صدر في الأسبوع الأول من شهر يناير/كانون الثاني من هذه السنة، كتاب بالعنوان "دفاع عن اللغة العربية"، بالفرنسية، للباحثة نَدى يافي؛ وهي تشغل منصب مديرة اللغة والحضارة العربية، التابع للمعهد العربي بباريس.
وتُدلُّ الكاتبة بإلمام بالموضوع ودراية به، وتنطلق من فرضية أن اللغة العربية ليست مرتبطة بالضرورة بالإسلام، وُجدت قبل الإسلام، واستعملها غير المسلمين من مسيحيين ويهود، في مختلف الأزمنة، ولو أنها لم تشر في كتابها إلى الغنوصين أو اللا أدريين ممن جاهروا بغنوصيتهم واستعلموا العربية في شؤون الوجدان (الشعر)، والبيان (النثر) والبرهان من سجال وحجاج.
ليس الكتاب انطباعات سائح، أو تخرّصات متحامل، ولكن جهد باحث له إلمام واسع بقضايا اللغة العربية، وبمن عُني بشأنها، ولتاريخ نشأة اللغة العربية وتطورها، وهو كتاب خليق أن يُترجم إلى اللغة العربية، لأنه في جميع الأحوال، دفاع عن اللغة العربية ليس فيما يحمله العنوان فقط، ولكن فيما يتضمنه متن الكتاب من انتصار للغة العربية، يصدر عن غيرة، مشفوعة بالمعرفة العلمية.
ولكن ذلك لا يعفي من ملاحظات، ذلك أن ما تزعمه الباحثة من انعدام الصلة بين اللغة العربية والقرآن، يستدعي شيئاً من التمييز؛ إذ لا مُشاحّة أنْ ليس هناك بالضرورة تطابق ما بين اللغة العربية وبين الإسلام، ذلك أن هناك مسلمين غير عرب لا يتكلمون العربية وعددهم يربو على العرب، أي أن المسلمين غير العرب، أكثر عدداً من المسلمين العرب، ومثله عرب غير مسلمين، يستعملون العربية. وقد أشارت إلى المسيحيين العرب، سواء في ضحى الإسلام، أو في العصور الحديثة، وإلى اليهود، واستشهدت بالسموأل بن عاديا، من كان على ملة اليهود. لا جدال في ذلك، ولكن هل يمكن الزعم، بعد بزوغ الإسلام، أن غير المسلمين منفصلون عن الحضارة الإسلامية ؟ الحضارة لا تقوم على دين، وإن كان عنصراً منها، ولكن على قيم جامعة بلغة واحدة، تنصهر فيها أعراق وتتجاوز المعتقدات، فالحضارة الرومانية لم تكن شأن الرومان وحدهم، ولكن أداة وحدتها كانت اللغة اللاتينية. ولعل ما ينبغي أن يشار إليه أن بغداد، أو دار السلام، في أوج الحضارة الإسلامية بها، كانت تضم زهاء مليون نسمة، أو ألف ألف بتقدير ذلك الزمان، العُشر منها فقط كان مسلماً، أي أن تسعة أعشار لم يكونوا مسلمين، لم يكونوا يصومون رمضان، ولا يترددون على المساجد، ولا يؤمنون بتنزيل القرآن، ولكن هل كانوا خارج الحضارة الإسلامية ؟ ويمكن أن نقف عند مقابسات أبي حيان التوحيدي والمطارحات التي كانت تجمع المسيحي واليهودي والصابئ في دائرة مرجعية حضارية واحدة، مدارها لغة واحدة، في دائرة قيم مشتركة.
ولذلك لا تنفصل اللغة العربية عن الحضارة الإسلامية، في أوجها، وآية ذلك أن جميع لغات الأمم المسلمة، اغتنت من اللغة العربية، من حيث المعجم، من الفارسية والتركية والأمازيغية والأوردو والسواحلي…
و لا ترى الباحثة في الشعبوية إلا رد فعل "صحّي"، من أجل المساواة بين العرب والعجم، والثابت أن الشعبوية ظهرت في العهد العباسي حين كان للفرس صولة وتحَكُّم في دواليب الدولة، ولم يقتصر خطاب الشعبوية على الدعوة إلى المساواة، ولكنها كانت تحاملاً على العرب، لغتهم ومعتقدهم، وإزراء بهم، في صور مشينة.
وكان هذا الشعور المستشري هو ما دفع بالجاحظ لمقارعة الشعوبية ودحض دعاواها وتفنيد مزاعمها، مثلما يشير في كتابه البيان والتبيين، بل يمكن اعتبار جهد الجاحظ في حفظ اللغة العربية وتدوينها رداً على الشعبوية.
تقف الكاتبة عند جهد المسيحيين العرب، وإسهامهم في ترجمة التراث اليوناني، ولكن جهد الترجمة لم يقتصر على التراث اليوناني وحده، ولا يمكن أن يُختزل فيما أوردته من "فكر إغريقي وثقافة عربية". ولا جدال أن أثر الفكر الإغريقي كان قوياً سواء في بغداد أو الأندلس، ولكن العربية اغتنت في الشرق من التراث الفارسي والهندي كذلك، ومن المؤثر الروماني في الغرب (بالأندلس)، في الإدارة والقانون، وكان هناك أخذ ورد، ما بين اللغة العربية، والتراث الفارسي، ولا يتسع المجال لسرد من خدم اللغة العربية من الفرس. ولا يجادل أحد فيما قامت به دار الحكمة من أعمال ترجمة أجراها مسيحيون، ولكن لا ينبغي كذلك إغماط جهود ترجمات من الفارسية ومن لغة الهند.
ولا تقف الباحثة على العمل الجبار الذي قام به مسلمون عرب، أو عرب مسلمون، يأتي على رأسهم غير منازع الجاحظ، الذي اضطلع بما تنوء به العصبة من الرجال، وهو حلقة أساسية في تطور اللغة العربية، بأسلوبه الرشيق، ومعجمه الفريد، وكذلك في جمع اللغة؛ مما اضطلع به بخاصة في البيان والتبيين أو كتاب الحيوان.
ويُحسب للكاتبة أنها وقفت على اليهود العرب، وتشبعهم بالثقافة العربية، ولكنها لم تذهب أبعد سوى استشهادات لمختصين، واكتفت بسرد ابن ميمون ، ممن كتب كتابه المرجعي في التراث اليهودي "دلائل الحائرين"، والحال أن هناك مدرسة يهودية بالأندلس، كتب فيها أصحابها، باللغة العربية، في كل صنوف الكتابة، من شعر ونثر ومقالة، وتصوّف، بل في علم الكلام، وكان تأثرها واضحاً بعلم الكلام الإسلامي… ولئن توارى تأثير اليهود العرب، عدا الغناء، فلأنهم من أراد أن يدير ظهره في العصور الحديثة للغة العربية، لأنها حسب مزاعمهم، تمرر ثقافة شرقية غير عقلانية، حسب الرائج لدى خطاب الصهيونية.
والطريف ما أوردته الكاتبة عن تجربة اليهود بصقلية من اتخذوا اللغة العربية أداة في التعبير ووسيلة في الارتقاء الاجتماعي. ويُحمد للباحثة الوقوف عند تجربة صقلية، وهي تجربة كان لها تأثيرها في النهضة الإيطالية.
الفكرة المحورية التي تدفع لها الباحثة هي أن اللغة العربية منفصلة عن الدين، وأن الاتجاه العام هو نحو علمنة اللغة العربية. وهل تُفصل لغة ما عن مستعمليها؟ وهل تُفصل لغة عن تاريخها، وتاريخ مستعلميها؟ وهل تحررت اللغة الفرنسية من "إصر المسيحية" ؟ ولمَ يتجاوز عن 13 في طوابق العمارات في الولايات المتحدة؟
الملاحظات التي أوردتها لا تنقص من أهمية الكتاب، بل تفتح باب النقاش، للغة حية، لها تاريخ، ولها مستقبل؛ لأنها ليست مجرد لغة قومية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.