في إحدى الأمسيات الباردة من ليالي نوفمبر/تشرين الثاني عام 1827، واجه العامل الأيرلندي ويليام هير مشكلة عصيبة. إذ توفي نزيله، وهو رجل اسمه دونالد، بسبب الاستسقاء، وذلك قبل فترة وجيزة من تلقي معاشه العسكري.
كان النزيل سيئ الحظ، دونالد يدين لهير بـ4 جنيهات إسترلينية من الإيجار المتأخر، وهو ما يعادل 370 دولاراً أمريكياً تقريباً اليوم.
ولأنه كان غاضباً من عدم قدرة دونالد على سداد دينه قبل مفارقة الحياة، أعرب هير عن مشكلته لصديقه المقرَّب وزميله الأيرلندي ويليام بيرك.
وقد توصل بورك وهير بالفعل لقرار اعتبرا أنه سيحل جميع المشاكل، وهو بيع جثة النزيل المسكين لتعويض الخسارة!
إدنبرة وازدهار دراسة طب التشريح
كان هناك الكثير من الأموال التي يمكن جنيها من بيع الجثث في إدنبرة في عشرينيات القرن الـ19. فقد أصبحت المدينة مركزاً أوروبياً رائداً لدراسة الطب في ذلك الوقت، وكان جراحو المدينة بحاجة إلى إمداد مستمر من الجثث؛ لتلبية طلبات الطلاب المتدربين على التشريح.
دفع الجراحون آنذاك 10 جنيهات إسترلينية في الشتاء، عندما يمكن الاحتفاظ بالجثث في حالة لائقة لأسابيع، و7 جنيهات إسترلينية في الصيف.
كان الطلب مرتفعاً جداً، وكان المال جيداً، لدرجة أن المدينة ابتليت بوباء من الجرائم البشعة التي عُرفت بلصوص القبور، أو من يُطلق عليهم "رجال القيامة"، الذين انتشلوا الجثث الجديدة من مقابر إدنبرة لبيعها للجراحين.
قاتلان متسلسلان في مدينة إدنبرة الاسكتلندية
ويليام بورك وويليام هير، هما من مواليد عامي 1792 و1829 على التوالي، وقد أصبحا بعد بلوغهما منتصف العمر تقريباً زوجين من القتلة المتسلسلين سيئي السمعة، حيث اشتُهرا بالتربُّح من خلال قتل الضحايا وبيع جثثهم إلى علماء التشريح؛ لأغراض التشريح العلمي والبحوث الطبية.
هاجر هير إلى اسكتلندا من أيرلندا وتجوّل في العديد من المهن قبل أن يصبح حارساً لمنزل في إدنبرة، وهناك وصل بيرك، ليعمل في نفس السكن منذ عام 1827.
وبحلول يوم 29 نوفمبر/تشرين الثاني، توفي المتقاعد المسن والنزيل في المنزل ويُدعى دونالد، وهنا استشاط هير غضباً من أن المتوفى كان لا يزال يدين لهم بإيجار مستحَق قدره 4 جنيهات.
لذا بالتعاون والاتفاق فيما بينهما، وضع بورك وهير خطة لسرقة الجثة من تابوتها وبيعها لباحثي كلية الطب في المدينة، لاسترداد الأموال المستحَقة عليه.
وبمساعدة بورك، باع الثنائي الجثة لروبرت نوكس، وهو جراح وطبيب إنجليزي متخصص معروف آنذاك، مقابل 7 جنيهات و10 شلنات. وهو المبلغ الذي كان يُعد ثروة صغيرة في ذلك الوقت.
فكرة مثيرة لتحقيق ثروة طائلة
دفع هذا الربح، السهل والسريع، الرجلين بورك وهير، بمساعدة زوجتيهما خلال الأشهر التالية، لإغراء ما لا يقل عن 15 عابر سبيل مجهولاً للمبيت في المسكن الذي يديرونه.
وهناك قاموا بتسميم الضحايا أولاً، ثم خنقوهم حتى الموت، لكي لا يتركوا أي أثر للعنف على أجساد الموتى، ما قد يدخلهم في مشاكل عند بيعها لاحقاً، بحسب الموسوعة البريطانية "بريتانيكا".
هل كان الطبيب متآمراً كذلك؟
كان جيمي ويلسون شاباً مختلاً معروفاً في جميع أنحاء إدنبرة. فقد كان متسولاً يبلغ من العمر 18 عاماً، وكان صراخه ومهاتراته، غير المفهومة، مشهداً مألوفاً في شوارع إدنبرة.
لكن الشاب سيئ الحظ لفت انتباه بورك وهير، فاستدرج هير ويلسون إلى منزله حيث حاول هو وبورك أن يجعلاه يسكر ويفقد الوعي لكي يتمما المهمة.
للمفاجأة، لم يكن ويلسون حريصاً على تناول الويسكي أو متأثراً به، ولم يكن مخموراً بشكل كافٍ مثل الضحايا السابقين، لذلك عندما تعرّض لهجوم من قبل الرجلين، خاض قتالاً قبل أن يموت وتُباع جثته لطبيب التشريح.
كانت الجثة تساوي 10 جنيهات الآن، وبالرغم من غرابة عدد الجثث النضرة التي باعاها للطبيب بحالة جيدة، لم يسأل نوكس الرجلين بورك وهير عن مصدر تلك الجثث أبداً.
وخوفاً من إمكانية تعرُّف الناس والشرطة على وجه الشحاذ الشاب عند تشريحه، قطع نوكس رأس ويلسون وقدميه قبل تشريح جسده مع تلاميذه.
الضحية الأخيرة
كانت الضحية الأخيرة لبورك وهير هي مارغريت دوشيرتي، وهي امرأة أيرلندية في منتصف العمر تم استدراجها إلى مسكن بيرك بحجة تناول مشروب.
بينما ذهبت زوجة بورك، هيلين ماكدوغال، لجلب هير لإتمام العمل على جثة جديدة، دفع بورك نزيلاً يدعى جيمس جراي وزوجته آن للذهاب والبقاء في منزل هير مؤقتاً، وذلك حتى تتمكن المجموعة من قتل دوشيرتي بعيداً عن أعين النزلاء.
وقد أخفيا جسدها في كومة من القش أسفل سرير غرفة النزلاء.
في اليوم التالي، عاد جيمس جراي وزوجته. وعندما حاولت آن الصعود إلى غرفتها لجلب متاعها، أوقفها بيرك وحاول منعها من استخدام الغرفة بحجج واهية.
مرتابين، انتظر غراي وزوجته بورك وهير وزوجتيهما للرحيل، حتى أصبحا بمفردهما في المنزل، وفتشا غرفة النوم واكتشفا جثة دوشيرتي. فهرعا مرعوبَين لإخبار الشرطة.
أثناء غياب النزيلين، قام بورك وهير ببيع الجثة لنوكس. لكن عندما وصلت الشرطة للمنزل، وجدوا ملابس المرأة الميتة ملطخة بالدماء وأخذوا بورك وزوجته إلى الحجز.
لاحقاً، تم التعرف على جثة دوشيرتي من قبل جيمس جراي في غرف تشريح نوكس، ما أدى إلى اعتقال هير ومارجريت.
القبض على القاتلين.. وإفلات غريب من العدالة!
انتهت موجة القتل أخيراً، بعد أن قُتل 16 شخصاً إجمالاً في عام واحد على يد بورك وهير، اللذين تربّحا من عملية قتل النزلاء حوالي 150 جنيهاً إسترلينياً مقابل الجثث التي باعاها لطبيب التشريح، وهو ما يزيد قليلاً على 12 ألف دولار أمريكي اليوم.
وفي المحاكمة، شهد هير مع زوجته مارجريت ضد بورك وزوجته هيلين، فتحمل الثنائي الأخير مسؤولية الجرائم كلها تقريباً. وبالفعل تم إطلاق سراح هير في النهاية، ولم يُسمع عنه مرة أخرى.
حوكم بيرك بتهمة القتل وأدين وشنق. وفي اعترافه، برّأ بورك الطبيب الجراح نوكس من أي علم بالجرائم، لكن مرت سنوات طويلة قبل أن يتمكن الطبيب من الإفلات من إدانات الجماهير واتهامات الصحافة.
لاحقاً، تم الإفراج عن هيلين بعد أن وجدت هيئة المحلفين أن التهم الموجهة إليها "ليس لها إثبات قوي".