعيد زمام المبادرة في ساحة الحرب، بعد أن كانت أوكرانيا، بمساعدة الغرب وحلف الناتو، قد تمكنت من إحراز انتصارات ميدانية، أجبرت القوات الروسية على الانسحاب من مدن كبرى مثل خاركيف وخيرسون.
وكالة إنترفاكس الروسية للأنباء ذكرت، الإثنين 13 فبراير/شباط 2023، نقلاً عن بيان لوزارة الدفاع، أن القوات الروسية تمكنت خلال أربعة أيام، من التقدم مسافة كيلومترين إلى الغرب، على طول خط المواجهة بأوكرانيا. وجاء في تقرير الوزارة أن "الجنود الروس كسروا مقاومة العدو وتقدموا على عمق عدة كيلومترات في دفاعه المتدرج المستوى"، وأضاف التقرير أنه "في غضون أربعة أيام تحركت الجبهة مسافة مترين إلى الغرب".
لم ترد تفاصيل عن الجزء الذي تحرك من خط المواجهة الواسع، الذي يشمل عدة مناطق أوكرانية في جنوب وشرق البلاد، لكن منطقة دونيتسك في جنوب شرقي أوكرانيا، والتي تسيطر روسيا على أجزاء كبيرة منها، وتسعى إلى السيطرة عليها بالكامل، تشهد بعضاً من أعنف المعارك في الأشهر الأخيرة.
تأتي هذه التطورات الميدانية في وقت تتحدث فيه التقارير الغربية عن تحضيرات روسية لشن هجوم كبير جديد، هدفه الرئيسي على ما يبدو، هو حسم المعركة في إقليم دونباس بالأساس، وهو أحد الأهداف الرئيسية التي أعلنها الرئيس فلاديمير بوتين. كما قال مسؤولون في الجيش الأوكراني مؤخراً، إن مدينة باخموت شرقي البلاد تتعرض لقصف مدفعي روسي كثيف.
وبالتالي فإن إجماع الغرب خلال مؤتمر ميونيخ للأمن، بوجود ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس وسوناك وهاريس، إلى جانب العديد من كبار المسؤولين الآخرين، على ضرورة مواصلة الحرب حتى "هزيمة روسيا"، يطرح عدداً من التساؤلات، أبرزها: هل يمكن فعلاً أن ينتصر الغرب على روسيا عسكرياً؟ وكيف يمكن أن يرد بوتين إذا ما لاحت الهزيمة العسكرية في الأفق؟
أعلن شولتس أن الدفعة الأولى من دبابات ليوبارد الألمانية ستصل "قريباً" إلى أوكرانيا، كما أعلن سوناك استعداد لندن لتوصيل طائرات مقاتلة متقدمة إلى كييف، إذ قال السبت 18 فبراير/شباط، إن بلاده مستعدة لدعم أي دولة يكون لديها الاستعداد لإرسال طائرات إلى أوكرانيا في الوقت الراهن، داعياً الحلفاء إلى الحفاظ على دعمهم لأوكرانيا.
لكن بريطانيا ترفض حتى الآن إرسال طائرات مقاتلة إلى أوكرانيا، قائلة إن الوقت الطويل اللازم لتدريب الطيارين وأطقم الدعم الكبيرة المطلوبة يعني أنها لن تكون ذات فائدة فورية، لكن سوناك قال في مؤتمر ميونيخ للأمن إن بلاده يمكن أن تساعد بطرق أخرى.
وقال رئيس الوزراء البريطاني للصحفيين: "ستوفر بريطانيا بكل سرور نظاماً لأي دولة تكون قادرة على تزويد أوكرانيا بطائرات مقاتلة في الوقت الراهن. المملكة المتحدة مستعدة لدعم تلك الدول". وذكر أيضاً أن الحلفاء الغربيين يجب أن يبحثوا عن طريقة تضمن أن تدفع روسيا أموالاً في إعادة إعمار أوكرانيا بمجرد انتهاء الحرب.
ماذا يعني هذا "القرار" الغربي بالنسبة للعالم؟
بالنظر إلى ما تسببت فيه الحرب خلال عامها الأول من معاناة لا توصف لأغلب شعوب العالم، خاصة في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية حيث كانت الاقتصادات الناشئة تعاني من تداعيات جائحة كورونا ثم جاءت حرب أوكرانيا لتضع كثيراً من الدول على شفا الإفلاس، فإن الحديث الغربي عن "صراع طويل الأمد" يسبب غضباً كبيراً حول العالم بطبيعة الحال.
وكان هذا الغضب حاضراً حتى في مؤتمر ميونيخ للأمن، حيث عبّر مسؤولون أفارقة وآسيويون وأمريكيون جنوبيون عن خشيتهم من أن استمرار الحرب في أوكرانيا ستكون له عواقب وخيمة على بلدانهم وشعوبهم، في ظل الارتفاع الجنوني لأسعار السلع الغذائية وأزمة الديون الخانقة التي تعاني منها كثير من دول العالم، التي لا ناقة لها ولا جمل في الصراع الجيوسياسي بين الغرب وروسيا.
على أية حال، الآن وقد تراجعت بشكل لافت، أي فرص للتسوية السلمية على المدى القصير وربما المتوسط والبعيد أيضاً، من الطبيعي أن ينصبَّ التحليل على احتمالات الانتصار والهزيمة في الميدان كخطوة أولى. فهل يمكن أن ينتصر الغرب على روسيا في أوكرانيا؟
قبل الدخول إلى الاحتمالات، من المهم تحديد ماهية ما قد يعتبر انتصاراً، فهل المقصود هو طرد القوات الروسية إلى ما قبل حدود 24 فبراير/شباط 2022؟ أم طرد روسيا أيضاً من شبه جزيرة القرم، التي ضمتها عام 2014؟ التصريحات الأمريكية الصادرة مؤخراً تضع القرم أيضاً ضمن المناطق "الأوكرانية" التي لابد أن تنسحب منها روسيا.
الإجابة إذاً هي: "مستحيل" أن يحقق الغرب انتصاراً على روسيا بهذه الحيثيات، بحسب أغلب الخبراء العسكريين والاستراتيجيين الغربيين أنفسهم. فروسيا تسيطر على مساحات كبيرة من شرق أوكرانيا وجنوبها، كما أن موسكو لم تلقِ بأغلب قواتها المحترفة في ساحة الحرب، وتعتمد، على مدار عام كامل، على ميليشيات فاغنر بشكل أساسي.
إضافة إلى ذلك يظل الدعم الغربي لأوكرانيا رهناً بعوامل معيقة، أبرزها تجنب "استفزاز" روسيا وتحويل الحرب إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين موسكو وواشنطن وحلفائها الأوروبيين، إضافة إلى الضغط الشعبي في العواصم الغربية التي يعاني مواطنوها من التبعات الاقتصادية للحرب. فالتضخم، الذي لم تشهده الاقتصادات الغربية منذ أكثر من 4 عقود، والارتفاع الجنوني لأسعار الطاقة والسلع الرئيسية، يمثل ضغطاً على المواطنين الغربيين، الذين بدأ أغلبهم في التساؤل عن "جدوى" الحرب وأهميتها.
هذه الصورة العامة تشير إلى أن الاحتمال الأقرب هو أن تتخذ الحرب في أوكرانيا طبيعة حروب الاستنزاف طويلة الأجل، حيث يسعى كل طرف إلى استنزاف الطرف الآخر دون أن تلوح في الأفق أي إمكانية للحسم العسكري. ففي حالة تكثيف الغرب دعمه لأوكرانيا، عسكرياً ولوجستياً، بصورة تفتح الباب أمام احتمال هزيمة روسيا، لا أحد يتصور أن بوتين سيقبل بهذا ويستسلم له دون أن يلجأ لترسانته الهائلة من الأسلحة النووية، وقد هدد بذلك بالفعل.
وفي هذا السياق، يمكن تفسير أمر بوتين بنشر أسطول الشمال، الذي يحتوي على ثلثي الأسلحة النووية الروسية بأنواعها، وذلك للمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، على أنه "رسالة حادة اللهجة" موجهة للغرب.
الخلاصة هنا هي أن الموقف الذي أعلنه الغرب خلال مؤتمر ميونيخ للأمن، يشير إلى أن الحرب في أوكرانيا قد لا تنتهي على المدى القصير ولا المتوسط، وهو ما يمثل خبراً سيئاً للغاية ليس فقط لروسيا والغرب، بل للعالم أجمع.