لم تكن في مخيلة محمد سعيد (مواطن مصري في الأربعين من عمره)، أن يدخل أحد الأسواق الكبرى في العاصمة القاهرة دون أن يجد متطلباته من مواد غذائية أساسية، بعد أن تباهت الحكومة طيلة العامين الماضيين بتوفير كل المنتجات، رغم الظروف الصعبة التي فرضها فيروس كورونا والحرب الروسية الأوكرانية.
حينما ذهب سعيد إلى المنطقة المخصصة لبيع زيت الطعام في أحد المتاجر الكبيرة، لم يجد سوى أصناف رديئة لم يتعرف عليها من قبل. توقع أن تكون هناك أماكن أخرى مخصصة لبيع الأنواع الشهيرة من أصناف زيت الذرة وعباد الشمس، إلا أن عامل المحل أخبره بأن هناك شحاً في الغالبية العظمى من أنواع الزيوت، ولن يكون بإمكانه سوى الحصول على زجاجة واحدة وزنها لتر فقط، لحين انتهاء الأزمة، وفقاً لما أكده.
لم يجد المواطن المصري مفراً من اللجوء للمتاجر الإلكترونية، مع أنه لا يحبّذ ذلك، اعتقاداً منه أنها ترفع الأسعار بخلاف المتاجر الأخرى، لكنه فوجئ بأن المنتج غير متوفر أيضاً.
زيوت الطعام تختفي من الأسواق الكبرى
أوضح سعيد في حديثه لـ"عربي بوست" أن أسرته، المكونة من 5 أفراد، تحتاج إلى لترين أو أكثر من الزيت على مدار الأسبوع. كما أنه يخشى أن تكون الأصناف الرديئة معاد تدويرها مع زيادة معدلات بيع الزيوت المستعملة، خاصة أن لون الزيت داكن للغاية، ويبدو أنه ليس طبيعياً كباقي أنواع زيوت الطعام.
وجد سعيد نفسه في النهاية مضطراً للحصول على زجاجة يصل سعرها إلى 50 جنيهاً دون أن يعرف أي معلومات كافية عن الشركة المنتجة وسمعتها، ومع تيقنه بسوء جودتها.
تكرر الموقف في جولة "عربي بوست"، التي قام بها في عدد من السلاسل التجارية الكبرى في العاصمة المصرية، والتي وإن كانت بها العديد من المنتجات، لكن غلب عليها شح السلع الأساسية، وفي مقدمتها الزيت والأرز، وهما مكونان رئيسيان لا غنى عنهما للأسرة المصرية.
مواطنون يصطدمون بأنواع رديئة من الأرز وبأسعار مرتفعة
ولاحظ أيمن عبدالهادي (موظف حكومي في منتصف الأربعينيات من عمره) اختفاء الأرز بشكل تام من أحد فروع سلسلة متاجر شهيرة بمنطقة المعادي، مشيراً إلى أن غالبية المحال يتوفر فيها أيضاً أصناف رديئة بعيداً عن المنتجات المعروفة التي اختفت بشكل كامل حتى من المتاجر الإلكترونية، لكن أزمته هذه المرة كانت في عدم توفر أي نوع من أنواع الأرز.
وأضاف أن سعر الأرز السائب وصل في محال العطارة إلى 20 جنيهاً، نتيجة اختفاء الأرز المُعلب، ورغم حديث الحكومة عن انتهاء الأزمة وتوفره بالأسواق، لكن الواقع يشير إلى عكس ذلك، لافتاً إلى أن الوصول إلى السلع الأساسية أضحى بحاجة للتسوق بالعديد من المحال والأسواق؛ أملاً في الوصول إليها، وقد لا تتوفر من الأساس، وإذا تم توفيرها فإنها تكون بأسعار مبالغ فيها.
وانتابت الرجل حالة من الذهول عندما وجد كيلو الأرز المفضل لدى أسرته مقابل 199 جنيهاً على أحد المتاجر الإلكترونية.
وتابع "لافتة الحصول على قطعة واحدة من المنتج أصبحت منتشرة بشكل متكرر في العديد من السلاسل التجارية الكبرى، التي كانت بمثابة ملاذ آمن للمواطنين للحصول على احتياجاتهم بأسعار زهيدة"، وفي الأغلب يكون السبب نفاد حصة المتجر بعد ساعات قليلة من توفر المنتج الذي يأتي إليهم بكميات قليلة للغاية، مقارنة بما كان يحدث في الأيام العادية.
تكمن الأزمة الحالية، بحسب ما يؤكد حسام محمد (موظف حكومي في الخمسينيات من عمره)، إلى عدم توفر السلع الرئيسية في بطاقات التموين التي تصرفها الحكومة بأسعار مدعمة لمحدودي الدخل، ويستفيد منه أكثر من 75 مليون مواطن.
وأشار لـ"عرب يبوست" إلى أن الشهرين الماضيين شهدا عدم توفر الزيوت والأرز والسكر، وحينما كانت تتوفر بكميات قليلة وضعت الحكومة قيوداً على صرفها بكميات محددة لكل فرد، ولم تتمكن غالبية الأسر من توفير احتياجاتها، وتسبب ذلك في زيادة الإقبال على السلاسل التجارية ومحلات السوبر ماركت.
مهمة يومية للمواطنين بحثاً عن السلع
ويؤكد أنه يحتاج الذهاب إلى أكثر من متجر حتى يتمكن من توفير ما يحتاجه من سلع، فقد يتوفر الزيت والأرز ولا يتوفر الدقيق أو السكر أو أي من المنتجات الرئيسية الأخرى، والعكس صحيح.
وفي النهاية لا يمكن للفرد الحصول على قطعة أو قطعتين على الأكثر من كل صنف، وفي كثير من الأحيان تنشب خلافات ومناوشات عديدة بين الموظفين الذين يعملون بالسلاسل التجارية والمواطنين الساعين للحصول على احتياجاتهم من السلع، خاصة أن الجميع لديه هاجس من استمرار ارتفاع الأسعار مع التراجع المستمر في قيمة الجنيه.
ويتفق العديد من التجار الذين تحدثت إليهم "عربي بوست" على أن تراجع سعر الجنيه أمام العملات الأجنبية بشكل متتالٍ خلال الأيام الماضية، تسبب في زيادة أسعار غالبية السلع واختفاء بعضها.
وأكدوا أن بعض الشركات تنتظر لحين استقرار الأسعار حتى تتمكن من إعادة دوران عجلتها الإنتاجية، وأنها تخشى مزيداً من الخسائر في حال أقدمت على الإنتاج الكثيف في الوقت الذي تتراجع فيه قيمة الجنيه، وتجد صعوبة في توفير مستلزمات الإنتاج التي تكدست لأشهر طويلة بالموانئ وتحصل عليها بأسعار مرتفعة.
وتراجع الجنيه المصري بشكل حاد يوم الأربعاء، 11 يناير/كانون الثاني للمرة الرابعة منذ مارس/آذار الماضي، ووصل إلى 32 جنيهاً لأول مرة في تاريخه أمام الدولار، وفقد 100% من قيمته تقريباً.
وتشير التوقعات إلى أن الطريق ممهد أمام الجنيه للهبوط إلى مستويات تاريخية جديدة، ليقترب من سعر السوق السوداء التي هيمنت بقوة على أداء الجنيه، وتتراوح حالياً ما بين 33 إلى 35 جنيهاً في مقابل الدولار الواحد.
شركات توقفت عن التوريد بسبب عدم استقرار سعر الدولار
وقال أحد مديري السلاسل التجارية الكبرى بالقاهرة – شريطة عدم ذكر اسمه – إن كبرى الشركات العاملة في الزيوت والأرز والسكر والدقيق والشاي توقفت عن التوريد للمحلات والسلاسل التجارية منذ الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، وأن ما يتوفر حالياً في الأسواق أغلبه كميات قديمة جرى توريدها من قبل، وأن السبب يرجع لأن تلك الشركات تنتظر استقرار سعر الصرف.
وأضاف لـ"عربي بوست" أن غالبية الشركات أخبرت السلاسل الكبرى أنها سوف تعاود ضخ منتجاتها مع بداية العام الجديد، لكن لم توفِّ بالتزاماتها حتى الآن، ويرجع ذلك لأن سعر الصرف غير ثابت، والتوقعات تشير إلى أن التذبذب مستمر لأسبوعين أو أكثر.
وفي حال استمر عدم طرح السلع، سيؤدي ذلك لأزمة اختفاء العديد من السلع بشكل أكثر وضوحاً، وستكون الأرفف فارغة بعد استهلاك الكميات التي توفرت على استحياء مؤخراً.
يذهب المتحدث ذاته لتأكيد أن شح السلع تسبب في إقدام جهات مجهولة عرضت تقديم نفس السلع على المتاجر ولكن بأسعار مرتفعة بعيداً عن الشركات الأصلية، أي إنه أصبحت هناك سوق سوداء لتداول العديد من السلع أبرزها الزيوت والسمن وبأسعار تزيد على المعروضة بها حالياً بنسب تتراوح ما بين 20 إلى 30%.
لكن غالبية السلاسل الكبرى ترفض الانصياع لها حتى الآن لحين التعرف على مآلات الأزمة الراهنة، على حد قول المتحدث نفسه.
ومع بداية الشهر الجاري، كشفت سلسلة "كازيون" (أبرز السلاسل التجارية المنتشرة بكثافة في مصر) عن أن اختفاء بعض أنواع الزيوت والسمن، جاء بعد تراجع الكميات المنتجة من قبل الشركات، بسبب نقص مستلزمات الإنتاج، مشيرة في بيان لها على مواقع التواصل الاجتماعي إلى أن "منتج سمنة روابي 700 غرام غير متوفر في المحلات التابعة للشركة، والأمر يرجع لعدم توريد الشركات المصنعة".
وأضافت كازيون ماركت، أن عبوات زيت الأصيل 700 مللي غير متوفرة بالأسواق التابعة لها، مشيرة إلى وجود بعض الأنواع الأخرى في الفروع.
ارتفعت أسعار زيت الخليط (القلية) 49% تقريباً خلال شهر ديسمبر/كانون الثاني الماضي، حيث صعد الطن من مستويات 37 ألف جنيه إلى 55 ألف جنيه، وفقاً لعدد من المتعاملين فى السوق المحلية، مرجعين تلك الزيادة إلى توقع التجار والمصنعين ارتفاعاً شديداً في سعر الصرف، ما أدى إلى تسعير الزيت باعتبار أن سعر الصرف يتجاوز 37 جنيهاً.
شهادات الادخار ورفع الفوائد يساهم في اختفاء السلع
وتوقع عضو بشعبة المواد الغذائية بالغرفة التجارية في القاهرة، مزيداً من اختفاء السلع وارتفاع أسعارها خلال الفترة المقبلة. وأرجع ذلك إلى استمرار تراجع قيمة الجنيه وعدم استقراره عند سعر معين.
وفي تلك الحالة، فإن الشركات تكون أمام خيارين، إما أن تعمل على دوران عجلة الإنتاج لتقوم ببيع منتجاتها بأسعار مرتفعة للغاية لضمان تحقيق أرباح، أو أنها تتوقف عن تقديم منتجات جديدة انتظاراً لما ستؤول إليه الأوضاع.
وأضاف أن قرارات الحكومة المتعلقة بتجميد الأسواق وسحب السيولة من المواطنين والشركات عبر شهادات الادخار مرتفعة العائد التي طرحتها الأسبوع الماضي، تعد من العوامل المهمة التي تساهم في اختفاء السلع، لأن مثل هذه القرارات تزيد من أعباء التكلفة على المصنعين والمنتجين عند الاقتراض، وفي كلا الحالات فإن الإنتاج سيتراجع بالتبعية، ومن المتوقع أن تُغلق العديد من المصانع والشركات أبوابها.
ولفت إلى أن ما يشهده السوق في الوقت الحالي ليس له علاقة بضعف الرقابة أو باحتكار السلع والمنتجات، لأن الزيوت والأرز والسكر والدقيق وأغلب السلع الأساسية تقوم بتصنيعها شركات عديدة، وليست شركة واحدة، كما أن عجلة استيراد السلع ومستلزمات الإنتاج بدأت تدور، لكن الأزمة الحقيقية سوف تظهر في المستقبل القريب، حينما يهيمن الاحتكار على الأسواق مع إغلاق العديد من المصانع والشركات.
وقال رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الأسبوع الماضي، إن الحكومة لديها خطة كاملة لخروج كل البضائع من كل الموانئ بشكل تدريجي من خلال العمل على توفير الدولار، مشيراً إلى أنه تم الإفراج عن بضائع بقيمة 6 مليارات و250 مليون دولار خلال شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي من إجمالي 15 مليار دولار بضائع محتجزة في الموانئ.
وتزايدت وتيرة مطالبات الحكومة المصرية من المواطنين للتقشف في تلك الأيام بما لا يساهم في إحداث حالة تعطيش للسوق يترتب عليها اختفاء السلع وارتفاع أسعارها، إلا أن عضو شعبة المواد الغذائية يرى أن طموحات الحكومة غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع، لأنه بالفعل هناك حالة تراجع ملحوظ في القدرة الشرائية للمواطنين، كما أنه لا يمكن الاستغناء عن السلع الأساسية، بالإضافة إلى ضعف الإنتاج وندرته ليس للمواطنين دخل فيه، والأزمة في أن الشركات أحجمت عن التصنيع.
مطالبات بإقالة وزير التموين والجيش يدخل على خط الأزمة
وتواجه وزارة التموين انتقادات لاذعة من جانب المواطنين والبرلمانيين أيضاً الذين طالبوا بإقالة الوزير علي مصيلحي لعدم قدرته على توفير السلع في أكشاك بيع المواد التموينية أو في المجمعات الاستهلاكية وعدم رقابته الفاعلة على الأسواق بما يضمن توفيرها بأسعار حقيقية بما يقوض جشع التجار.
ومع احتدام الأزمة أعلن الجيش المصري تدخله لتخفيف الأعباء المعيشية على المواطنين عبر توزيع كميات كميات كبيرة من الحصص الغذائية بطلب من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
وأصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة أوامرها إلى هيئة الإمداد والتموين للقوات المسلحة بإعداد وتجهيز وتعبئة 3 ملايين عبوة غذائية لتوزيعها على المواطنين بنصف الثمن للمساعدة فى مواجهة التداعيات الاقتصادية"، بحسب بيان الجيش.
وتابع البيان: "تم دفع أسطول ضخم من وسائل النقل الثقيلة والقطارات لتوزيع السلع لمختلف محافظات الجمهورية بنطاق الجيوش الميدانية والمناطق العسكرية"، وأشار إلى أن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية قام بزيادة أعداد منافذ البيع الثابتة والمتحركة بكل ربوع الجمهورية وطرح العديد من المنتجات والسلع الغذائية بها بأسعار مخفضة.
ولم تعد أزمة ارتفاع أسعار السلع واختفائها تتعلق فقط بالمواد الغذائية، إذ يعاني سوق الدواء المصري مشكلات متفاقمة في تلك الأثناء نتيجة اختفاء أصناف عديدة من الأدوية، وبحسب الدكتور أحمد عصام، ويمتلك أكثر من صيدلية بمنطقة الهرم، فإن السوق بدأ يتأثر بمشكلات تكدس البضائع في الموانئ وتراجع الإنتاج المحلي، مشيراً إلى أن شركات الأدوية المحلية تنتظر لحين استقرار سعر الصرف للعودة إلى سابق نشاطها.
ويشدد على أن أصحاب الصيدليات يواجهون مشكلات لعدم قدرتهم على صرف بدائل لأصناف عديدة لم تعد متوفرة، ويطالبون المرضى بالعودة مجدداً إلى الطبيب، ومع تكرار الأمر أضحى الأطباء يعتادون كتابة بدائل عديدة، وفي حال توفرها فإن المريض يحصل عليها بالأسعار الجديدة، والتي يئن منها الكثيرون.