مصالحُ الناسِ قديماً وحديثاً تدفع كثيراً منهم إلى الدخول في شركاتٍ وعقودٍ استثمارية، سواءٌ أكانوا مِن ذوي الأموال، أم ممن لا مال عندهم يستثمرونه وهم من أهل الخبرات أو الحِرَف، "لأن الإنسان قد يكون له مالٌ لكنه لا يهتدي إلى التجارة، وقد يهتدي إلى التجارة لكنه لا مال له" ـ كما قال الإمام "الكاسانيُّ" في (بدائع الصنائع).
من هنا وجدنا كثيراً من الناس يدخلون -على سبيل المشاركة- في مشروعات استثمارية، صغيرةً كانت أم كبيرة، وقد تكون موقوتة بزمن محدَّد، أو بدون تحديد، وتستمر ما قُدِّر لها البقاء.
لكنّ بعض الشركات في عصرنا هذا تنتهي -مع الأسف- نهايةً غيرَ سعيدة، بل قد تكون النهايةُ بدايةً لفصلٍ طويلٍ من النزاعات والخصومات، والشحناء والتقاطع، بالإضافة إلى الخسائر المالية!
وبالتأمل في كثير من الشركات التي قامت ثم انفضّت مصحوبةً بالخسائر والخصومات، يلاحَظ أن الأسباب التي تؤدّي إلى تلك النهايات غيرِ السعيدة تعود -في جانب كبير منها- إلى خلل في البدايات، وتحديداً عند الاتفاق، حيث تكون هناك ثغرات كثيرة، وإهمالٌ لضوابطَ مهمة، كان ينبغي أخذُها في الاعتبار!
ولذلك يجب أن يكون كلُّ شيء واضحاً منذ البداية، وأن يذكر كل طرفٍ ما يريد، ويبينَ رأيه، ويقولَ ما عنده؛ تعديلاً أو رفضاً، أو موافقة وتأكيداً.
وعندما نتأمل في قصة نبيّ الله موسى -عليه السلام- نجد الحرص على البيان والتوضيح الذي يرفع الجهالة، ويزيل الالتباس، وذلك وقت الاتفاق بينه وبين صهره.
قال تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [سورة القصص: 27 ـ 28].
فصِهْرُه يعرض بنود الاتفاق، وموسى يعيد أهم البنود مرة أخرى؛ منعاً للاختلاف أو التنازع مستقبلاً {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ}.
وهناك بعض الضوابط يجدر بالشركاء مراعاتُها منذ بدايةِ الاتفاق، وإنشاءِ العقد؛ تفادياً لوقوع الفساد أو الخلل وما يترتب عليه من خسائر ومشكلات، منها:
1- يجب على كل شخص تحرِّي وانتقاءُ مَن يشاركه، وأنْ يحرص على اختيار مَن يتصف بالصلاح والاستقامة، والدراية بطبيعة العمل الموكولِ إليه القيامُ به.
فلا يشارك فاسدَ الخلُق والدِّين؛ لأنه لا يكون أميناً، ولا يتحرى الحلال، ولا يشارك مَن ليس بأهل للعمل الذي سيكون مجالاً للاستثمار والشَّراكة، كصناعة أو تجارة أو ما شابه؛ لأنّ هذا لن يُحقق النّماء ولا الرِّبح.
2- ينبغي وضوحُ طبيعةِ المجال الذي سيكون في إطاره النشاطُ أو العملُ الاستثماريّ، ومعرفةُ الجدوى الاقتصادية، والمخاطر المحتمَلة.. ونحوها، وأن يكون كلُّ هذا معلوماً ومحدَّداً لجميع الأطراف من البداية بما ينفي الجهالة.
3- وكي يتحقق ما سبق، ينبغي عدمُ الإقدام على أي مشروع إلا بعد الرجوع إلى أهل الخبرة الموثوقين في المجالات الاقتصادية والتجارية، وضرورةُ الأخذ بتوجيهاتهم ونُصحِهم في الاعتبار، ولو اقتضى الأمرُ تخصيصَ مبلغٍ ماليّ مِن البداية لمثل هذه الاستشارات التي تقدَّر لأولئك الخبراء.
4- بعد وضوحِ طبيعةِ المجالِ الاقتصاديّ والنشاطِ الاستثماريّ وتوصيفِه؛ يُعرَض الأمرُ على أهل الذكر مِن العلماء الموثوقين، وخاصة الذين يجمعون بين الفقه الشرعيّ ومعرفة الواقع الاقتصاديّ، وذلك قبل إنشاء العقود، ثم تُعرَض عليهم العقودُ بعد تحريرها وصياغتِها، تجنباً للوقوع في معاملة لا تجوز شرعاً.
5- عندما يبدأ أطراف الشَّراكة في مشروعهم عادةً ما تتصدّر بعضُ الأمور قائمةَ اهتماماتِهم، وتحوز على النصيب الأكبر مِن تفكيرهم؛ مثل انطلاقة المشروع بدون عوائق.. تغطية التكاليف، والأرباح والخسائر.. تسيير المشروع ونجاحه.. إلخ، وفي غمرة هذه الأمور تتوارى أو تسقط مِن الحسبان جوانبُ أخرى في غاية الأهمية والتأثير، ويجدر بالجميع التنبُّه لها جيداً.
لذلك عند القيام بعقد تأسيس الشركة يجب على الشركاء وضعُ النقاط على الحروف، وحسْمُ كلِّ ما يتعلق بالمشروع في كل الظروف؛ بدءاً من تأسيسه، ومروراً بتسيير أعماله وإدارته، وانتهاءً بِفَضّه، وألا يُهمِلوا بعض هذه الجوانب، أو يتغاضوا عنها، اعتمادًا على حُسن الظن في مشروعهم، أو في بعضهم البعض، أو لاعتبارات شخصية، أو عائلية ونحوها.
ومِن تلك الأمورِ التي يجب عدمُ إهمالها على سبيل المثال:
أ ـ تحديدُ جميعِ الالتزاماتِ الماليةِ، والعمليةِ، والإداريةِ، وسائر الحقوق والواجبات المتعلقة بكافة الأطراف، مِن غير ضرر أو إجحاف.
ب ـ تحدُيد مهامّ ومسؤوليات جميعِ الأطرافِ بدقة، وتوزيعُها، من غير التباس؛ كي لا تتضاربَ الاختصاصات، أو تتداخلَ الصلاحيّات.
ج ـ تحديدُ نسبةِ الأرباح على الوجه المشروع، وطريقةِ احتسابها، ووقتِ استحقاقها.
د ـ تحديدُ طرقِ حلِّ المشكلات، والتقاضي -إذا لزم الأمر- عند الاختلاف أو التنازع، وبيانُ الجهة التي يُرجَع إليها حال نشوء الاختلاف.
هـ ـ تحديدُ كيفيةِ إنهاءِ الشركة، وكيفية إدارة عملية "التخارج" -إذا حدث- بين الشركاء، ووضعُ الآليات والمرجعيات التي تنظِّم هذا الأمرَ منذ بداية التعاقد، بواسطة خبراء ثقات، تجنباً لما لا تُحمَد عقباه مما نشاهده -مع الأسف- مِن مظالمَ وضياعِ حقوقٍ ومشاحنات، حال فضّ الشَّراكة.
6- بعض الشركاء عندما يقومون بمشروعات استثمارية بواسطة نظام المضاربة يحرصون على إخفائها عن الناس، لدوافع أو اعتبارات خاصةٍ بهم، وكثير منها -مع الأسف- اعتبارات غيرُ مبرَّرة شرعاً؛ مثل الخوف مِن الحسد، أو تهرّباً مِن التزامات وواجبات شرعيةٍ أو اجتماعيةٍ أو أخلاقيةٍ معينة!
المهم أنهم -بسبب هذا- يقعون في خطأ فادح؛ ألا وهو عدم الإشهاد على العقود، وربما عدم توثيقها بطريقة نظامية قانونية معتبرة.
ولا يخفى أن الإشهاد على العقود مما حث عليه الشرع الحنيف، وأكّد على عدم التفريط فيه، كما أنه وسيلة لضمان الحقوق، واستيفائها على الوجه الأكمل.
وقد رأينا في الواقع كيف أنّ إهمال الإشهاد في المعاملات نتج عنه أضرار كثيرة عند تنازع الحقوق، لا سيما في زمان خرابِ الذمم، وضعفِ الوازع الدينيّ، والله المعافي.
7- والأخطر مِن هذا أن بعض الناس لا يهتمون بكتابة كلِّ ما يتم الاتفاق عليه، بل يكتفون -فقط- بكتابة ما يعدُّونه نقاطاً رئيسية، وأحياناً يهملون الكتابة اعتماداً على الثقة، أو حسن الظن الذي لا يغني شيئاً في سدّ الثغرات والفجوات، ومواجهة الأطماع والنزوات، ودرْء الَّلدَد في الخصومات.
يجب أنْ يقوم الشركاءُ بكتابة كلِّ ما يتم الاتفاق عليه صغيراً كان أم كبيراً، جوهرياً كان أم شكلياً، وتوثيقُ ذلك بالطرق المعتمَدة نظامياً، فإنّ هذا وحده يكون الحجةَ الفاصلةَ، والسندَ المعتبَر في إثبات الحقوق، والفصلِ في المنازعات.
إنّ إهمال الكتابة بين الشركاء كم جرَّ مِن مصائب اقتصادية واجتماعية، وكان ذريعة لضعاف النفوس ومغرياً لهم بأكل أموال الناس بالباطل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.