تشهد قارة آسيا أكبر سباق تسلح عرفته في تاريخها، فالتنافس قائم فيها بين 3 قوى نووية كبرى وقوة رابعة تتعجل تطوير السلاح النووي، وسط حديث عن خروج سباق التسلح بآسيا عن السيطرة.
والدول المتورطة في سباق التسلح بآسيا، بينها 3 دول تحتل صدارة الترتيب بين أكبر اقتصادات العالم، وهي الصين واليابان، إضافة للولايات المتحدة الفاعل الرئيسي في المنطقة.
وبينما يوجد تحالفات عمرها عقود بين دول المنطقة مثل التحالف الأمريكي مع اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، فإن روابط أخرى تزداد قوة، مثل الشراكة بين الصين وروسيا، والتي وصفها رئيسا البلدين قبل غزو موسكو لأوكرانيا بأنها شراكة بلا حدود، كما أن كوريا الشمالية البلد المعزول لديها علاقة جيدة نسبياً مع بكين.
وتزداد المخاطر مع تلويح كوريا الجنوبية بالإنضمام لنادي الدول النووية بالمنطقة رداً على تعزيز بيونغ يانغ لترسانتها الذرية، وإذا تحقق ذلك تصبح القوة النووية الرابعة في المنطقة بعد الصين وروسيا وكوريا الشمالية.
هذه القوى جميعها تتسابق في سبيل السيادة على مجموعة من أشد المناطق البرية والبحرية احتداماً بالصراع في العالم، حسب وصف تقرير موقع CNN International الأمريكي.
أسباب تصاعد سباق التسلح بآسيا
يقف على جانب من هذا النزاع الولايات المتحدة، وحليفتاها اليابان وكوريا الجنوبية؛ وعلى الجانب الثاني: الصين وشريكتها روسيا؛ فضلاً عن كوريا الشمالية في جانب ثالث. وأخطر ما في الأمر أن كل قوة من تلك القوى ترغب في التقدم على الآخرين بخطوة، ولذلك فإن النزاع بينها يدور في دائرة متواصلة تكاد تخرج عن نطاق السيطرة في أي وقت، فكل ردعٍ لإحدى هذه القوى يعني تصعيداً من قوى مقابلة لها.
وقال أنكيت باندا، الخبير في شؤون السياسات النووية بمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، لشبكة CNN: "لا نزال نرى هذه التحركات تتصاعد في شرق آسيا، إذ لا يوجد تدابير لضبطها، ولا وسيلة للسيطرة على سباق التسلح".
اليابان تتخلى عن سلميتها
واختص كبار مسؤولي اليابان هذه القضية بالاهتمام خلال زيارتهم إلى واشنطن الأسبوع الماضي. وفي هذا السياق، جاءت التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، بعد اجتماعه بالرئيس الأمريكي جو بايدن، يوم الجمعة، 13 يناير/كانون الثاني، والتي أعرب فيها عن مخاوفه بشأن النشاط العسكري للصين في بحر الصين الشرقي، وعمليات الإطلاق للصواريخ البالستية فوق تايوان، وسقوط بعضها في نطاق مائي قريب من اليابان في أغسطس/آب.
وحذَّر كيشيدا من محاولة "تغيير النظام الدولي القائم"، وقال إنه "من الواجب" أن تجتمع اليابان والولايات المتحدة وأوروبا على موقف واحد من الصين. وقد جاءت كلماته هذه بعد أيام فقط من التصريحات المتشائمة لوزراء أمريكيين وصينيين، بشأن "التوسع المستمر والمتسارع للترسانة النووية (الصينية)".
واليابان، رغم سلميتها المزعومة، تمتلك القدرات لتصبح قوة نووية بفضل البرنامج النووي السلمي شديد التقدم، وقدراتها في مجال الطيران الحربي وامتلاكها صواريخ قادرة على إطلاق أقمار صناعية.
وقال هيديوجي بان، المدير المشارك لمركز المعلومات النووية للمواطنين، وهو منظمة غير حكومية مناهضة للأسلحة النووية: "يبدو أن اليابان منخرطة في فكرة أنه في حالة الطوارئ يمكنها إنتاج أسلحة نووية بتقنية إعادة المعالجة".
وهناك تقديرات أن علماء اليابان يحتاجون ما بين 6 إلى 12 شهراً لبناء قنبلة نووية.
كما يبدو أن محاولة إنكار وجود حاملة طائرات يابانية من قبل طوكيو لم تعد تجدي، بعد أن فضحها الأمريكيون رسمياً.
فلأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية أصبح هناك اعتراف أمريكي بوجود حاملة طائرات يابانية، رغم محاولة طوكيو عدم لفت النظر إليها، لأن ذلك قد يعتبر مخالفة لدستورها السلمي.
ولدى اليابان نسختان من مدمرة متعددة المهام من طراز "إيزومو" Izumm، محلية الصنع، ومع أن المدمرة إيزومو تصنف على أنها مدمرة حاملة للطائرات الهليكوبتر، فإنها في واقع الأمر حاملة طائرات يابانية خفيفة، قادرة على استضافة عدد كبير من الطائرات من طراز F-35B، وهي نسخة ذات قدرة على الإقلاع القصير والهبوط العمودي حصلت عليها اليابان بعد طلبها من الولايات المتحدة.
ولكن ظلت اليابان تفضل وصف Izumm بمدمرة أو حاملة مروحيات، رغم أنها قد تكون أقدر من بعض حاملات الطائرات العاملة.
ولكن وزير البحرية الأمريكي، كارلوس ديل تورو، وصف عام 2021 السفينة Izumm "حاملة الطائرات إيزومو"، وكان هذا الوصف اعترافاً أمريكياً بتغير الواقع البحري لليابان.
الصين وكوريا الشمالية تقولان إنهما تخشيان تكرار الماضي
في المقابل، ترى كوريا الشمالية والصين أن اليابان هي المعتدية، ويستدلون بما استحدثته طوكيو من تدابير تتضمن مضاعفة إنفاقها العسكري والحصول على أسلحة قادرة على ضرب أهداف داخل الأراضي الصينية والكورية الشمالية، وزاد من تلك المخاوف إعلان الولايات المتحدة قبل أيام عن خطط لنشر مزيد من قوات مشاة البحرية الأمريكية في الجزر الجنوبية لليابان، وتزويدها بصواريخ متحركة مضادة للسفن تمكِّنها من التصدي لأي ضربة صاروخية تعمد إليها بكين.
والمحصلة من ذلك أن تحالف الولايات المتحدة واليابان يرى أن هذه التحركات غايتها الردع، أما بكين فتراها تصعيداً ضدها.
فلقد قتل اليابانيون 14 مليون صيني وشرَّدوا 100 مليون
تزعم الصين أن مخاوفها تستند إلى أسباب تاريخية وجيهة، فهي تخشى عودة طوكيو إلى التوسع العسكري على نحو ما فعلت في حقبة الحرب العالمية الثانية، عندما سيطرت القوات اليابانية على مساحات شاسعة من آسيا، معظمها في الصين. وقد أسفر الصراع الذي امتد 8 سنوات (من عام 1937 إلى عام 1945) بين اليابان والصين عن مقتل زهاء 14 مليون صيني، وتهجير ما يصل إلى 100 مليون من أراضيهم.
وتؤكد الصين أن خطط اليابان الرامية إلى الحصول على صواريخ "هجوم مضادة" بعيدة المدى، مثل صواريخ توماهوك القادرة على ضرب أهداف داخل الصين، إنما هي دليل على أن طوكيو تهدد السلام والاستقرار في شرق آسيا مرة أخرى.
ولكن الغرب وطوكيو يريان ذلك مجرد غطاء لتوسيع بكين لقوتها العسكرية
ومع ذلك، يشير خبراء إلى أن الصين تتذرع بهذه المخاوف التاريخية لصرف الانتباه عن بنائها هي لقدراتها العسكرية، وحشدها لقواتها وأسلحتها. ويقولون إن بكين تستنكر مخاوف الولايات المتحدة واليابان بشأن تعزيزها الجاري لقوتها العسكرية، لكنها تعمل مع ذلك على تعبئة قواتها البحرية والجوية في مناطق قريبة من اليابان، وتطالب بالسيادة على جزر "سينكاكو" التي تسيطر عليها اليابان في بحر الصين الشرقي.
وأجَّجت الصين حالة التوتر بتعزيز شراكتها مع روسيا. وقال مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية لشبكة CNN إن ذلك الأمر كان أحد الأسباب غير المباشرة لتحفيز الاتفاقات بين الولايات المتحدة واليابان، لا سيما بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وما أظهره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الصيني شي جين بينغ من علاقات وثيقة تضمنت تأجيل الغزو الروسي إلى ما بعد أولمبياد بكين في فبراير/شباط الماضي.
وقد عرضت روسيا قدراتها العسكرية بالمحيط الهادئ في أكثر من مناسبة، وأحدثها تلك المناورة التي انضمت فيها سفن حربية روسية إلى سفن وطائرات صينية؛ للمشاركة في مناورة بالذخيرة الحية امتدت أسبوعاً في بحر الصين الشرقي خلال ديسمبر/كانون الأول.
ولا يخفى على أحدٍ موقف الصين من تايوان، ورغبتها في ضم الجزيرة المنشقة إلى أراضيها. فمع أن شي استبعد استخدام القوة العسكرية لإخضاع الجزيرة لسيطرة بكين، فإن الصين زادت نشاطها العسكري العدواني حول الجزيرة، خاصة بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكية السابقة، نانسي بيلوسي، المثيرة للجدل، للجزيرة، وهي خطوة وصفتها الصين بالمستفزة لها.
من جهة أخرى، أرسلت الصين، الأسبوع الماضي، 28 طائرة حربية، منها مقاتلات من طراز "جيه 10″ و"جيه 11″ و"جيه 16″ و"سو 30" وقاذفات "إتش 6" و3 طائرات بدون طيار وطائرة إنذار مبكر وطائرة استطلاع، وعبرت بها الخط المتوسط لمضيق تايوان. ولم تكن هذه أول مرة، فقد أرسل الجيش الصيني 47 طائرة حلَّقت فوق المضيق يوم عيد الميلاد.
وفي غضون ذلك، وافقت واشنطن على زيادة مبيعاتها العسكرية للجزيرة، مستندةً إلى "قانون العلاقات بين الولايات المتحدة وتايوان" الذي يخول لها الحق في مقاومة أي لجوء إلى القوة أو مختلف أوجه الإكراه التي من شأنها أن تعرِّض أمن الشعب التايواني أو نظامه الاجتماعي أو الاقتصادي للخطر.
كوريا الشمالية قد توسع قدراتها النووية لتصبح أكبر من فرنسا وبريطانيا
من جانب آخر، فإن الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، أعلن عن عزمه على زيادة ترسانة الأسلحة النووية لبلاده "زيادة هائلة" بدايةً من عام 2023، ويعمل على بناء أسطول من قاذفات الصواريخ المتنقلة "الضخمة" وتجهيزها بحيث تكون قادرة على ضرب أي منطقة في جنوب البلاد برأس حربي نووي.
وقال "المعهد الكوري لدراسات الدفاع" (KIDA)، في تقرير صادر عنه يوم الخميس 12 يناير/كانون الثاني، إن خطة كيم قد تشمل بناء 300 رأس نووي في السنوات المقبلة. ويمثل ذلك زيادة هائلة عن تقديرات "معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" (SIPRI) الذي ذكر في عام 2022، أن كوريا الشمالية لديها 20 صاروخاً نووياً، وما يكفي من مواد انشطارية لبناء 55 صاروخاً آخر.
إذا حازت كوريا الشمالية 300 رأس نووي، فإنها ستتقدم بذلك على دول نووية كبرى مثل فرنسا وبريطانيا، ولن يتقدمها في ترتيب المخزون النووي إلا روسيا والولايات المتحدة والصين.
وكوريا الجنوبية ترد بالتلويح بأن تصبح قوة نووية
وقد دفع هذا الاحتمال رئيس كوريا الجنوبية، يون سوك يول، إلى التعهد بتعزيز القدرات العسكرية لبلاده.
وقال في تصريحات نقلتها عنه وكالة يونهاب الإخبارية: "إن بناء قدرات (عسكرية) بإحكام يمكِّننا من الرد بقوة أكبر 100 مرة أو 1000 مرة إذا تعرضنا للهجوم، وهذه أنجع طريقة لردع الهجمات علينا".
ولم يكتفِ يول بذلك، بل تحدث عن احتمال بناء كوريا الجنوبية ترسانة نووية، وقال إن بلاده يمكن أن "تنشر صواريخ نووية تكتيكية، وأن تحوز أسلحة نووية".
ولكن أمريكا لا تريد ذلك
ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة حذَّرت بشدة من زيادة الأسلحة النووية في شبه الجزيرة الكورية، حتى وإن كان بعض هذه الأسلحة لدى حليفتها كوريا الجنوبية. لكنها حاولت طمأنة سيول بتأكيد دعمها "الحديدي" لها، وأن الولايات المتحدة مستعدة لاستخدام جميع الإمكانات العسكرية الأمريكية المتاحة لحمايتها.
وقال الأدميرال مايك غيلداي، رئيس العمليات البحرية الأمريكية، في ندوة عقدها "معهد الدراسات الأمريكية الكورية"، الخميس 12 يناير/كانون الثاني، إن "الولايات المتحدة لن تتردد في الوفاء بتعهدات حمايتها الموسعة لكوريا الجنوبية، وهي مستعدة لاستخدام مجموعة كاملة من القدرات العسكرية الأمريكية، ومنها قدرات الدفاع النووي والتقليدي، وكذلك الصاروخي".
واستشهد غيلداي على مساندة الولايات المتحدة لكوريا الجنوبية بزيارة حاملة طائرات أمريكية لميناء بوسان العام الماضي، وقد تضمن ذلك عرضاً لإحدى أقوى السفن الحربية لواشنطن على تخوم كوريا الشمالية، وهو أمر رأت فيه بيونغ يانغ تهديداً لها.
مع ذلك، فإن هذه الخطوات إنما تعني في المقام الأول استمرار سباق التسلح بآسيا، وزيارة كيشيدا والقادة العسكريين اليابانيين لواشنطن الأسبوع الماضي كانت دليلاً واضحاً على ذلك. ويشير ذلك أيضاً إلى أن الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية تنوي المشاركة في هذا النزاع ضمن كتلة واحدة.
وقد وصف الأدميرال غيلداي أهمية هذا التعاون بالقول: "كلما اقتربنا من العمل معاً، زادت قوتنا. آمل أن يكون (ذلك) كافياً لكي يقتنع كل الخصوم المحتملين بأن عدوانهم سيكون ضرره أكبر بكثير من نفعه".
وبالطبع يركز الأمريكيون وحلفاؤهم الآسيويون في معرض حديثهم عن سباق التسلح بآسيا على تحميل المسؤولية للصين وكوريا الشمالية، متناسين دورهم في تأجيج الأمر سواء عبر زيارة بيلوسي لتايوان أو تشجيع تايبيه على الابتعاد عن سياسة الصين الواحدة التي أقرت بها الولايات المتحدة نفسها والحكومات السابقة في تايوان، وكذلك فرض الغرب حصاراً صارماً على كوريا الشمالية، يجعل حياة السكان قاسية ويجعل النظام في قلق دائم؛ خوفاً من تعرضه لمحاولات إسقاط من قبل خصومه.