أمريكا واستعراض القوة العسكرية حول العالم.. كيف ومتى بدأ، ولماذا قد تنهي الصين وروسيا هذا “الإدمان”؟

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2023/01/15 الساعة 06:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/01/15 الساعة 06:52 بتوقيت غرينتش
دبابات تابعة للقوات الأمريكية في ألمانيا، Army

منذ أن انفردت أمريكا بالهيمنة على النظام العالمي، وظفت القوة العظمى الأكبر جيشها وقوتها العسكرية لفرض إرادتها على الجميع، فمتى وكيف بدأ هذا "الإدمان"؟ وكيف قد "تنهيه" الصين وروسيا؟

مجلة Foreign Affairs الأمريكية نشرت تحليلاً عنوانه "جذور إدمان واشنطن للقوة العسكرية"، يرصد كيف أصبحت الولايات المتحدة تشعر بارتياح إزاء استخدام مستويات أكبر من القوة في الخارج بمرور السنوات.

إذ لم يكن ذلك هو الحال في بداية تأسيس الدولة، حيث كان انخراط الولايات المتحدة عسكرياً محدود النطاق خارج أمريكا الشمالية خلال العصور الأولى من تأسيس الدولة، وكانت الكثير من صراعاتها مرتبطةً بالدفاع عن حدودها، والحروب الحدودية، والتوسع غرباً.

ثم جاءت مشاركة الولايات المتحدة في الحربين العالميتين لتدفع بواشنطن نحو عهدٍ جديد من القيادة والمشاركة العالمية الأكبر. وبعد الحرب الباردة وفي أعقاب أحداث 11 سبتمبر/أيلول تحديداً، يمكن القول إن نسبة مشاركة الولايات المتحدة في النزاعات المسلحة التي شنها خصومها شهدت تراجعاً كبيراً. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تعد تتعرض للاستفزاز من خصومها إلا قليلاً، إلا أن واشنطن صارت تتدخل باستخدام قواتها المسلحة أكثر من أي وقتٍ مضى.

ولا شك أنه اتجاه مؤسف، بحسب تحليل فورين بوليسي، لكن احتمالية التغيير بدأت تلوح في الأفق بالتزامن مع تحول الصين إلى قوةٍ عالمية أكثر نفوذاً. ولهذا من المرجح أن تميل الولايات المتحدة إلى الامتناع عن الانخراط في تدخلات خارجية، تحسباً لأن تضعها تلك التدخلات في مواجهةٍ مباشرة مع قوة عظمى أخرى. ما قد يدفع بالمشرعين الأمريكيين لتبني المبادرات الدبلوماسية والاقتصادية التي يمكنها تعزيز قوة الولايات المتحدة الناعمة ومصداقيتها الدولية.

ما هي قواعد الحرب الأساسية؟

من الضروري النظر إلى الظروف التي تُشرِّع استخدام القوة الأمريكية عادةً حتى نفهم سياق ذلك الاستخدام، إذ ينص القانون الدولي المعاصر، الذي أُرسِيَت دعائمه منذ قديم الأزل، على أن اللجوء الشرعي للعنف يجب أن يستوفي ثلاثة شروط أساسية. ويتمثل الشرط الأول في أن استخدام القوة يجب أن يقتصر على الدفاع عن النفس أو عن أحد المارة الأبرياء.

أما الشرط الثاني فهو أن استخدام القوة يجب أن يأتي في صورة رد من النوع نفسه، متى أمكن. وثالثاً، يجب أن يكون الرد بالعنف متناسباً مع مقدار العنف الذي وقع على المرء، وأن يُمارس بالدرجة الكافية لإعادة إقامة السلام لاحقاً، وتنطبق تلك المبادئ على العنف بين الدول والعنف بين الأفراد على حدٍّ سواء.

لكن أحد الأقوال المأثورة اللاتينية ينقل فكرة خاطئة كارثية لا تزال تصوغ شكل النزاعات بين الدول حتى يومنا هذا، ألا وهو المثل القائل: "تخرس القوانين في زمن الحرب". ويُفسر عموم الناس ذلك المثل بأن كل الأشياء تصبح مباحةً عندما يكون البقاء مهدداً.

لكن الصراعات ليست كلها وجودية بالطبع، ويمكن القول إنه من الشرعي الاعتقاد بأن كل الأشياء مباحة عندما يكون البقاء مهدداً، لكن بقاء الدول نادراً ما يتعرض للتهديد، ومن المؤكد أنه لم يكن كذلك في الصراعات التي أشعلتها واشنطن خلال العقود الأخيرة.

أمريكا أفغانستان قوات أمريكية
قوات أمريكية – رويترز

وربما يكون الأثر التراكمي لميل الولايات المتحدة إلى استخدام القوة خفياً على المواطنين الأمريكيين وممثليهم، لكنه واضح بجلاء لخصوم الولايات المتحدة وحلفائها في الخارج. إذ وجد استطلاع أجراه مركز Pew Research Center بين عامي 2013 و2018 أن مكانة الولايات المتحدة تراجعت بشكلٍ حاد، حيث كان 25% من الأجانب يعتبرون القوة والنفوذ الأمريكي بمثابة مصدر أساسي للتهديد في عام 2013، لكن النسبة ارتفعت إلى 45% بعدها بخمس سنوات فقط.

11 سبتمبر والقصور أحادي القطبية

يُعزى جزء كبير من التغيير إلى حقيقة تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة خلفاً لباراك حسين أوباما عام 2016، إذ شجع ترامب على انتشار الانطباعات السلبية عن الولايات المتحدة بتجاهله للأعراف الدولية والتزامات واشنطن تجاه حلفائها، وإلغائه للاتفاق النووي الإيراني، وانسحابه من اتفاق باريس للمناخ، وفورات غضبه العدوانية ضد الدول الأخرى على الشبكات الاجتماعية.

لكن الأمر لا يقتصر على ذلك فقط، إذ توجد العديد من العوامل الأخرى التي تساعد في تفسير زيادة ميل الولايات المتحدة للتدخلات العسكرية، وتشرح أسباب تغيُّر الانطباعات العالمية عن القوة الأمريكية نتيجةً لذلك.

ويمكن تسمية السبب الأول بـ"تأثير 11 سبتمبر/أيلول"، الذي يُوصف بأنه الميل لنزع صفة الإنسانية عن الخصوم، حيث أدى تبني الجهاديين للهجمات الانتحارية ضد المدنيين إلى إقناع العديد من الأمريكيين- ومشرعيهم- بأن الولايات المتحدة تواجه خصماً غير إنساني.

ومن هذا المنطلق، أصبح إقدام الأجانب على الموت في سبيل أي قضية ذريعةً للتشكيك في عقلانيتهم وإنسانيتهم، رغم أن إقدام المرء على التضحية بنفسه يُعتبر بطولةً إذا كان يدافع عن الولايات المتحدة. ولا شك أن عادة اعتبار الخصوم كائنات غير عقلانية- أو مختلفة عن بقية البشر- تساعد في تفسير سبب تراجع استخدام الولايات المتحدة لأدوات الحكم الدبلوماسية والاقتصادية، وذلك في صالح السياسة الخارجية التي تعتمد على استخدام القوة أولاً. فضلاً عن أن تصوير الخصوم على أنهم قوة مميتة بطبعها يجعل المساومة أو التفاوض معهم بمثابة مسعى عقيم.

وربما يتمثل التفسير الآخر في "القصور أحادي القطبية"، إذ احتفى المعلقون والمحللون الأمريكيون ببزوغ فجر الهيمنة الأمريكية بلا منازع، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو عام 1991.

ووصف تشارلز كروثامر، كاتب الأعمدة في مجلة Foreign Affairs الأمريكية، تلك اللحظة بأنها كانت "لحظة أحادية القطبية"، لكن ذلك التصنيف كان معيباً لأن أحادية القطبية الحقيقية تعني قدرة دولةٍ واحدة على هزيمة جميع الدول الأخرى مجتمعة، دون مساعدةٍ من أحد.

ولم تكن الولايات المتحدة تتمتع بتلك القوة، ولهذا يمكن وصف توزيع القوى الذي أعقب الحرب الباردة مباشرة بأنه كان توزيعاً متعدد الأقطاب لنكون أكثر دقة، وتحظى فيه الولايات المتحدة بأفضلية قوة كبيرة تساعدها على كسب الحروب.

وشجع غياب التكافؤ هذا واشنطن على نشر جيشها بعدوانية في جميع أنحاء العالم، حيث تقبلت واشنطن عادة التدخل الخارجي إبان الحرب الباردة بدعم الانقلابات وعمليات الاغتيال، والتدخل في الانتخابات، وتنفيذ العمليات السرية، وما إلى ذلك تحت مسمى الأمن القومي. لكن الانهيار المفاجئ للخصم الوحيد الذي يهدد بقاء الولايات المتحدة تركها في حيرةٍ من أمرها.

الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش (رويترز)

وكان بإمكان الولايات المتحدة أن تسحب قواتها وتسرحها من الخدمة، بما يتناسب مع بيئة التهديدات الجديدة، ما كان سيُعزز شرعيتها وسمعتها كزعيمة مسؤولة للعالم. لكن تلك الخطوة كانت ستعني وقوفها مكتوفة الأيدي أمام تصعيد النزاعات العرقية والمدنية القديمة أو الناشئة، ووصولها لدرجة العنف في دولٍ مثل رواندا والصومال ومنطقة البلقان، قبل أن تنحدر في هوة القتل والإبادة الجماعية.

وتشكّلت قناعة لدى العديد من المشرعين الأمريكيين بأن تدخلات واشنطن إبان الحرب الباردة ساعدت في انتصار الولايات المتحدة على الاتحاد السوفييتي بنهاية المطاف، لهذا رفضت الولايات المتحدة التي أعلنت نفسها زعيمةً للعالم الحر أن تتخلى عن عاداتها القديمة، واختارت مواصلة التدخل كقوةٍ عسكرية بدلاً من ذلك. لكنها لم تعد بحاجةٍ للتدخل من أجل احتواء وردع وهزيمة الشيوعية السوفييتية، بل من أجل حماية حقوق الإنسان ودفع الديمقراطية.

لماذا تراجعت أمريكا عن خيار "القوة العسكرية"؟

هناك تفسيرٌ آخر للاتجاه إلى توسيع نطاق التدخلات الأمريكية في الخارج، ويتمثل ذلك التفسير في حقيقة أن السياسة الخارجية القائمة على القوة أولاً كانت مقيّدة بالمخاوف من تصعيد الصراع إلى حرب نووية عالمية، وذلك عندما كان الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو لا يزالان قائمين.

لكن التعليق المؤقت لصراع القوى الكبرى عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، وقبل صعود الصين مؤخراً، شجّعا واشنطن على المخاطرة فيما يتعلق باستخدام قوتها خارج الحدود.

ورغم ذلك سنجد أن القوة العسكرية المتنامية للصين، وقوتها الاقتصادية المتضخمة، وبصمتها العالمية المتوسعة ستؤدي إلى زيادة الحذر الأمريكي. ما قد يبشر بعودة الولايات المتحدة إلى تقاليد أدوات الحكم الدبلوماسية والاقتصادية كملاذٍ أول، وتحويل القوة المسلحة إلى ملاذٍ أخير.

ويُعَدُّ هذا الأمر صحيحاً لثلاثة أسباب، ويتمثل السبب الأول في أن الولايات المتحدة ربما تعاني من أزمة شرعية، لكن وضع الشرعية الصينية يظل أسوأ، حيث تحول الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى حاكم مطلق ألزم الصين ببناء قوة عسكرية مهولة، بينما يتدخل بعدوانية في منطقة الهندي الهادئ، بحسب وجهة النظر الأمريكية بطبيعة الحال.

الجيش الصيني خلال استعراض عسكري – توضيحية/رويترز

ولا شك أن تدمير الصين المتعمد لاستقلال هونغ كونغ، وخطابها التصعيدي ومناوراتها العسكرية ضد تايوان، ألحقا ضرراً بالغاً بسمعة الصين الدولية. ولهذا فإن إعادة بناء التحالفات القوية في المنطقة تُعَدُّ أفضل وسيلةٍ أمام الولايات المتحدة، من أجل استغلال العجز المتزايد الذي تعانيه الشرعية الصينية، بحسب الرواية الغربية بقيادة واشنطن.

كانت الصين وتايوان قد انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولة ذات سيادة وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين لا تزال تصر على أنه ستتم استعادة الجزيرة في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر.

ولا يعترف بتايوان سوى عدد قليل من الدول، إذ تعترف معظم الدول بالحكومة الصينية في بكين بدلاً عن ذلك. ولا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، ولكن لدى واشنطن قانون يُلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها.

ومنذ سنوات تقول الصين إنها أصبحت قلقة بشكل متزايد من أن حكومة تايوان تحرك الجزيرة نحو إعلان رسمي للاستقلال، وتريد ردع رئيستها تساي إنغ ون عن اتخاذ أي خطوات في هذا الاتجاه، وكانت بكين قد زادت ضغوطها العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية، منذ وصول تساي إلى السلطة في عام 2016، ويُعرف عنها رفضها مبدأ "الصين الواحدة".

وثانياً، ستؤدي زيادة القوة الصينية إلى فرض قيود على قدرة الولايات المتحدة أن تخاطر على المستوى الدولي دون الإضرار بنفسها. ولا شك أن إمكانية رد الولايات المتحدة بالتدخل الأكثر حسماً ستظل قائمةً في مواجهة الصين القوية، وذلك من أجل الحفاظ على مكانتها العالمية المهيمنة، لكن السياسة الخارجية الأكثر حذراً ستقلل فرص تورط واشنطن في صراعات عالمية جديدة، ما سيحمي أمنها وأمن المجتمع الدولي معاً.

وأخيراً، يمكن أن تتحسن الانطباعات العالمية عن القوة الأمريكية إذا لم تمارس الولايات المتحدة كامل قوتها العسكرية ضد الخصوم، حيث اكتشف الاتحاد الروسي مثلاً أن عدم استخدام القوة بالكامل يُعَدُّ وسيلة ردع أفضل من ممارسة القوة العسكرية، التي تنطوي على تكاليف بشرية واقتصادية فادحة، ولهذا من الأفضل لواشنطن أن تُعيد النظر في استخدام قوتها بالخارج، وتُعيد التركيز على الدبلوماسية في السنوات المقبلة.

تحميل المزيد