مصطلح "الشريك المفضل" شائع في الأعمال التجارية، لكن ليس له تعريف رسمي، فكيف يتسبب تطبيق واشنطن له في "فخ" لأصحابه في جنوب شرق آسيا تحديداً؟ وما علاقة الصين بالأمر؟
إذ إن الصين وأمريكا هما الآن القوتان الأعظم على المسرح الدولي، والحرب الباردة بينهما أصبحت حاضرة وليست مجرد توقعات، ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا والتحالف الوثيق بين موسكو وبكين، لم يعد هناك شك في سعي الولايات المتحدة إلى "احتواء" التنين الصيني.
وكانت صحيفة الغارديان البريطانية قد نشرت تحليلاً عنوانه "كيف يمكن منع وقوع حرب بين الولايات المتحدة والصين؟"، رصد كيف أن اندلاع حرب بين القوتين، بسبب أزمة تايوان بالأساس، قد أصبح احتمالاً حقيقياً، ما يشير إلى أن العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين يمكن وصفه بسنوات الخطر.
والرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي عدل الدستور وضمن البقاء في منصبه لـ5 سنوات أخرى على الأقل، مؤمن بأن الوقت قد حان لأن تأخذ بكين مكانها تحت الشمس، وأن النظام العالمي الذي تقوده أمريكا آن له أن ينتهي، ليحل مكانه نظام عالمي آخر تقوده الصين أو على الأقل يكون متعدد الأقطاب.
ماذا يعني "الشريك المفضل" لواشنطن في آسيا؟
مجلة Foreign Policy الأمريكية نشرت تحليلاً عنوانه "جنوب شرق آسيا تنسحق أمام التقارب الأمريكي"، ألقى الضوء على تطبيق الولايات المتحدة لسياسة "الشريك المفضل" وما يعنيه ذلك للدول التي تنطبق عليها تلك السياسة.
إذ كان السعي إلى ترسيخ الولايات المتحدة لمكانة الشريك المفضل سمة ثابتة في سياسة واشنطن الخارجية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ عبر إدارات متعددة. وبرغم أنَّ مصطلح "الشريك المختار" شائع استخدامه في كل من الأعمال التجارية والمؤسسات الحكومية، لكن ليس له تعريف رسمي، ويصف العلاقة الاقتصادية أو الأمنية طويلة الأجل، مع قيود ضمنية.
وفي حالة إدارة الولايات المتحدة، غالباً ما يتضمن هذا المصطلح جهداً نشطاً للتخلص من المنافس على الشراكة المذكورة، وتنحية الدول الأخرى التي تتودد إلى نفس الشريك أو المطالبة النشطة من الشريك بمعاداة هذا المنافس.
لكن تركيز واشنطن على هذا الأسلوب من الشراكة الحصرية يأتي بنتائج عكسية ويمثل نهجاً معيباً في منطقة جنوب شرق آسيا تحديداً، حيث لا يوجد مكان تتضح فيه صحة ذلك أكثر من تلك المنطقة.
صحيح أنه لدى واشنطن شركاء أكثر بكثير من الحلفاء الرسميين في معاهدة منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لكن حتى بعض حلفائها تربطهم علاقات دفاعية متفاوتة التعقيد مع أكبر منافسين جيوسياسيين لواشنطن، وهما روسيا والصين.
ففي جنوب شرق آسيا، سنغافورة، التي يمكن القول إنها أقرب شريك لواشنطن في المنطقة، ليست حليفاً رسمياً للولايات المتحدة، في حين أنَّ اثنين من حلفائها في المعاهدة (تايلاند والفلبين) أمضيا السنوات العديدة الماضية وهما يتجنبان التقرب الشديد من واشنطن بينما كانا يغازلان بكين.
وفي حين أنَّ إطار عمل الرئيس الأمريكي جو بايدن الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ يمثل إشارة اهتمام مرحب بها، لكن تنقصه تفاصيل كثيرة بالنسبة لإدارة تقترب من منتصف مدتها.
وتتخيل واشنطن إلى حد كبير الوصول لمكانة تكون فيها الشريك المفضل، وإذا كانت تتوقع أن تظل خياراً مقنعاً لأي نوع من الشراكة، فعليها أن تتحرك في المجالات التي تهم شركاءها أكثر من الاعتماد بالأساس على علاقاتها الأمنية، بحسب تحليل فورين بوليسي.
ماذا عن علاقات الصين في جنوب شرق آسيا؟
يفترض الكثيرون في واشنطن أنَّ دول المحيطين الهندي والهادئ والمؤسسات المتعددة الأطراف تشاركهم وجهة نظرهم بأنَّ الصين دولة معادية، أو أنها ترى الولايات المتحدة كقوة حميدة في منطقتها. ومن المؤكد أنَّ شعبية الصين، حسب استطلاع أجرته منظمات مثل مركز بيو للأبحاث، قد تراجعت في المنطقة. ويمكن أن يمثل التقارب مع بكين مصدر قلق بالغ لبعض دول المنطقة.
ومع ذلك، من الخطأ الافتراض أنَّ منطقة جنوب شرق آسيا ترى الولايات المتحدة على أنها دولة الفضيلة والخير بطبيعتها وأن الصين دولة سيئة وشريرة تماماً. وهذا افتراض خطير في منطقة لا تزال فيها ثلاث دول على الأقل -فيتنام وكمبوديا ولاوس- تكافح (مع بعض الدعم الأمريكي) للتخلص من الذخائر غير المنفجرة التي خلّفتها الحروب المدمرة والمروّعة، بجانب دول أخرى مثل إندونيسيا لا تزال تتذكر كيف سعت وكالات الاستخبارات الأمريكية إلى زعزعة استقرار حكوماتها.
تنظر معظم الدول في جنوب شرق آسيا إلى كل من الولايات المتحدة والصين بدرجة معينة من الخوف، لكن تجاربها مع بكين ليست بقدر الحدة التي تصورها بها واشنطن، كما أنَّ تفاعلها مع واشنطن ليس ودياً إلى هذا الحد.
فالبراغماتية وحدها تحدد العلاقات في جنوب شرق آسيا، وينعكس هذا في مؤسستها البارزة، رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، التي تعمل بتوافق الآراء وتتقدم بسرعة أبطأ أعضائها وأكثرهم تردداً في حل المشكلات ومنع الصراع.
ومع استثناء واحد ملحوظ على الأقل، نجحت المنظمة في تحقيق هذه الأهداف. ونظراً لأنَّ الدول الأعضاء في الآسيان شهدت النتائج المدمرة لمنافسة القوى العظمى في ساحتها الخلفية الجماعية خلال الحرب الباردة، فمن المستبعد أن تنضم إلى صف قوة عظمى أخرى.
لكن السردية المحيطة بفكرة أنَّ شركاء جنوب شرق آسيا قد يُجبَرون على الاختيار بين الولايات المتحدة والصين مستمرة في التفاقم، ورغم ذلك ستختار تلك الدول ما يصب في مصلحتها في نهاية المطاف. وتأتي في هذا السياق ملاحظة شائعة من رئيس الوزراء السنغافوري السابق لي كوان يو، "سواء تقاتلت الأفيال أو مارست الحب، يعاني العشب أسفل أقدامها".
سياسة التوازن بين الصين وأمريكا
تهتم دول جنوب شرق آسيا، ومعظم مناطق المحيطين الهندي والهادئ، بمضاعفة التعاون مع الفيلين -الولايات المتحدة والصين- دون الاقتراب من أحدهما لدرجة إثارة حفيظة الآخر.
لكن في الوقت نفسه، لا تريد أية دولة أن تعتمد على أي منهما لدرجة أنه في حالة حدوث انفراجة في العداء بين الولايات المتحدة والصين -وهو أمر مستبعد- قد تجد نفسها عُرضة للإكراه من جانب أحد نصفي مجموعة الاثنين الكبار G-2 التي كانت مُتخيَّلة في السابق.
كما أن التلاعب بالكبار ضد بعضهما لا يقل أهمية عن منعهما من الاقتتال، فلا أحد يريد أن يُسحَق تحت العناق الحماسي لبكين وواشنطن، مهما بدا اتحاد هذين الضخمين غير قابل للتصديق.
إنَّ ساحة المنافسة الحقيقية هي الاقتصاد وليس الدفاع والأمن. نعم، العلاقات الدفاعية مهمة، والولايات المتحدة لديها علاقات دفاعية عميقة ومهمة تستحق الاهتمام المستمر. لكن حتى في هذا المجال، ستظل الولايات المتحدة شريكاً مفضلاً، وقد لا تحب أن يشاركها آخرون في هذا المجال.
إنَّ الوعظ المستمر من جانب واشنطن لجنوب شرق آسيا بشأن الاقتصاد المفترس لبكين يتسم بالرعوية وينم عن تقدير ضعيف لقدرة المنطقة على تحديد مصالحها. فهذه الدول الشريكة ليست عمياء عن الممارسات المالية في الصين.
كما أن دول المنطقة تدرك جيداً استجابة الولايات المتحدة للأزمة المالية الآسيوية عام 1997، ومؤخراً دور الولايات المتحدة في الأزمة المالية العالمية لعام 2008. لا ينجذب أي بلد في جنوب شرق آسيا إلى احتمال اعتماد الحصرية الكاملة في العلاقات مع الولايات المتحدة أو الصين في أي قطاع. ومحاولة تغيير ذلك لن تسفر عن أي شيء سوى مزيد من الإحباط لشركاء واشنطن.
ومن ثَمَّ، يكمُن أمل واشنطن الأكبر من أجل تعزيز أهداف سياستها في جنوب شرق آسيا، وفي منطقة المحيطين الهندي والهادئ الأوسع، في قدرتها على الانخراط مع هذه الدول بصفة الشريك الاقتصادي الموثوق والشريك الأمني المستقر.
لكن توقع أو إقناع دول جنوب شرق آسيا بالانضمام صراحةً إلى مبادرات مناهضة للصين، أو مقاومة اتفاقيات التجارة الحرة، أو البقاء خارج الترتيبات الاقتصادية المتسارعة مثل الاتفاق الشامل والتقدمي للشراكة عبر المحيط الهادئ، لن يؤدِي إلى النتائج المرغوبة من سياسات واشنطن.
الخلاصة هنا هي أنه ما لم تغير إدارة بايدن من سياستها الخارجية، وبخاصة في جنوب شرق آسيا، فعلى الأرجح سيظل العالم معرضاً لخطر حافة الهاوية خلال العام الجديد، كما كانت الأمور في عام 2022، فالصراع بين واشنطن وبكين وصل إلى مرحلة خطيرة للغاية خلال العام المنصرم، ولا يبدو أنه سيتلاشى في العام الجديد.