الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز للمغرب رفقة عشرة من وزراء حكومته تؤشر على أن مسار تطبيع وتطوير العلاقات بين البلدين تجاوز الاعتبارات الاقتصادية والتجارية، وأصبحت تتحكم فيه اعتبارات استراتيجية بعيدة، فمدريد التي تحملت كلفة القطيعة مع الجزائر، مع ما يعنيه ذلك من التضحية بجزء من أمنها الطاقي، تحركها اليوم حسابات أكثر تعقيداً، لم يتفهمها جزء مهم من الداخل الإسباني، الذي يرى أن مدريد تقدم تنازلات مؤلمة لفائدة المغرب، في حين تثار أسئلة حول القضايا المخفية التي تم الاتفاق حولها، ولم يتم الكشف عنها.
الإعلان المشترك الذي تم الاتفاق عليه بين البلدين، يختصر مختلف الأبعاد الدبلوماسية والاستراتيجية الاقتصادية والثقافية والإنسانية التي ستؤطر العلاقة بين البلدين في الفترات القريبة والمتوسطة والبعيدة، لكن الجوهري فيها، يطال ثلاث قضايا أساسية، أولها تأمين استمرار علاقات قوية محصنة ضد الأزمات التي كانت دائماً تعصف بالعلاقات المغربية الإسبانية. وثانيها، تعهد إسباني بدعم المغرب في قضية وحدته الترابية، وفي الدفاع عن مصالحه داخل الاتحاد الأوروبي، مقابل دور مغربي فعال في محاربة الهجرة غير النظامية ومختلف التهديدات الأمنية التي تتهدد التراب الإسباني (الإرهاب الدولي). وثالثها، تعاون اقتصادي وتجاري موسع، يضمن من جهة أن تبقى مدريد الشريك الأول للمغرب، وأن يكون لها حظ الأسد في الاستثمارات العابرة لجنوب الصحراء، ويضمن من جهة ثانية، أن تقدم مدريد استثمارات ضخمة لدعم المشاريع ذات الأولوية لدى الحكومة المغربية (تجديد البروتوكول المالي القائم على مضاعفة الموارد المتوفرة لتبلغ ما مجموعه 800 مليون يورو).
هذه القضايا الثلاث التي عبر عنها الاتفاق المشترك، بدت غير مثيرة للانتباه في نظر بعض النخب الإسبانية، إذ لم تر فيها مكاسب مهمة حققتها الحكومة الإسبانية، سوى ما كان من رسم معادلة جديدة للعلاقة بين البلدين، تجعل المغرب يضمن دعم مدريد السياسي (قضية الصحراء)، ودعم مصالحه في الاتحاد الأوربي مقابل الأمن والتجارة (ازدياد حجم المبادلات التجارية مع المغرب بنسبة 33% السنة الماضية بمبلغ 10 مليارا يورو).
الجانب الإسباني استبق اجتماع مسؤولي الحكومتين المغربية والإسبانية، ولقاء اللجنة المشتركة العليا المغربية الإسبانية، وقدم إحصائيات مهمة عن تراجع نسبة الهجرة غير النظامية إلى إسبانيا منذ تعافي العلاقات بين الرباط ومدريد، بل تحدثت الإحصائيات عن تحسن مؤشرات الأمان من الهجرة عبر الحدود المغربية بالمقارنة مع الحدود الأخرى مع أوروبا، فقد صرح رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز أنه من "بين جميع طرق الهجرة إلى أوروبا، فإن المسار الوحيد الذي سجل تراجعاً هو من المغرب إلى إسبانيا".
بعض وسائل الإعلام المغربية والإسبانية، توقفت عند مؤشر عدم لقاء الملك محمد السادس برئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز، واعتبرت طبقاً لما تضمنه مضمون المكالمة الهاتفية بينهما، والذي كشف عنه بلاغ الديوان الملكي، أن انتظارات المغرب، لم يتم استيفاؤها بعد، وأن زيارة رئيس الوزراء الإسباني مع وفد حكومته الوزارية فضلاً عن لقاء اللجنة العليا المشتركة، لا يعكس في الجوهر الإطار الأشمل للعلاقات المفترضة بين البلدين، وأن العمل لا يزال جارياً لتبديد بعض الخلافات، فالدعوة التي تضمنها البلاغ الملكي لرئيس الحكومة الإسبانية للقيام بزيارة رسمية للمغرب في أقرب الآجال لتعزيز الدينامية الإيجابية في الشراكة الاستراتيجية الثنائية الممتازة بين البلدين، تعني انتظار الرباط مواقف أكثر جرأة من مدريد.
في الواقع يصعب جمع وتحليل هذه المؤشرات المتباينة في غياب معطيات تم الكشف عنها من قبل مسؤولي البلدين، لكن، ما يمكن التأكيد عليه، أن العلاقات المغربية الإسبانية التي دخلت مربع الاستراتيجية، تواجه بعض الإشكالات التفصيلية، التي يبدو أن هناك تردداً من الطرفين، أو من الطرف الإسباني، في التعاطي معها.
النخب الإسبانية، لاسيما التي تعيش في سبتة ومليلية المحتلتين، لا تزال تحرج الحكومة الإسبانية، بسؤالين اثنين، يتعلق الأول بالوضعية القانونية للمدينتين، وما إذا كانت الدينامية الجديدة في العلاقة مع المغرب ستحمل معها تغييراً في الموقف المغربي لجهة الاعتراف بإسبانية المدينتين. ويتعلق الثاني، بوضعية التجارة عبر المعبرين، وما إذا كان الاتفاق سيحمل جديداً يتعلق بوضع إطار جمركي ينهي مأساة الكساد التجاري للمدينتين بعد منع المغرب تدفق السلع العابرة منهما للمغرب.
النخب المغربية، تطرح سؤالين مقابلين، يتعلق الأول، بموقف إسبانيا من ترسيم المغرب لحدوده البحرية، وما إذا كانت ستقبل هذا الترسيم، مقابل امتيازات تحظى بها (امتيازات من معادن جبل التروبيك). ويتعلق الثاني بحدود الدعم الإسباني لمغربية الصحراء، وما إذا كانت ستقبل بالتنازل عن إدارة المجال الجوي فوق الصحراء.
حتى الآن، لا وجود لمعطيات رسمية أو حتى مسربة عن موقف البلدين من هذه القضايا، لكن ثمة مؤشرات على أن الخلافات التفصيلية التي تمنع العلاقات المغربية الإسبانية من الوصول إلى أفق العلاقات الاستراتيجية الممتازة، أضحت مرتبطة بموضوع إدارة المجال الجوي فوق الصحراء أكثر من أي موضوع آخر. فمدريد تدرك أن المغرب، لن يقدم أي تنازل في موضوع مغربية سبتة ومليلية، وهي تسعى منذ تأزم العلاقات بين البلدين إلى تحقيق هدف استعادة العافية التجارية للمدينتين، في حين، ورغم الإعلان عن طي صفحة الخلاف بين البلدين، فإن الرباط لا تزال إلى اليوم، تؤجل قضية الاتفاق الجمركي، وهو ما يفيد بأن أقصى ما يمكن أن تقدمه في هذا الإطار للجانب الإسباني، هو وضع آلية جمركية لدخول السلع من المعبرين، ليس أكثر.
ما يرجح أن اتفاقاً ما قد حصل حول موضوع ترسيم المغرب لحدوده البحرية، أن هذا الموضوع ظل طي الكتمان، ولم يتم التداول فيه، ولم يدل وزير الخارجية الإسباني أي تصريح بشأنه، بخلاف موضوع إدارة المجال الجوي فوق الصحراء الذي سبق أن كشف في جلسة برلمانية أنه سيكون موضوع نقاش مع الجانب المغربي في زيارة رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز للمغرب في فبراير الجاري.
تاريخ العلاقات بين البلدين، يؤكد أن حساسية المغرب تظهر بشكل أكبر في القضايا التي ترتبط بملف الصحراء، وبلاغ الديوان الملكي يؤكد ذلك، فهو يفيد ضمنياً أن موعد الحسم في القضايا التفصيلية سيتأجل لموعد زيارة رسمية لرئيس الوزراء الإسباني، إذ لا يمكن أن يعقد لقاء بين الملك ورئيس الوزراء الإسباني، إلا بعد أن يتم الاستجابة للطلب المغربي، ويتم تسليم إدارة المجال الجوي فوق الصحراء للمغرب، ويتم بناءً على ذلك، الإعلان عن الكسب الاستراتيجي الآخر الذي حققته إسبانيا من وراء الاتفاق، والذي يتعلق جزء كبير منه، بملف التروبيك، وحظ إسبانيا منه، في حين لا يرجح أن يحصل تطور كبير في وضع المدينتين سبتة ومليلية، إلا ما كان من ترتيب آليات جمركية تضمن تدفق السلع الإسبانية عبر المعبرين، بما يعيد الحياة للمدينتين المحتلتين، ويجنبهما مأساة الكساد التجاري الذي خيم عليهما لخمس سنوات سابقة.
وعلى العموم، فإن عدم الحسم في القضايا التفصيلية ذات البعد الاستراتيجي، لا يعني أن لقاء اللجنة المشتركة العليا بين البلدين كان من غير كسب، فالزخم الاقتصادي والتجاري الذي تم الإعلان عنه (توقيع 20 اتفاقية في مختلف المجالات) يعطي صورة عن تطور العلاقات، ويشير إلى أن الوصول إلى الحسم في القضايا التفصيلية الشائكة، ليس إلا قضية وقت، وأن التلكؤ في المواقف بين الطرفين، ربما يعكس خصوصاً من الجهة الإسبانية، تخوفاً من أن يفهم موقفها على أساس أنه تخلٍّ نهائي عن "دور تاريخي" في الصحراء، ودعم للمغرب في فرض سياسة الأمر الواقع وضم المنطقة العازلة إليه من غير مصادمة أي مشكلة قانونية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.