كلما عُقدت لقاءات وزيارات بين المسؤولين والقادة الجزائريين والفرنسيين، صدرت بيانات إعلامية ورسمية عنها، لتوضح الأهداف وتمنع اللغط.
إلا أن ذلك لا يمنع صدور بعض القراءات المتصيّدة، والتي تضع للقاءات الرسمية أهدافاً غير الأهداف المعلنة.
أصحاب تلك القراءات ينسجون من خيالهم سيناريوهات ليس لها في الواقع دليل، ولا يوجد ما يؤكدها من مؤشرات أو معلومات.
رئيس الأركان الجزائري في باريس للمرة الأولى منذ 17 عاماً
العلاقة الجزائرية- الفرنسية علاقة حساسة جداً، بحكم التاريخ الاستعماري والثورة التحريرية، وما بين الجزائر وفرنسا من مشاكل على مستوى الذاكرة؛ ما يجعل الكثير ينشغل ويحاول أن يفهم ما يجري بين البلدين بطريقته وخلفيته.
في هذا الإطار المتشابك، تأتي زيارة رئيس الأركان للجيش الجزائري، الفريق أول سعيد شنقريحة لفرنسا، وهي الأولى من نوعها منذ 17 عاماً، عندما زار القائد السابق لقيادة الأركان الجزائري "قايد صالح" فرنسا في عام 2006.
لكن زيارة الأخير كان لها ظروفها وسياقها، ولم تكن رسمية بمعنى الكلمة، أما الزيارة الحالية لشنقريحة فتتسم بالرسمية من حيث الشكل والإطار والسياق، فلقد جاءت بدعوة رسمية من نظيره الفريق أول "تييري بروكار"، ومثل هذه الزيارة معتادة بين قيادات الجيوش في العالم.
وقد سبق لقائد الأركان الجزائري زيارة العديد من الدول في إطار العلاقات الدولية بين الجيوش، وهي من الأدوار العسكرية والدبلوماسية المكلف بها، كما أن هناك تبادل للوفود بمستويات مختلفة بين الجزائر وكثير من الدول.
وقد سبق أن قام الرئيس الفرنسي "ماكرون" بزيارة الجزائر العام الماضي، وعقد الرئيسان الفرنسي والجزائري لقاء مشتركاً بحضور ومشاركة قيادات عليا من الجيش الجزائري والجيش الفرنسي التي كانت مرافقة للرئيس الفرنسي؛ حيث تم التشاور حول العديد من القضايا الأمنية والعسكرية المشتركة، واتفق الطرفان على استمرار التنسيق والتشاور والتعاون بينهما في الجانبين الأمني والعسكري.
الانسحاب الفرنسي من دول الساحل الإفريقي
الآن، تبدو فرنسا مجبرة على الانسحاب من الساحل الإفريقي بشكل كامل، حيث طلبت دولة الساحل الإفريقي "بوركينا فاسو" رسمياً من فرنسا سحب جيشها خلال شهر، وكذلك فعلت دول مالي والنيجر والتشاد، كما تحتج دولتا السنغال وكوت ديفوار على التواجد الفرنسي في أراضيهما، وهما الواقعتان في غرب إفريقيا، ولهما أهميتهما وإطلالتهما على المحيط الأطلسي.
كما اضطرت فرنسا إلى إنهاء عملية "برخان" في دول الساحل الإفريقي التي ادعت باريس أن هدفها "مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة"، كما انسحبت بعض الوحدات العسكرية الأوروبية من إفريقيا ولم يتبق مع الوحدات الفرنسية إلا الوحدات العسكرية السويدية والدنماركية.
وللعلم، أغلقت الجزائر مجالها الجوي على الطيران العسكري الفرنسي منذ فترة، وفرنسا حالياً منشغلة وقلقة جداً من عمليات الانسحاب وتبعاتها التي قد تصبح عالية الكلفة. تخشى باريس من انسحاب فوضوي، وغير مُرتب، على غرار انسحاب الجيش الأمريكي من أفغانستان، لأن حينها ستكون فاتورة الانسحاب باهظة، والعواقب غير مأمونة؛ مما سيسبب أضراراً بالغة للمصالح الفرنسية.
حلول إفريقية- إفريقية لأزمات القارة
المقاربة الجزائرية في أزمات الساحل كانت هي الأقرب للواقع لأن الحلول ستكون "إفريقية- إفريقية" وهذا ما جعل دولة مالي تعقد اتفاقية تعاون مع الجزائر مؤخراً تفتح بموجبها حدودها للجيش الجزائري لملاحقة وتعقب "فلول الإرهاب" على التراب المالي؛ حيث يسمح الدستور الجزائري الجديد للجيش الجزائري، ولقوات مكافحة الإرهاب بهذا الدور.
فرنسا تريد أن تنسحب بأقل الأضرار، ولكنها سبّبت بتواجد جيشها وبعض الجيوش الأوروبية في إطار عمليات "برخان" أضراراً لا يُستهان بها لهذه الدول. على الصعيد العسكري ستترك فرنسا جيوشاً إفريقية في وضعية مهلهلة من حيث العدة والإعداد والكفاءة والإمكانات والقدرات.
وكذلك أضرار سياسية، وستكون سبباً في إحداث خلخلة في استقرار أنظمة الحكم الموجودة في الدول المنسحبة منها والذي سينتج عنها كثرة الانقلابات والتدخلات، بالإضافة إلى أضرار اقتصادية واجتماعية خطيرة حيث كان النهب المنظم للثروات طيلة سنوات من قبل بعض الشركات الفرنسية في العديد من القطاعات الاقتصادية وبالأخص منها التعدينية.
فعلى سبيل المثال، دولة مالي بها أكثر من 36 منجم ذهب، وليس لديها احتياطي من الذهب، وفرنسا ليس بها منجم ذهب واحد، ولها ما يقارب "2436.63" طن بما يعادل 136 مليار دولار.
تعاني فرنسا عديد المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والطاقوية بالإضافة لتأثير الحرب الأوكرانية المستمر عليها، كما أن الجيوش الفرنسية في وضعية في غاية الصعوبة، والجزائر في المقابل يتزايد حضورها الإفريقي وبالأخص في الساحل الإفريقي، وكثير من هذه الدول ترتكز على الأدوار الجزائرية في تمثيل مصالح بعض الدول الإفريقية وتوفير ما يساعدها على المرور من هذه الوضعية الحرجة المتمثلة بالانسحاب العسكري الفرنسي منها، وفي المقابل تريد فرنسا انسحاباً بأقل تكلفة على كل المستويات.
تأمل الجزائر أن يكون ذلك في صالح دول الساحل بدرجة أولى، ومن هنا يمكن أن نفهم جيداً سياق اللقاء بين قادة أركان الجيشين الفرنسي والجزائري.
في هذا الصدد، تحدثت بعض الأوساط أن الجيش الجزائري عن طريق قائده ربما سيعقد صفقات لشراء الأسلحة من فرنسا، لكن الجميع يعلم أن الجيش الجزائري تسليحه روسي بالدرجة الأولى.
هذه الصلاحيات في العادة ليست في يد قائد الأركان وحده، فمن يعقد صفقات الأسلحة الجهات المختصة في المؤسسة العسكرية حيث تقوم لهذا الدور، وفي الغالب عندما يزور مسؤول رفيع المستوى دولة أخرى يحمل رسالة من رئيسه إلى رئيس الدولة المستضيفة وهذه من تقاليد الزيارات الدبلوماسية.
فقائد الأركان ليس من صلاحياته إعداد زيارة للرئيس، فذلك من صلاحية ومهام جهات أخرى مثل مؤسستي الرئاسة والخارجية.
ولكن ينحسر دور القيادات العسكرية في إعداد ملفات عن العلاقات العسكرية والأمنية والتعاون والتنسيق؛ لذلك فإن الجزائر بمختلف مؤسساتها تتجه نحو علاقات متوازنة وندية وأكثر عقلانية وموضوعية بينها وبين فرنسا؛ وهذا هو الجديد الذي تحمله الجزائر الحالية وتعمل عليه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.