انقضى عام 2022 على الليبيين دون إجراء الانتخابات، بل عاد الانقسام إلى البلاد مجدداً، بينما يدخل عام 2023 حاملاً معه عدة سيناريوهات متضاربة، وتحالفات معقدة إلى حد التناقض، وبصيص أمل للوصول إلى نهاية النفق، يخفي نذر حرب تتقد نارها في صمت.
فالمشهد الحالي مع مطلع العام الجديد، يتجلى في وعود رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة، أن تكون 2023 سنة إجراء الانتخابات، بينما يضغط المبعوث الأممي عبد الله باتيلي، بدعم غربي، على رئيسي مجلسي النواب والدولة الليبية لإنهاء الاتفاق على القاعدة الدستورية ووضع خارطة طريق للانتخابات.
من جهتهما، استأنف كل من عقيلة صالح رئيس مجلس النواب، وخالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة (الغرفة الثانية للبرلمان) اتصالاتهما، بعد تجميد الأول قانون إنشاء المحكمة الدستورية المثير للجدل.
ورغم هذه المؤشرات الإيجابية حول إمكانية التوصل إلى اتفاق ينهي المراحل الانتقالية إلا أن سيناريوهات أخرى تطل برؤوسها لدفع المشهد الليبي نحو التعقيد أكثر، خاصة أن هناك من يسعى لنسف أي اتفاق لا يوصله أو يبقيه في السلطة، وفق مقولة "أنا وبعدي الطوفان".
2022.. عودة الانقسام
بعد ضياع فرصة إجراء الانتخابات، في 24 ديسمبر/كانون الأول 2021، في مرحلة تحديد القائمة الرسمية والنهائية للمترشحين، استمر إهدار الفرص لوضع إطار دستوري وقانوني وزمني لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية متزامنة.
وواجه هذا الهدف انحرافاً عن المسار، عندما تبنى رئيس مجلس النواب خطة جديدة تركز على تغيير رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة، بدل البحث عن سبل مقبولة من جميع الأطراف لإجراء الانتخابات.
نجح عقيلة صالح، في تشكيل حكومة جديدة بالتحالف مع الرجل القوي في المنطقة الغربية فتحي باشاغا، لكنه فشل في إسقاط حكومة الدبيبة، سواء سياسياً أو حتى عسكرياً.
إذ لم تتمكن حكومة باشاغا من دخول طرابلس لا سلماً ولا حرباً، بعد انحياز الجزء الأكبر من أعضاء مجلس الدولة لحكومة الدبيبة، وكذلك الأمر بالنسبة لكتائب المنطقة الغربية.
حيث مالت الكفة عسكرياً للقوة الداعمة لحكومة الدبيبة، رغم وجود كتائب قوية في المنطقة الغربية داعمة لحكومة باشاغا.
وحافظت حكومة الدبيبة على الاعتراف الدولي، رغم جهود النظام المصري لسحب هذا الاعتراف، ليكون لحكومة باشاغا.
بينما تمكن مجلس الأمن الدولي من الاتفاق على تعيين السنغالي عبد الله باتيلي، مبعوثاً أممياً جديداً إلى ليبيا بعد أشهر من شغور هذا المنصب بسبب خلافات الدول الأعضاء.
ومن خلال هذا التدافع بين مختلف الأطراف الداخلية والدولية يمكن استشراف سيناريوهات 2023.
السيناريو الأول: اتفاق تاريخي
الضغوط الداخلية والدولية وحتى الشعبية على رئيسي مجلسي النواب والدولة وتحميلهما مسؤولية عدم الاتفاق على قاعدة دستورية وإجراء الانتخابات من شأنها تسريع الوصول إلى اتفاق تاريخي يمهد لإجراء الانتخابات، خاصة أن الأمم المتحدة والدول الغربية تلوح بعصا "الآليات البديلة".
وكل من صالح والمشري يبديان مرونة ورغبة في التوصل إلى اتفاق ينهي الأزمة، بدليل تجميد مجلس النواب قانون المحكمة الدستورية، المثير للجدل، واستئناف مجلس الدولة اتصالاته مع "النواب".
لكن هناك عقبة رئيسية يجب تجاوزها للوصول إلى اتفاق حتى لا تتكرر نفس الانتكاسات التي وقعت خلال السنوات الماضية، ويتعلق الأمر بترشح مزدوجي الجنسية والعسكريين.
فصالح، وتحت ضغط قائد قوات الشرق الليبي خليفة حفتر، متمسك بترشح مزدوجي الجنسية والعسكريين، في حين يرفض المشري، بشدة، ترشح حفتر للرئاسة، وتفصيل أي قاعدة دستورية على مقاسه.
والسؤال المطروح، من يقدم تنازلاته للآخر، صالح أم المشري؟ فالإجابة صعبة؛ لأنه من الظلم تحميل الرجلين المسؤولية الكاملة لفشل الاتفاق على قاعدة دستورية، لأنهما لا يملكان لوحدهما سلطة اتخاذ قرار بهذا الحجم.
وقد يضحي المشري بالدبيبة، مقابل تضحية صالح بحفتر، بينما تبدو مسألة استبعاد سيف الإسلام القذافي من الترشح للرئاسة شبه محسومة.
لأنه إذا تم استبعاد الشخصيات الجدلية الثلاثة (حفتر والدبيبة والقذافي الابن) من الترشح للرئاسة، فلن يكون هناك نظرياً عقبة أمام التوصل لاتفاق تاريخي حول القاعدة الدستورية.
غير أن هذا السيناريو يتطلب عدم اعتراض كل من حفتر والدبيبة والقذافي على استبعادهم من السباق الرئاسي، وهذا مستبعد، إلا إذا مورست عليهم ضغوط دولية حاسمة.
وزيارة عقيلة صالح إلى تركيا ثم مصر، مؤخراً، وفق النائب إبراهيم زغيد، تصب في البحث عن دعم من القوى الدولية الفاعلة في ليبيا، لأي اتفاق يتم التوصل إليه بين مجلسي النواب والدولة، ولو على حساب حليفيهما في البلاد (الدبيبة وحفتر).
السيناريو الثاني: اتفاق حفتر والدبيبة
أي اتفاق بين عقيلة وصالح، وفق السيناريو الأول، سيكون ضحيته حفتر والدبيبة، بالدرجة الأولى، بالنظر إلى امتلاكهما سلطة الأمر الواقع، ما قد يدفعهما إلى الجلوس معاً عبر ممثليهما لإجهاض مثل هذا الاتفاق.
ويدعم هذا السيناريو، ما كشفت عنه وكالة نوفا الإيطالية، عن إجراء حفتر "اتصالات سرية مع سلطات طرابلس، ما أدى فعلياً إلى التخلي عن دعم الحكومة الموازية في طبرق"، وفق ما نقلته عنها وسائل إعلام ليبية بينها موقع "المستقبل".
وسبق أن تحدثت عدة وسائل إعلام عن اتفاق بين حفتر والدبيبة، لتعيين فرحات بن قدارة، المحسوب على المنطقة الشرقية، مديراً عاماً للمؤسسة الليبية للنفط، مقابل فتح أنصار حفتر الحقول والموانئ النفطية، في الصائفة الماضية.
غير أن حفتر لم يتخل حينها عن حكومة باشاغا، لكنه قد يغير تكتيكه هذه المرة، إذا كان ذلك يصب في مصلحته، خاصة أنه يواجه مع الدبيبة تهديداً مشتركاً.
وفي هذا السياق، هاجم الدبيبة كلاً من صالح والمشري، وحملهما مسؤولية فشل انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2021، متماهياً مع رأي المبعوث الأممي، وهو بذلك يمارس ضغطاً على الرجلين من أجل عدم حرمانه من الترشح للرئاسيات المرتقبة.
السيناريو الثالث: حفتر سيهجم على طرابلس
أسوأ الاحتمالات أن يلجأ حفتر إلى خيار انتحاري بالهجوم مجدداً على طرابلس للاستيلاء على السلطة، رغم أن الأوضاع الداخلية والدولية مختلفة تماماً عن 2019، ولا تصب في مصلحته.
لكن حفتر معروف عنه اندفاعه وهوسه بالسلطة، ولن يتردد في الهجوم على طرابلس والمنطقة الغربية، إذا ما وجد نفسه خارج اللعبة السياسية، أو ما تسميه المستشارة الأممية السابقة ستيفاني وليامز "لعبة الكراسي الموسيقية".
لكن التواجد العسكري التركي في الغرب الليبي يمثل ضمانة أمنية لعدم انتصار حفتر في أي مغامرة عسكرية للسيطرة على طرابلس، كما أن الجزائر سبق لها وأعلنت طرابلس خطاً أحمر، ناهيك عن أن الولايات المتحدة في عهد جو بايدن، لا تبدي حماسة لمغامرات حفتر العسكرية.
فالوضع الدولي لا يسمح لحفتر بالهجوم على طرابلس والاستيلاء على السلطة، خاصة أن شركة فاغنر الروسية الداعمة له منهمكة في الحرب بأوكرانيا.
ومن المستبعد أن يوافق باشاغا، والكتائب الداعمة له في المنطقة الغربية، على المشاركة في عملية عسكرية يقودها حفتر للسيطرة على الحكم، خاصة أنه كان من أبرز الشخصيات السياسية التي تصدت لهجومه في 2019.
وما يملكه حفتر في الوقت الحالي، تكثيف تحركاته العسكرية سواء من خلال المناورات العسكرية أو القيام بعمليات استعراضية ضد الجيش الليبي بالمنطقة الغربية، أو ضد تحركات الجماعات الإرهابية وعصابات التهريب في الجنوب، بالإضافة إلى التصريحات النارية الملوحة بالحرب.
فتلويح حفتر بالحرب، وإعلانه منح "فرصة أخيرة للسياسيين" لإنهاء الجمود السياسي، المقصود منه إثبات أنه ما زال عنصراً رئيسياً في معادلة السلام والحرب بالبلاد، وأن بإمكانه قلب الطاولة على السياسيين إن فكروا في إخراجه من السباق الرئاسي.
فعام 2023، مفتوح على سيناريوهات متعددة؛ فإما انتخابات بأسماء جدلية أو بدونها، أو تحالف الأضداد لإبقاء الوضع القائم، وإلا العودة إلى مربع الاقتتال.