تُواصل أسعار الغذاء في مصر الارتفاعَ بدرجة مرهقة للغاية، وتبدو الحكومة عاجزةً عن السيطرة عليها، ليتحول توفير الطعام إلى كابوس للفقراء، بينما يرى الرئيس عبد الفتاح السيسي أنه "ليس نهاية العالم".
فالأسبوع الماضي تم القبض على سيدة مصرية تبلغ من العمر 45 عاماً، لسرقتها عبوة برجر من سوبر ماركت في مصر من أجل إطعام أطفالها، وصرَّح مصدر قانوني لموقع Middle East Eye، بأنَّه جرى إخلاء سبيل السيدة بعد انهيارها أمام وكيل النيابة.
ووفقاً للمصدر، الذي سارع إلى الوصول إلى المتهمة في نيابة الأميرية، جنوبي القاهرة، وقالت السيدة لوكيل النيابة إنَّ أطفالها كانوا جوعى، وأرادت إعداد بعض الطعام لهم.
أصبحت مثل هذه الحوادث أكثر شيوعاً في مصر، بعد أن دفع التضخم المرتفع جداً المزيد والمزيد من الأسر نحو الفقر والعجز عن شراء المنتجات الغذائية الأساسية.
فمصر تعاني من أزمة ديون متراكمة، يدفع المواطن العادي كُلفتها الباهظة، بسبب التأثير المباشر لها على أسعار السلع الأساسية، التي لا يستطيع أحدٌ العيشَ من دونها مهما ارتفعت الأسعار، إذ فقد الجنيه أكثر من 55% من قيمته مقابل الدولار الأمريكي خلال أقل من عام.
الرئيس لا يراها "نهاية العالم"
لكنَّ أزمة أسعار الغذاء تحديداً تفاقمت بسبب التخفيض الأخير لقيمة الجنيه المصري، والتي أدَّت إلى فقدانه نصف قيمته خلال أقل من عام. حدث ذلك بعدما وافق صندوق النقد الدولي على حزمة إنقاذ للقاهرة، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، وهو ثالث اتفاق منذ تولِّي الرئيس عبد الفتاح السيسي السلطة في عام 2013.
فقد انخفضت قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي من مستوى 7 جنيهات عام 2013 إلى ما يزيد قليلاً عن 30 جنيهاً، مطلع عام 2023، ويُعَد الانتقال إلى نظام سعر صرف مرن من بين الشروط الأساسية للصندوق، من أجل تخفيض التضخم، وتوحيد الديون الكثيرة للبلاد.
لكنَّ الإجراءات المالية أحدثت تأثيرات فورية على معظم سكان مصر، البالغ عددهم 104 ملايين نسمة، وكان يُقدَّر أنَّ 60% منهم يعيشون تحت خط الفقر (3.20 دولار يومياً)، أو فوقه بقليل قبل الأزمة الحالية.
ورداً على ردود الفعل التي سلطت الضوء على الأزمة الأخيرة حول تكلفة الغذاء في البلاد، هاجم السيسي وسائل الإعلام، التي تسيطر الدولة على معظمها. وقال يوم 23 يناير/كانون الثاني الماضي، مخاطباً وسائل الإعلام وجمعاً حاضراً من مسؤولي الحكومة وضباط الشرطة: "لماذا تصوّرون المصريين على أنَّهم مرعوبون على الأكل والشرب؟ هذا لا يصح". وأضاف: "لا أقول إنَّ ذلك (الوضع) صحيح، لكنَّ هذا ليس نهاية العالم".
غذاء الفقراء يصل لأسعار خانقة
لكن عدم قدرة رب الأسرة على توفير الغذاء لأطفاله ولأهل بيته في مصر يعتبر نهاية العالم في حقيقة الأمر. ورصد الموقع البريطاني عدداً من الحالات التي تُعبّر عن معاناة كثير من المصريين في هذا الصدد.
زبيدة (43 عاماً)، وهي أم لثلاثة أبناء، في حي إمبابة المكتظ بالسكان في القاهرة، تستيقظ عند الخامسة صباحاً كل خميس لتقف في الطابور أمام أحد مصانع منتجات الدجاج بالقرب منها، للحصول على ثلاثة كيلوات من هياكل الدجاج (المناطق الدهنية المشذبة، والأرجل، والرقبة، والأجنحة المكسورة) والعظام.
تستخدم زبيدة الهياكل لإعداد "دجاج مزيف" باستخدام الخضراوات والكثير من فتات الخبز، في حين تستخدم العظام لتحضير المرق (الشوربة). وهياكل الدجاج تلك كانت تعتبر في الأصل طعاماً للقطط.
قالت زبيدة لموقع Middle East Eye البريطاني: "اعتدتُ على شراء الدجاج المُجمَّد، الذي كان يقترب من نهاية صلاحيته بأرخص الأسعار، لكنَّني الآن لا أستطيع تحمُّل شرائه، غير أنَّ كل محلات الدواجن تبيع هياكل الدجاج". وأردفت: "الفقر يصيب الجميع"، مضيفةً أنَّه "ستكون هناك مذاقات لن تعرفها الأجيال الصغيرة بسبب الارتفاعات التي لا تُطاق في الأسعار".
لكن حتى هياكل الدجاج لم تسلم من زيادة الأسعار، إذ قالت بدرية، ربة منزل من حي دار السلام، غربي العاصمة المصرية، لموقع "عربي بوست"، إن سعر "كيلو الهياكل وصل إلى 50 جنيهاً، بعد أن كان بعشرة جنيهات فقط قبل عدة أشهر".
وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بلغ سعر كيلو الدجاج في يناير/كانون الثاني 2023، مستوى 72.26 جنيه (2.39 دولار)، بزيادة مذهلة قدرها 230% عن عام 2013. وشهد سعر الخبز زيادة بنسبة 460% في الفترة نفسها، وأصبحت 10 أرغفة من الخبز الآن تُكلِّف 14 جنيهاً (0.46 دولار)، بزيادة من جنيهين ونصف الجنيه عام 2013.
وفي محاولة للحفاظ على الهدوء- ربما خوفاً من الطريقة التي أسهم بها ارتفاع أسعار الغذاء في إشعال انتفاضة الربيع العربي في البلاد عام 2011- تُحاول الآلة الإعلامية الحكومية الترويجَ لبدائل للمنتجات الغذائية، التي يعتمد عليها معظم المصريين.
فعلى سبيل المثال، دعا مقدمو البرامج الحوارية الداعمة للحكومة، المصريين لأكل الدجاج بدلاً من اللحم، لكن حين ارتفعت أسعار الدجاج بشدة نصحوا الناس بأكل البيض، وبعدما ارتفعت أسعار البيض بقوة نصحوهم بأكل الفول، وهو من الأكلات الشعبية الأشهر في مصر، إلى جانب الكشري. لكن حتى الأكلات الشعبية، أو طعام الفقراء، لم تنجُ من مِقصلة الأسعار، فأصبحت حتى تلك الوجبات التي كانت منخفضة التكلفة مرتفعةَ الثمن.
نصائح "غذائية" تثير الجدل في مصر
ومن بين كل الاقتراحات التي طُرِحَت، كان المقترح الذي أثار معظم ردود الفعل القوية والتهكم، هو دعوة المعهد القومي للتغذية في وقتٍ سابق من هذا العام الناسَ للتحول إلى أكل أرجل الدجاج، باعتبارها مصدراً جيداً ورخيصاً للبروتين بدلاً من أجزاء الدجاجة الأخرى.
وأرجل الدجاج ليست جزءاً رائجاً في المطبخ المصري، وعادةً ما يُرمَى أو يُبَاع لمصانع منتجات الدجاج المُصنَّعة. مع ذلك، ارتفع سعر كيلو أرجل الدجاج بعد التصريح من 10 جنيهات إلى 20 جنيهاً (0.67 دولار) بسبب الإقبال الشعبي.علماً أنه قبل عام واحد فقط لم تكن أرجل الدجاج تُباع من الأساس.
ولاء (32 عاماً)، وهي موظفة في خدمة الغرف بأحد الفنادق، وعاملة تنظيف بدوام جزئي، قالت لموقع ميدل إيست آي، إنَّها بدأت تربية الأرانب كي تتمكَّن من تزويد أسرتها بـ"مذاق اللحم حتى لا ينسوه".
كانت ولاء تُعد أكياس الطعام لإخوتها، لكن نادراً ما تحتوي تلك الأكياس الآن على اللحم المشوي، أو الديك الرومي المدخن، أو حتى البيض، وتلتزم بساندويتشات الجبن الأبيض المُصنَّع أو المربى المُعدَّة بالمنزل، وكلاهما خيار رخيص.
وقالت: "اليوم الذي أضع لهم البيض (في أكياس الطعام) يكون يوماً سعيد الحظ، لأنَّ كل المواد الغذائية اليوم غالية الثمن، لكنَّهم مجرد أطفال يحتاجون إلى تغذية جيدة".
وأضافت قائلةً للموقع البريطاني: "مع أنَّ جزءاً من المصروفات المدرسية يذهب لما يُسمَّى بالوجبة المدرسية، فإنَّهم لا يحصلون عليها أبداً". وأردفت: "الدولة سعيدة بالجسور والمدن الجديدة، لكن ماذا فعلت للشعب الذي يعيش في المدن القديمة؟".
بالمثل، قالت منى (56 عاماً)، وهي مُدرِّسة دراسات اجتماعية من شبرا، للموقع البريطاني، إنَّها غيَّرت الكثير من عاداتها في الطبخ بسبب أسعار الأساسيات، مثل زيت الطهي والزبدة والسكر والشاي والدقيق.
فبدلاً من قلي الخضراوات أصبحت الآن تسلقها، أو تضعها في الفرن ثُمَّ تضيف إليها رشّة من الزيت. وقالت منى لموقع Middle East Eye، إنَّ المشكلة ليست مشكلة توافر المواد الغذائية، فهناك الكثير من المواد الغذائية المعروضة للبيع، "لكن لا أحد يملك المال للشراء".
الحكومة تُلقي باللوم على التجار الجشعين
مِثل الكثير من البلدان التي تعاني من أزمة تكلفة المعيشة، كانت الحكومة المصرية حريصةً على التقليل من مسؤوليتها في الأزمة، وتُلقي بدلاً من ذلك باللوم مباشرةً على الحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك على مضاربات "التجار الجشعين".
قال علاء عابد، العضو في البرلمان المصري: "تدعم الحكومة بالفعل الخبز لسبعين مليون مصري، وهو إجراء لا تقوم به دولة أخرى. المشكلة الأساسية هي التجار وانتهازيتهم للتربُّح من الأزمة".
لكن هذا التفسير الذي بات مكرراً لا يُقنع الجميع؛ إذ قال سعيد السنباطي، وهو مالك محل بقالة في الجيزة، "إنَّ تقلُّب الأسعار مشكلة يمكن للحكومة السيطرة عليها".
وتابع قائلاً للموقع البريطاني: "يمكن أن تشتري كيس أرز بعشرين جنيهاً ليلاً، وتجده في الصباح التالي بسعر 25 جنيهاً".
وأضاف: "لا يمكن أن نلوم التجار بشكل كامل؛ لأنَّ الأسعار الأصلية من المُوزِّع زادت بسبب تكاليف النقل والضرائب. إن كانت الحكومة تريد تنظيم الأسعار والقبض على المخالفين ستفعل، لكن الحكومة ترغب فقط في كبش فداء".
الخلاصة هنا هي أن مصر، التي كانت تعاني من الآثار المزدوجة للحرب الروسية الأوكرانية، وجائحة كوفيد 19 على الاقتصاد المعتمد على الاستيراد، تواجه أيضاً أزمة الديون المتفاقمة، ولا يبدو أن الحكومة تمتلك برنامجاً اقتصادياً واضحاً للتخفيف من الآثار الكارثية للأزمة على غالبية المصريين الذين يعانون في الحصول على الغذاء.
فقد شهد الدَّيْن المصري تزايداً حاداً خلال العقد الماضي، ووصل إلى مستويات قياسية بنهاية عام 2022، ومن المتوقع أن يستغرق التعافي سنوات، ويتحمل عشرات الملايين من المصريين العبء الأكبر، في ظل ارتفاع الأسعار بصورة جنونية.