أصدر الرئيس الروسي بوتين في 11 يناير/كانون الثاني الجاري قراراً مفاجئاً بتعيين أحد حمَلة الحقائب النووية الثلاث في روسيا بجوار بوتين ووزير الدفاع سيرغي شويغو، رئيس هيئة أركان الجيش الجنرال جراسيموف قائداً للعمليات العسكرية في أوكرانيا؛ ليتسلم بذلك مهام القيادة من جنرال آخر أدنى منه رتبة في السُّلم القيادي هو سيرغي سوروفيكين، والذي لم يلبث في منصبه سوى ثلاثة شهور.
وقد بررت موسكو القرار بأنه يأتي في ظل زيادة المهام التي يتعين إنجازها والحاجة إلى تفاعل أكبر بين مكونات الجيش. ومن ثَم بدأ جراسيموف في تغيير الموقف الروسي من الدفاع إلى الهجوم مجدداً، بالتزامن مع حديثه عن توظيف الغرب للحرب من أجل إخضاع روسيا.
من هو جراسيموف؟
انشغل الخبراء الأمريكيون بدراسة نشأة وشخصية جراسيموف وأفكاره العسكرية والخبرات التي اكتسبها خلال مسيرته المهنية، حتى إن الأكاديمي سيث جونز تناوله في كتاب مستقل بعنوان "ثلاثة رجال خطرين" رفقة قائد فيلق القدس قاسم سليماني ونائب رئيس اللجنة العسكرية المركزية الصينية تشانج يوشيا، وهو كتاب اعتمد فيه جونز على مقابلات مع عشرات المسؤولين العسكريين والدبلوماسيين والاستخباراتيين الأمريكيين، بالإضافة إلى وثائق مترجمة من اللغة الروسية.
بحسب جونز، وُلد فاليري جيراسيموف في 8 سبتمبر/أيلول 1955 بمدينة قازان على بعد 450 ميلاً شرق موسكو، وهي عاصمة تتارستان ذات الأغلبية المسلمة، وإحدى حواضر القبيلة الذهبية المغولية قبل أن يسيطر عليها الروس في عهد القياصرة، ويضموها لاحقاً إلى الاتحاد السوفييتي.
بعد غزو هتلر للاتحاد السوفييتي في عام 1941، نقل ستالين العديد من المصانع السوفييتية إلى قازان هرباً من آلة الحرب الألمانية، وتحولت بذلك إلى مركز صناعي عسكري، وتأثر جيراسيموف في طفولته بعمه الذي قاد سرية دبابات خلال الحرب العالمية الثانية، والتحق جيراسيموف في عمر 15 عاماً بالمدرسة العسكرية في قازان، واشتهر بين رفاقه بالنهم في قراءة كتب الاستراتيجيات والتكتيكات العسكرية، فضلاً عن اتصافه بقوة الشخصية، حتى إنه أرسل بطاقة معايدة لأحد أكثر المعلمين قسوة في المدرسة خلال الاحتفال بيوم المرأة العالمي من باب السخرية منه.
في عام 1977، تخرج جيراسيموف في مدرسة قيادة الدبابات العليا في قازان، وأُرسل إلى بولندا حيث عمل رئيساً لأركان كتيبة دبابات، وشهد هناك أجواء التوتر بين "حركة التضامن" المدعومة غربياً في مواجهة الحكومة البولندية المدعومة من موسكو في أول تجربة صراع يحضرها عن قرب.
بعد بولندا، انتقل جيراسيموف إلى المنطقة الشرقية العسكرية الروسية قرب اليابان على بعد أكثر من 5000 ميل من موسكو، ومنها التحق في عام 1984 لمدة 3 سنوات بأكاديمية مالينوفسكي للقوات المدرعة المختصة بتدريب جنود الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو لقيادة الوحدات المدرعة والميكانيكية، ونجا بذلك من الانخراط في المحرقة السوفييتية بأفغانستان.
عقب تخرجه في أكاديمية مالينوفسكي خدم في إستونيا؛ حيث شهد هناك تفكك الاتحاد السوفييتي، وترقى في عام 1993 ليصبح قائداً للفرقة الروسية في إستونيا، ثم انسحب رفقة قواته عائداً إلى روسيا في ذات العام بعد استقلال إستونيا ورغبتها بخروج القوات الروسية، وحتى ذلك الحين لم يخُض جيراسيموف قتالاً حقيقياً.
أول قتال فعلي في الشيشان
مع اندلاع حرب الشيشان الأولى (1994-1996)، أُرسل جيراسيموف ضمن القوات الروسية المتجهة لقمع استقلال الدولة الوليدة. وشاهد بنفسه هناك تخبط أداء الجيش الروسي، وانتشار إدمان الجنود للخمور والمخدرات، وضعف تدريبهم، واضطراب القيادة.
اشتهر جيراسيموف بين رفاقه بأنه أكثرهم حزماً، وقد شغل منصب رئيس أركان الجيش الثامن والخمسين بمنطقة شمال القوقاز العسكرية في عام 2000 الذي شهد اندلاع الجولة الثانية من الحرب الشيشانية. واشتهر جيراسيموف بواقعة توقيفه للكولونيل بودانوف الذي اغتصب وقتل فتاة شيشانية، وبذلك خالف جيراسيموف العرف السائد آنذاك في الجيش الروسي بغض الطرف عن انتهاكات ضباط وجنوده ضد المدنيين في ساحات الحرب، وأثارت تلك القضية ضجة انتهت بسجن بودانوف 10 سنوات قبل أن يُقتل عقب خروجه من السجن على يد مسلحين شيشان.
عاصر جيراسيموف توسع الناتو في شرق أوروبا، واعتبر أن الهدف منه هو تقويض قوة روسيا ودفعها للانكفاء على الداخل، ثم شاهد الغزو الأمريكي لأفغانستان قرب مناطق النفوذ الروسية في أسيا الوسطى، ثم غزو العراق في عام 2003 وإسقاط رئيس صديق من موسكو لإقامة نظام بديل موالٍ لواشنطن، وخلال ذلك شغل مناصب قيادية في منطقتي لينينغراد وموسكو العسكريتين.
بحلول عام 2011 أصبح جراسيموف نائب رئيس الأركان العامة للقوات المسلحة وشاهد سقوط حليف آخر لموسكو في ليبيا في ذات العام. وانصب اهتمامه على دراسة الأساليب الأمريكية في توظيف مزيج من الأدوات العسكرية والمدنية لإسقاط الأنظمة المناهضة لها، وكيفية توظيف ذلك في تطوير نمط عمل الجيش الروسي.
جراسيموف رئيساً للأركان
أصبح جراسيموف رئيساً أركان الجيش الروسي في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 عقب ثلاثة أيام من تعيين سيرغي شويغو وزيراً للدفاع، وبذلك تولى الإشراف على عمل المخابرات العسكرية الروسية (GRU) التابعة لرئاسة الأركان، وبدأ يشير إلى أن موسكو بحاجة لإعادة تأكيد العظمة الروسية من خلال الوسائل العسكرية.
عقب فرار الرئيس الأوكراني الموالي لموسكو يانوكوفيتش من كييف في عام 2014، اعتبرت القيادة الروسية الثورة في أوكرانيا بمثابة مؤامرة غربية، وقرر بوتين السيطرة على شبه جزيرة القرم ذات الأغلبية السكانية الروسية، فأنشأ جراسيموف قيادة العمليات الخاصة الروسية على غرار نظيرتها الأمريكية، وأوكل لها مهمة السيطرة على القرم حيث تنكرت قواته في زي مدني، ونجحت خلال أسبوعين من شهر فبراير/شباط 2014 في تنفيذ المهمة عبر إنزالات جوية وعمليات تسلل ليلية دون خوض اشتباكات نظامية.
بداية من عام 2014 بدأ هجوم موسكو المضاد، فأشرف الجيش الروسي على إشعال احتجاجات شعبية في شرق أوكرانيا في مارس/آذار 2014، استولى خلالها المتظاهرون على مباني الإدارة المحلية في دونيتسك ولوغانسك مطالبين بإجراء استفتاء شعبي للانضمام إلى روسيا، واستمر القتال غير النظامي ضد الجيش الأوكراني نحو عام قبل أن يتوقف إثر هدنة في فبراير 2015 برعاية غربية. لكن ظلت المخابرات العسكرية الروسية (GRU) تعمل على زعزعة الاستقرار في شرق أوكرانيا عبر استخدام أساليب الحرب غير النظامية.
انطلق الجيش الروسي بحلول عام 2015 من القاعدة البحرية في سيفستابول بالقرم على ساحل البحر الأسود إلى سوريا لدعم نظام بشار الأسد الذي أصبح يسيطر على 10% فقط من الأراضي السورية. ووقعت موسكو مع دمشق اتفاقية تتيح لها استخدام قاعدة حميميم الجوية قرب اللاذقية فضلاً عن القاعدة البحرية في طرطوس، وتجنبت موسكو تكرار النهج السوفييتي في حرب أفغانستان (1979-1989) الذي اعتمد على حشد أكثر من 110 آلاف جندي في القتال الذي تحول إلى حرب استنزاف.
اقتبس جيراسيموف في سوريا من النموذج الأمريكي خفيف البصمة في ليبيا عام 2011، ومن نموذج التحالف الدولي في مواجهة تنظيم داعش عام 2014، فاعتمد على قوات روسية قليلة العدد توفر مزيجاً من أدوات القوة الجوية والمناورة، بحيث تختص القوات السورية والإيرانية وحزب الله اللبناني والمتعاقدون من قوات فاغنر بالقتال البري بينما يوفر الجيش الروسي الغطاء الجوي والتخطيط والمشورة. وبذلك مزج بين مهام القوات النظامية والجهات الفاعلة غير النظامية لتحقيق الأهداف السياسية والاستراتيجية، وهو ما اشتهر باسم "عقيدة جيراسيموف".
خلال السنوات التالية، اتهمت واشنطن المخابرات العسكرية الروسية بتقديم أموال لحركة طالبان دعماً لها في قتال قوات الناتو في أفغانستان، وبالمسؤولية عن تسميم تاجر الأسلحة البلغاري إميليان غيبريف عام 2015، وتسميم ضابط المخابرات الروسي السابق سيرغي سكريبال في لندن عام 2018، والإشراف على أنشطة قوات فاغنر في ليبيا وإفريقيا الوسطى.
المهمة الأخيرة
خطوة تعيين جيراسيموف قائداً للعملية العسكرية في أوكرانيا لا تعني أنها ترقية له، فهو تولى منصباً قاده خلال العام الماضي بعض مرؤوسيه، إنما تشير إلى أن بوتين يريد قائداً حازماً يشرف على المعركة، ويقلل من الخلافات بين الجيش الروسي وقوات فاغنر، ولديه السلطة على حشد ما يلزم من الموارد العسكرية لتحقيق إنجازات ميدانية، وبالأخص مع توجه الغرب بتزويد أوكرانيا بأسلحة متطورة مثل أنظمة باتريوت ودبابات ليوبارد.
هنا أصبح جيراسيموف في منعطف تاريخي بمسيرته المهنية التي بدأها في بولندا، فإما أن ينجح في مهمته، ويتحول إلى أحد أبرز جنرالات روسيا المعاصرين، وإما سينضم إلى مسيرة ضحايا الحرب في أوكرانيا، ووقتها سيصعب على بوتين أن يجد قائداً بديلاً بحجمه. ويبدو أن الخيار الأخير هو الأرجح في ظل الدعم الغربي المتواصل لأوكرانيا، وانسداد آفاق الانتصار الميداني بأسلحة تقليدية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.