منذ فترة بدأ أحد الأشخاص حملته بعنوان: "هل حضنت ابنتك اليوم؟"، يدعو فيها الأهل إلى الاهتمام ببناتهم، وأنهم يحتاجون إلى الوجود المعنوي والدعم، أكثر من الاحتياج إلى الوجود المادي. ثم شاركت إحدى الصديقات، وأضافت دعوة جديدة، وهي دعوة الأبناء إلى احتضان آبائهم، لا سيما عندما يكبرون في العمر، ويحتاجون إلى الرعاية والاهتمام.
ما جعلني أقف كثيراً أمام هذه الدعوات، وأفكر مليّاً فيما وصلنا إليه في حياتنا اليوم، لأنه مما أراه من هذه الدعوات، أننا نعاني فقراً في وجودها في حياتنا بالفعل. لم يتجاوز عدد سنوات وجودي في هذه الحياة 22 عاماً، وخلال هذه الفترة يمكنني أن أقول إننا بالتأكيد نعاني من وجود فجوة بيننا وبين الأهل، لا أتحدث عن نفسي، بل إنني أعتبر نفسي محظوظاً بأهلي، لكن أتحدث عن جيل بأكمله.
هذه الفجوة ربما تأتي من وجود اختلافات جذرية بيننا وبينهم، ولكنك إذا سألتهم، سيخبرونك بأنهم كانوا يعانون من نفس المشكلة مع أهلهم من قبل، إذاً هي ليست مسألة تقدم تكنولوجي ولا تغيّر معين هو الذي صنع ذلك، ولا أنكر بالطبع أن هذه الأشياء ساهمت، لكن أقول إنها ليست هي السبب الرئيسي.
إذاً السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا: ما السبب الرئيسي؟ من خلال المشاهدات اليومية في حياتنا، والطريقة التي يتم بها الزواج في مجتمعنا، ألاحظ أن الأمر يتم في إطار مادي بحت، الزوج يجب أن يملك وظيفة جيدة مما يمنحه راتباً متميزاً، وأموالاً كي يقوم بتجهيز عش الزوجية بأفضل الإمكانات، وأن يقوم بحفل زواج بتكلفة عالية، حتى لو كان سيفعل ذلك إرضاءً للمجتمع المحيط به ليس كما يحدث في بعض الأحيان.
أما الزوجة فيجب أن تملك شكلاً جميلاً، وأن تكون ماهرة في إعداد الطعام، وبالطبع تشارك زوجها في دفع تكاليف إعداد عش الزوجية. وهذا هو حال أغلب مجتمعنا اليوم. لا أقلل من هذه الأشياء أبداً، فأنا لست بصدد محاكمة أحد، لكنني أريد أن أقول من خلالها إن كل هذه العناصر هي عناصر ماديّة فقط، ويغيب الوجود المعنوي المتمثل في المشاعر، إلا من رحم ربي.
ولذلك قد تجد أن الأب يظن أن الشيء الهام هو أن يوفر لعائلته احتياجاتهم من المال، وتظن الأم أن الشيء الهام هو أن توفر لعائلتها احتياجاتهم من الطعام والشراب، وبالتالي نجد أن الأطفال يخرجون وهم في أشد الاحتياج لمشاعر مثل الحب والحنان والأمان. وبعضهم يظل فاقداً لهذه المشاعر، ولا يمكنه أن يمنحها لأهله عند حاجتهم لهم في الكبر.
الوجود المادي هام بالتأكيد، لكن في أغلب الوقت فإن الوجود المعنوي يكون أهم، عندما يقرر الأب أن يحتضن ابنته، فإن هذا قد يمنحها الأمان الذي تحتاجه، أكثر مما يفعله وجود مال العالم كله معها.
اهتمامك بوالديك عندما يكبران، وجلوسك معهما للحديث وإعطاؤهما جزءاً من وقتك، يمنحهما كل ما يحتاجون إليه من الحياة في هذه السن الكبيرة.
أقول، لعلنا لا نحتاج إلى الانتظار حتى يطلب الأبناء الأمان من أهلهم، ولا نحتاج إلى الانتظار حتى يكبر الوالدين للاهتمام بهما. هذه الأشياء يجب أن نجعلها أسلوب حياة بالنسبة لنا، جزء يومي أن تجلس العائلة سوية للحديث، وتبادل النقاش على المواضيع والمشاكل المختلفة، وأن يحرص كل طرف على أن يمنح الآخر الدعم الذي يحتاجه. هذا الوجود المعنوي هو ما يقوّي علاقة الأسرة ببعضها البعض، ويجعلهم جزءاً واحداً متماسكاً طوال الوقت، لا يشعر فيه أي طرف بأي فقد أو نقص أو احتياج.
"هل حضنت عائلتك اليوم؟"، إن كانت الإجابة لا، أرجوك لا تفكر كثيراً، افعل ذلك الآن.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.