في العالم الحديث، تعدّ حرية الملاحة البحرية وسيولة البضائع من المُسلَّمات، بل وتنصح المؤسسات الدولية- المعنية بعمليات الإصلاح الاقتصادي- الدولَ النامية بتلك الوصفة، إضافةً إلى التركيز على ما يُشبه الثورة الصناعية؛ فمن وجهة نظرها لا إصلاح من دون حرية كاملة للاستيراد والتصدير، فهي وسيلة مجرّبة لتحقيق النمو السريع والنهضة الشاملة.
وحرية الملاحة هي مبدأ في القانون الدولي العرفي، والذي منفصلاً عن الاستثناءات المُعطاة في القانون الدولي، يسمح للسفن التي ترفع علم أي دولة ذات سيادة بالإبحار من دون تدخل أي دولة أخرى. وهذا الحق مدوّن حالياً كفقرة رقم 87(1) في معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982.
لكن، كيف كان شكل الملاحة البحرية سابقاً؟ وهل كانت النهضة الاقتصادية الإنجليزية في القرن السابع عشر والثامن عشر تخضع للمبدأ نفسه والتدابير نفسها؟
الحقبة التيودرية.. بداية الثورة الصناعية
في كتابه "خطة للتجارة الإنجليزية"، يسرد دانيال ديفو- رجل الأعمال الشهير وكاتب الروايات والموظف الحكومي البارز آنذاك- كيف استخدم الملوك التيودريون، مثل هنري السابع وإليزابيث الأولى، وسائلَ عديدة من أجل النهضة بصناعة الملابس الإنجليزية، قبل فترة الثورة الصناعية، نذكر منها:
- مبدأ الحماية: يقوم على توفير الظروف والأدوات اللازمة لضمان التفوق للصناعات المحلية، وخاصة صناعة الصوف. ففي ظلّ سيطرة الدول الخفيضة (بلجيكا وهولندا) على تلك الصناعة لعقود، كان من غير المعقول أن تصمد البضائع الإنجليزية قليلة الجودة في منافسة مع منتجات تفوقها في جودة المنتج ومعقولية الثمن، من دون تدخلٍ حكومي.
- الدعم: ويتم ذلك من خلال تخصيص جزء من موارد الحكومة للإنفاق على الصناعة المحلية، والدعاية اللازمة لتسويقها.
- توزيع حقوق الاحتكار: بإسناد أمر الصناعة لأفرادٍ معينين، على أن تضمن الحكومة ألا ينازعها منتج أجنبي للسيطرة على السوق المحلي.
- التجسس الصناعي: من خلال استقدام أحدث الآلات، والأيدي العاملة المدربة، من الدول المتفوقة في هذا المجال. ويتم ذلك أحياناً بالطرق الرسمية، وبالسرقة إن لزم الأمر.
- زيادة الضرائب المفروضة على تصدير الصوف الخام، بل ومنع تصديره بالكامل، ولو بشكلٍ مؤقت.
شرع هنري السابع في تنفيذ تلك الإجراءات وغيرها في أواخر القرن الخامس عشر، وهو يضع نصب عينيه إجراء ما يمكن أن يشبه "الثورة الصناعية"، ولو أن ذلك كان قبل الثورة الصناعية الفعلية بسنوات؛ أي تحويل إنجلترا من بلدٍ يُصدّر الصوف الخام إلى الدول الأوروبية، فيجني مكسباً معقولاً، إلى منافسٍ حقيقي لمنتجي الملابس الأوروبيين الذين يظفرون بأرباحٍ هائلة.
وفي العام 1489 حظر تصدير الملابس غير المكتملة، فيما عدا القطع الرديئة، بهدف التشجيع على مزيد من المعالجة بحق الصوف الخام في إنجلترا، والتزم نجله هنري الثامن بالقرار ذاته، وطبّقه في أعوام 1512 و1513 و1536.
"خطة الثورة الصناعية" التي بدأها هنري السابع استغرقت أعواماً لتؤتي أُكلها، لكن ورغم أنه لم يكن متسرعاً في قراراته، ولم يرفع الرسوم المفروضة على تصدير الصوف الخام إلا بعد التأكّد من قدرة الصناعة المحلية على إنتاج ملابس بالكمية والجودة نفسها؛ فإن بريطانيا لم تفرض حظراً كاملاً على صادرات الصوف إلا في العام 1587.
كان ذلك في عهد الملكة إليزابيث الأولى؛ وعندها فقط تضرّر المنافسون الأوروبيون ضرراً جسيماً، بسبب حرمانهم من المواد الخام، وتحققت رؤية هنري السابع "التصنيع بديلاً للاستيراد" كما أرادها، مع انطلاق الثورة الصناعية.
من يملك البحار؟
شهد القرن الخامس عشر نزاعاً حاداً من أجل السيطرة على البحار، نزاعٌ استمرّ لقرون، وقد دارت رحاه بين البرتغال وإسبانيا من جهة، والتاج البريطاني -بقيادة الملكة اليزابيث- من جهةٍ أخرى.
كان الإسبان والبرتغاليون يرون بأحقيتهم في السيطرة على حركة الملاحة في المحيطات، مدّعين أنهم الأسبق في اكتشافها، ما يقيّد حركات التجارة في تلك المحيطات، بل ويبيح لسفن الأسطول التابع للدولتين السطو على السفن المحايدة المارّة في تلك المحيطات.
وربما كانت الحجة آنذاك أن البضائع التي تحملها هذه السفن سوف تصل إلى دولٍ معادية.
إنجلترا من جانبها أرادت حرية أكبر في الحركة البحرية، والوصول إلى مستعمراتها التي تُعتبر أسواقاً سهلة ومُربحة لمنتجاتها.. فكانت حرباً مستعِرةً على السيادة.
في عام 1613 كتب الدبلوماسي الهولندي الشهير هوجو جروتوس كتاباً عن السياسة، اعتُبر عظيماً، وسيتحوّل إلى مرجعٍ أساسي لاحقاً.
خصّص جروتوس في الكتاب جزءاً للحديث عن السيادة البحرية، وأوضح بدقة الفرق بين السواحل المحلية التي تستطيع الدول أن تتحكم فيها، والمياه الدولية التي لا بدّ ألا تخضع لسيطرة دولة دون الأخرى.
جروتوس أراد لبلاده حرية الحركة البحرية في المحيط الهندي والبحار الشرقية، خاصة مع إنشاء شركة الهند الشرقية الهولندية لمنافسة البريطانيين، في أوائل القرن السادس عشر.
ومع نهاية القرن السابع عشر أصبح التفوق البحري الإنجليزي الكاسح على المنافسَيْن البرتغالي والإسباني ظاهراً. وبامتلاك إنجلترا أسطولاً قوياً عملاقاً أصبحت المطالبات البريطانية بالتمسك بأطروحة جروتوس مبررة.
وللمفارقة، فإن بريطانيا استعانت بطرحٍ دبلوماسي هولندي حتى تستطيع مزاحمة الهولنديين في الهند. وقد تابع الإنجليز بقلق أرباح شركة الهند الشرقية الإنجليزية، وهم يحاولون حسم المنافسة لصالحها.
روبرت وولوبول
كان روبرت وولبول ربيب السياسة منذ صغره. فقد تقلد منصبه في مجلس العموم البريطاني خلفاً لوالده بعد وفاته، وشغل منصب مدير الرواتب ثم وزير الخزانة.
ورغم ما طاله من تهمٍ بالفساد، أودت به حبيساً بعيداً عن السياسة، فإن قدراته الفائقة على المناظرة، وإنشاء العلاقات مع البيت الحاكم، إضافةً إلى توزيع المناصب الحكومية والألقاب الأرستقراطية على أصدقائه ومؤيديه، أعادته بسرعة إلى الساحة ليتقلد منصبه في العام 1721، ويكون أول رئيس وزراء لبريطانيا العظمى.
استطاع وولبول تعزيز الجدارة الائتمانية لحكومته، من خلال إنشاء "صندوق الاحتياطي" المخصص لسداد الديون، أثناء عمله وزيراً للخزانة، وأقرّ سياسات إصلاحية اقتصادية سهّلت لبريطانيا استكمال رؤية هنري السابع والتوسّع فيها.
وقد استفاد لتحقيق ذلك من السيطرة البريطانية الاستعمارية على العديد من الدول والمناطق، وقدرته على التلاعب بقانون "الإبحار"، وهو القانون الذي ينصّ على أن أي تجارة تتم مع بريطانيا لا بدّ أن تتم بواسطة سفن إنجليزية؛ كان التفافاً ذكياً على الصراع القانوني الدائر آنذاك حول السيادة البحرية.
التزم وولبول بإجراءات تزيد العائدات الحكومية، وتُعزز القدرات البريطانية على التصنيع. كان ذلك قبل الثورة الصناعية الفعلية. وفي خطابه أمام البرلمان عام 1721، صرّح قائلاً: "إن من الواضح أنه ما من شيء أكثر إسهاماً في تحسين حال الجماهير، من تصدير السلع المصنعة، واستيراد المواد الخام الأجنبية".
مرة أخرى رفع وولبول التعريفات الجمركية على السلع المصنعة المستوردة إلى مستوياتٍ قياسية، وخفض مثيلاتها المفروضة على المواد الخام المستوردة- أو ألغاها كلياً- وأخيراً أمرَ بوضع قواعد للتحكم في جودة المنتجات المصنعة، لا سيما النسيج، منعاً للإضرار بسمعة المنتجات البريطانية في الأسواق الأجنبية. قطع الرجل أشواطاً في التفوق على أقرانه.
نجاح سياسات وولبول هو ما سمح لها بالاستمرار حتى منتصف القرن التاسع عشر، في ذروة الثورة الصناعية؛ وفي عام 1820 كان متوسط التعريفة الجمركية البريطانية، المفروضة على الواردات المصنعة، يصل إلى ما بين 45 و55%، مقارنة بـ6 و8% في الدول الخفيضة، و8 و12% في ألمانيا وسويسرا، ونحو 20% في فرنسا.
منع وولبول إنشاء مصانع لفّ وتقطيع الحديد الصلب في أمريكا (بوصفها مستعمرة بريطانية في ذلك الحين)؛ ما أرغم الأمريكيين على الاكتفاء بصناعات أخرى أقلّ تعقيداً وربحاً، مثل الحديد الغفل وحديد التسليح. وهو السلوك الذي نفذه تجاه باقي المستعمرات، فمنع تماماً تصدير أي منتجٍ نهائي منافس آتٍ من المستعمرات في الداخل والخارج.
كانت ثورة صناعية لا مثيل لها؛ وقدّم وولبول دعماً لصادرات المواد الخام الآتية من المستعمرات الأمريكية، مثل القنب والخشب، وألغى ضرائب الاستيراد على جميع المواد الخام الأمريكية لمصلحة بريطانيا. وبهذا اضطرت المستعمرات إلى هجر أي صناعة تطلب تكنولوجيا متقدمة، وتدرّ ربحاً عالياً.
لم يصحب نجاح وولبول الاقتصادي في الثورة الصناعية أساساً نجاحاً مماثلاً على مستوى السمعة وطهارة اليد. ففي العام 1730، وجّه البرلمان اتهامات بالفساد بحق وولبول، اعترف الأخير بها مؤكداً أنه صاحب ممتلكات ضخمة من دون خجل.
كان الرجل داهية في الرد، وأستاذاً في قلب الطاولة على الخصوم. فقد تساءل: "ما الذي يتوقعه أيكم، ممن شغل أحد أعلى المناصب ربحاً لقرابة عشرين عاماً؟ إلا لو كانت جريمة أن يجني المرء ضياعاً عظيمة من منصب عظيم، ألا تكون الجريمة أعظم حينما يحصل أحدهم على ضيعة عظيمة من منصبٍ أدنى"؟
المستعمرات.. العالم من وجهة نظر بريطانية
في العام 1623 اتهم الحاكم المحلي الهولندي لمنطقة أمبونيا (إندونيسيا حالياً) مجموعةً مكوّنة من عشرة بحارة إنجليز -ومثلهم من اليابانيين، إضافةً إلى بحار برتغالي واحد- بالتآمر لاغتياله.
وبعد تعذيبٍ بشع، اعترف البحارة بذنبهم وأُعدموا، فيما أطلق عليه الإنجليز "مذبحة أمبونيا". كان هذا الحادث نهاية أي أملٍ في التعاون بين الهولنديين والإنجليز، من أجل تقاسم مناطق السيطرة البحرية.
أعطى هذا الضوء الأخضر لتغوّل شركة الهند الشرقية التابعة للتاج البريطاني؛ الشركة التي أُنشئت بأمرٍ من الملكة إليزابيث بهدف التجارة في البهارات، قبل أن تسيطر على أسواقٍ أخرى كالقطن والحرير والأفيون.
وقد عملت شركة الهند الشرقية الإنجليزية باعتبارها منظمة تجارة جزئية، ودولة قومية جزئياً، وحصدت أرباحاً طائلة من التجارة الخارجية مع الهند والصين وبلاد الفرس وإندونيسيا، لأكثر من قرنين.
كما استعانت بالعمالة القسرية (العبودية) من إفريقيا، ومثلت رأس الحربة في النفوذ البريطاني في الصين، بل وامتلكت جيشها الخاص، وضمنت لبريطانيا السيطرة على طرق التجارة الأرضية والبحرية في نصف الكرة الشرقي.
حظرت بريطانيا واردات الأنسجة القطنية، المعروفة بالكليكو، الآتية من الهند. وفي عام 1699 منعت تصدير الأقمشة الصوفية من مستعمراتها إلى دول أخرى، فيما عُرف بـ"قانون الصوف" كنوعٍ آخر من الثورة الصناعية؛ ما دمّر صناعة الصوف الأيرلندية، وأعاق نشوء صناعة الصوف في أمريكا.
لكن هذه القوانين لم تكن ثابتة، بل اتبعت سياسة مرنة متعلقة بمصلحة الاقتصاد البريطاني. فطالب المصنعون الإنجليز بمزيدٍ من الحرية وقدرٍ أقلّ من الحماية، فور تربعهم على عرش التصنيع في العالم.
كان لحسن إدارة ملفات خطوط النقل والتعريفات الجمركية الأثر الأكبر في تقدم الصناعة الإنجليزية، وضمنت سياستها الإمبريالية التحكم في العديد من الأدوات، القادرة على إحداث فارق ضخم يفصلها عن المنافسين.
لم تكن السيطرة الإنجليزية التاريخية محض صدفة، أو استسلاماً من باقي الأمم؛ وإنما كانت تفكيراً واعياً وعملاً دؤوباً، عبر السياسة حيناً، وبالحرب أحياناً أخرى.