في الوقت الذي تجتمع فيه الأطراف العالمية في دافوس بسويسرا، هناك دولة واحدة يُلحَظ غيابها، إن لم يكن يمثل مفاجأة. المسؤولون الروس غير مرغوب فيهم فعلياً في المنتدى الاقتصادي العالمي في المدينة الجبلية السويسرية، بينما تلقي شخصيات أوكرانية مثل السيدة الأولى أولينا زيلينسكا الكلمات.
لعل الرمزية واضحة من وجهة نظر غربية، حيث أدى الغزو الروسي لأوكرانيا قبل 11 شهراً على ما يبدو إلى أن يصبح الرئيس فلاديمير بوتين وحلفاؤه غير مرغوب بهم مع هذه "النخبة". وتعرضت روسيا للعقوبات وضوابط التصدير التي تسعى إلى عزلها عن الاقتصاد العالمي، باستخدام نوع من القوة المنهجية لعرقلة جهود الحرب التي يبذلها الكرملين ومعاقبة حلفاء بوتين.
ولكن على أرض الواقع، هل نجحت هذه العقوبات بالفعل في صد روسيا أو إنهاء حربها على أوكرانيا؟
بوتين: الاقتصاد الروسي تجاوز التوقعات
تقول صحيفة Washington Post الأمريكية، بعيداً عن الأطراف الموجودة في دافوس، استخدم بوتين الثلاثاء، 17 يناير/كانون الثاني 2023، بيانات حكومية جديدة لرسم صورة "وردية" للاقتصاد الروسي خلال اجتماع افتراضي حول الاقتصاد: "تبين أن الديناميكيات الفعلية للاقتصاد أفضل من العديد من توقعات الخبراء".
نقلاً عن بيانات من وزارة التنمية الاقتصادية، قال بوتين إن الناتج المحلي الإجمالي لروسيا قد انخفض بين يناير/كانون الثاني ونوفمبر/تشرين الثاني 2022، ولكن بنسبة 2.1% فقط. وأشار إلى أن "بعض خبرائنا، ناهيك عن الخبراء الأجانب، توقعوا انخفاضاً بنسبة 10 و15 وحتى 20%".
وقال الرئيس الروسي إن الحسابات الأولية تشير إلى أن الاقتصاد الروسي تقلص بنسبة 2.5% خلال عام 2022 بأكمله -وهو أفضل بكثير من الانكماش بنسبة 33% في الاقتصاد الأوكراني خلال العام الماضي. وأضاف بوتين: "مهمتنا هي دعم وتعزيز هذا الاتجاه الإيجابي".
حجم تأثير العقوبات الغربية أقل حدة مما كان متوقعاً
تقول الصحيفة الأمريكية إنه بالنسبة للكثيرين خارج روسيا، فإن هذه الأرقام محيرة. كان حجم قوة النيران الاقتصادية الموجهة إلى روسيا منذ 24 فبراير/شباط 2022 غير مسبوق بالنسبة لدولة كبيرة، حيث حُظِرَت البنوك في البلاد من نظام جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (SWIFT)، ومقره بلجيكا، والمستخدم في المعاملات الدولية والعقوبات المفروضة على البنك المركزي.
لكن يبدو أن البيانات الروسية تشير إلى أن حجم التأثير كان أقل حدة مما توقعه الكثيرون. ورغم أن بوتين قد لا يكون في دافوس، فإن روسيا ليست معزولة تماماً عن العالم أيضاً. ارتفع ميزان الحساب الجاري للبلد -وهو رقم قياسي فعلي لتجارتها مع بقية العالم- خلال العام الماضي بطريقة كان من شأنها أن تعني عاماً مزدهراً في أي وقت عادي.
قد تكون البيانات الروسية معيبة بالطبع. لكن العديد ممن يعيشون في روسيا أو يزورونها أشاروا إلى أن الحياة تستمر تقريباً كالمعتاد، حتى لو حلَّت سلسلة محلية محل ماكدونالدز مثلاً، وتتطلب مشتريات السلع الفاخرة الغربية شبكة من الأجانب المشترين.
ظروف اقتصادية لا تشابه ما وقع بعد انهيار الاتحاد السوفييتي
كتب ألكسندر تيتوف، مهاجر روسي ومحاضر في جامعة كوينز بلفاست، لموقع The Conversation الأمريكية بعد عودته إلى وطنه مؤخراً، قائلاً: "إذا كانت تلك أزمةً لروسيا -وهي كذلك بالفعل- فهي لا تشبه بأي قدر الاضطرابات التي سادت في مطلع التسعينيات، حين كانت الدولة والمجتمع والاقتصاد ينهارون في نفس الوقت".
وكتب تيتوف أنه كان هناك اضطراب، لكنه كان خفيفاً حتى مقارنة بما شوهد في وقت مبكر من الجائحة. وقال: "لا يوجد نقص، حتى في السلع الغربية مثل الويسكي -أرفف المتاجر ممتلئة بالكامل"، حسب تعبيره.
لكن هل هذا يعني أن العقوبات لم تنجح؟ الإجابة المختصرة هي لا -لكنها أعقد من ذلك، تقول الصحيفة الأمريكية.
وتضيف "واشنطن بوست" أن الأهم من ذلك أن نتذكر أن العقوبات الغربية وضوابط التصدير ليست مصممة بشكل أساسي لإبقاء زجاجات جوني ووكر بعيداً عن أحد أرفف متاجر سان بطرسبورغ، فقد صُمِّمَت العقوبات لعرقلة المجهود الحربي الروسي في أوكرانيا.
هل يعيق تحديد سقف للأسعار صادرات الطاقة الروسية؟
الكثير من العبء الأكبر للعقوبات قد خففته صادرات روسيا من الطاقة التي لا تزال هائلة. لكن بينما حاول بوتين استخدام هذه الصادرات للضغط على أوروبا ومعاقبتهم، تضاءلت قوتهم. يبدو أن تحديد سقف جديد للأسعار سيدخل حيز التنفيذ قريباً سيعوق الصادرات الروسية أكثر.
وهذا يعني دخلاً أقل للدولة الروسية في المستقبل، حتى مع ارتفاع نفقاتها بسبب غزو أوكرانيا. سجلت موسكو عجزاً في الميزانية بنحو 47.3 مليار دولار في عام 2022، وفقاً للإعلانات الرسمية -بنسبة 2.3% تقريباً من الناتج المحلي الإجمالي، وهي واحدة من أسوأ السنوات المالية في تاريخ البلاد.
نعم، هذا عجز أقل من الولايات المتحدة. لكن ليس لدى روسيا عملة مرغوبة عالمياً مثل الدولار الأمريكي، لذلك لا يمكنها فقط طباعة المزيد من الأموال دون عواقب. وليس لدى روسيا قدر كبير من النفوذ في الاقتصاد العالمي -بخلاف القوة المتناقصة التي يوفرها النفط والغاز.
ماذا يمكن أن يحدث للاقتصاد الروسي على المدى الطويل؟
على المدى الطويل، لا تبدو الأمور وردية بالنسبة للاقتصاد الروسي. بوتين محق في أن العديد من الأمور المتوقعة كانت لتصبح أسوأ كثيراً في العام 2022 -قال بعض الاقتصاديين لمجلة Today's WorldView في مارس/آذار إنهم يخشون أن ينهار الاقتصاد الروسي، مما يتسبب في البؤس للمدنيين العاديين خارج أسوار الكرملين وعواقب عالمية غير معروفة.
لكن بوتين مخطئ إذا افترض أن "الاتجاه الإيجابي" يمكن أن يستمر بسهولة في العام المقبل كما تقول "واشنطن بوست". فمن المرجح أن يسير المسار في الاتجاه الآخر. من المحتمل جداً أن تكون العقوبات أشد قسوة، وستنخفض عائدات النفط والغاز أكثر، وسيتعمق العجز، وستمتد موارد ساحة المعركة الروسية إلى نقطة الانهيار.
ستعتمد سرعة حدوث ذلك على المثابرة من جانب الغرب، حيث ساعد التراخي في تطبيق القانون والتهرب المتعمد روسيا خلال العام الماضي. ربما يكون هذا هو السبب في وجود المسؤولين الأوكرانيين وأنصارهم في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، حيث يضغطون ضد اللامبالاة من طرف الحلفاء. قد لا يتقرَّر مصير الاقتصاد الروسي على موسكو المُحاصَرة تحت سيطرة بوتين، ولا حتى في ساحة المعركة في دونباس، ولكن على المقبلات والكوكتيلات في دافوس.