الفتوة لغة "صفة الفتى"، أمّا المعنى الاصطلاحي الإسلامي فيجمع فضائل الأخلاق من "المروءة، والشجاعة، والكرم، ونكران الذات، والتضحية والإيثار، وإغاثة الملهوف، ونصرة صاحب الحق، ورعاية الضعفاء". وقد تطوّر هذا المصطلح وتبدّل عبر العصور، فحمل في كلّ عصرٍ صفات مستقلة… تعالوا نلق نظرة على عالم "الفتوات" من العصر الجاهلي وحتى العصر الحديث:
اختلاف مصطلح "الفتوات" عبر العصور
الفتى في العصر الجاهلي هو "الفارس، الشهم، الشجاع، الذي يتحلّى بالمروءة والكرم والشجاعة وفضائل أخرى".
وفي صدر الإسلام حملت الكلمة صفات "المُثل والفضائل" وتبلورت في مثال الإمام علي بن أبي طالب. فتى الفتيان و(لا فتى إلا علي)، وبذلك أصبحت الفتوة مرتبطة بالدين، وهي فتوة زاهدة غايتها الجهاد والشهادة.
ثمّ انقسمت تلك الفتوة إلى نوعين "الفتوة العسكرية" التي تضم جماعة الجهاديين المحاربين. و"الفتوة الصوفية" التي تضم الفتيان المتصوفة.
وقد اندسّت في صفوف هؤلاء جماعات كان هدفها النهب، وقد أتاح لهم الانضمام إلى الجماعة المتطوعة الذين يرابطون عادة في الثغور، الفرصة لتحقيق أطماعهم. وابتعدوا بذلك عن العقيدة الجهادية المقدسة.
ونرى صورة هؤلاء المطوّعة الذين انغمسوا بالملذات في كتاب "سيرة الأميرة ذات الهمة". وقد كان السبب المباشر لانحراف هؤلاء عن الصورة النمطية "للفتوة"، احتكاكهم بالمجتمع المسيحي البيزنطي، حيث انصرفوا للعبث ومتع الحياة اللاهية فانقلبت "الفتوة" إلى "شطارة وعيارة" واتصفوا بالقوة، وانغمسوا بالألعاب، والشراب، والجنس. لكنّهم حافظوا على بعض الصفات الجميلة "كالوفاء والنجدة والكرم".
فتيان الشام والعراق
وأقدم نموذج لهؤلاء الفتيان ظهر في الشام والعراق، وعرفت طبقتهم باسم "الفتيان" واشتهروا بحبِّهم للغناء، وتنوّع أتباعهم، فمنهم الثائرون على الدولة، ومنهم الرعاع واللصوص، ومنهم العابثون.
لا يختلف "الفتيان" عن الشطّار والعيارين في فلسفتهم، وفهمهم للحياة، وأخلاقهم، وسلوكهم. ومنهم فئة على جانب من الثقافة الدينية والأدبية، ويمتلكون حسّاً ساخراً وظرافة متناهية ولهم في ذلك قصص وحكايات.
روى أبو العباس محمّد بن يزيد، المعروف بـ"المُبَرِّد" وهو عالمٌ في النحو والبلاغة والنقد. قصّة سمعها في مجلس أبي مروان بن عبد العزيز بن الماجشون في البصرة، أنّ لصاً من الفتيان تعرّض لصاحب بستان وأمره بأن يخلع ملابسه ليرتديها هو، فقال له الرجل: "أقسم لك بأنّي إن وصلت إلى بستاني نزعت ثيابي، وأعطيتك إياها". فقال اللص: "لا، إنا روينا عن مالك بن أنس أنّه قال: لا تلزم الأَيمان التي يحلف بها اللصوص. فقال الرجل: والله لأوجهنّ لك الثياب بطيبة نفسي. قال اللص بعد تفكير: "تصفحت أمر اللصوص من عهد الرسول صلّى الله عليه وسلم، فلم أجد لصاً أخذ بنسيئة، وأكره أن أبتدع بِدعةً في الإسلام يكون عليَّ وزرها ووزر من عمل بها بعدي إلى القيامة، اخلع ثيابك. قال الرجل: "أتعريني، وتبدي عورتي؟". قال اللص: "قد روينا عن مالك بن أنس أنّه قال: لا بأس أن يغتسل الرجل وهو عريان". قال الرجل: قد يلقاني الناس، ويرون عورتي". قال اللص: لو كان الناس يلقونك في هذا الطريق ما عرضت لك". فقال الرجل: "أراك ظريفاً فدعني أصل البستان فأعطيك الثياب". قال اللص: "كلا تريديني أن أصل البستان فوجه إليّ أربعة من عبيدك، فيحملونني إلى الوالي فيحبسني. اخلع ثيابك". فخلعها.
الناصر زعيم الفتوات
وقد ارتدّ الفتيان عن الجهاد والأخلاق الإسلامية في فترة حروب العرب والروم، فقد خذلهم خلفاؤهم حين تهاونوا في الجهاد والدفاع عن البلاد من ضربات الروم، وانصرفوا إلى لهوهم وصراعاتهم الداخلية والروم تهاجم المدن في غفلة من الجيش النظامي للخلافة، وتسبي، وتنهب، وتعود أدراجها.
مرّ زمن بعد ذلك أصبح الفتيان أشبه بالعيارين والشطّار، بل مثلهم، حتّى قام الخليفة الناصر لدين الله بمحاولة تصحيح لمسار الفتيان ليعود بهم إلى سيرتهم الأولى "فتوة السلف الصالح" بعد أن أخافه ما رأى منهم من خروجٍ عن طاعة الخليفة، وتمردهم، وعصيانهم. استنَّ الناصر قوانين جديدة لتوحيدهم تحت رايته، ونصّب نفسه زعيماً لهم. واختار لهم كبيراً هو الشيخ الزاهد العابد "عبد الجبّار البغدادي. ولبس لباس الفتيان الخاص، وشرب الماء المالح واتّخذ الإمام علي مثلاً له، والتحق به كثيرون من الأمراء وأكابر الدولة، وأصدر منشوراً يبطل الفتوة القديمة ويعتمد الهيئة الجديدة منها. وقد كتب المؤرخ "ابن المعمار" كتاباً بعنوان "الفتوة" جاء في عشرة فصول، وضّح فيه كلّ ما يتعلق بشأن الفتيان في عهد الناصر.
وفسّر المؤرخون تصرف الناصر على عدة أوجه:
1ـ ذهب البعض إلى أنّ الناصر أراد أن يجعل من هؤلاء خطّ دفاع يقي البلاد من زحف الصليبيين.
2ـ والبعض الآخر يرى أنّ الخليفة الناصر فعل ذلك مستغلاً ضعف الدولة السلجوقية ليحقّق طموحه البعيد بإعادة المكانة للخلافة العباسية.
3ـ جعل بغداد المركز العالمي للسياسة في الشرق، وجميع بلاد المسلمين.
لكنّ ابن خلدون في كتابه "العبر" يقول: "وكان الناصر مع ذلك كثيراً ما يُشغل برمي البندق واللعب بالحمام المناسيب، ويلبس سراويل الفتوة شأن العيارين من أهل بغداد".
قويت شوكة الفتيان، ولم يلتزموا بأوامر الخليفة ولا بآدابه وتقاليده، كان اهتمامهم بالطقوس الشكلية فقط.
كان من الطبيعي أن تفشل سياسة الناصر فقد أراد تدجين هؤلاء وإخضاعهم لسلطة الدولة عن طريق احتواءهم وتزعمهم بعد أن فشل من سبقوه في القضاء عليهم. وهم يمثلون الوجه الشعبي المعارض للسلطة.
خلفاء العباسيين الذين جاؤوا بعد الناصر اقتفوا أثره في العناية بالفتوة، وبعد سقوط الدولة العباسية في بغداد وإحيائها في مصر نقلوها إلى الدولة المملوكية فلاقت رواجاً في بيئات المتصوفة من دون أن يكون لها تأثير سياسي.
وانتهى بها الأمر إلى ما يعرف باسم "فتوة الأصناف" أو الطوائف ومعظم هؤلاء من أصحاب الحِرف والصنائع.
نخلص إلى أنّ فتوة الناصر كانت محاولة فاشلة لإعادة هيكلة الدولة "دينياً وسياسياً وعسكرياً"
أحداث الشام
أطلق المؤرخون على "الفتية" في بلاد الشام لقب "الأحداث" وهم طائفة من المعارضة الشعبية انتهجت سياسة "الشّطّار والعيارين" في رفضها للواقع الاجتماعي والسياسي. وقد تركت أثرها في الأدب الشعبي، كما فعلت في الضمير القومي.
والأحداث جمع "حدث"، أيّ الشاب أو الفتى. وكان لهؤلاء الأحداث دور في الحروب والفتن والثورات مثلما كان للشطّار. ووصفهم المؤرخون القدماء بـ "بالشُّطَّار، والعُيّار، والزُّعّار، وحمّال السلاح، وطالبي الشر والفساد".
وقد بلغت حركتهم أوج نشاطها في القرن الرابع الهجري وما بعده.
واعتبرهم المؤرخون "ابن الأثير" و "ابن جبير" و "ابن المعمار" من فروع "الفتيان". وقد كتب الدكتور "شاكر مصطفى" دراسة بعنوان "الحركات الشعبية وزعماؤها في دمشق في العهد الفاطمي، صفحات مجهولة من تاريخ دمشق"
جاء فيها أنّ تلك الطوائف "الأحداث" أرادت أن تعبِّر بشكلٍ أو بآخر عن رفضها للقوى الخارجية الطامعة ـ عباسية، فاطمية، قرمطية، رومية"، وعن رغبتها في إقامة حكم محلي شعبي. مما دعا السلطة إلى التآمر مع القوى الخارجية ضدّ هؤلاء.
وقد كانت حركة الأحداث في القرن الثالث الهجري أكثر تنظيماً ووعياً لدورها القتالي، وشكّلت حرساً شعبياً لحماية الشام. وقاومت الحكم الفاطمي مقاومة مستميتة لأسباب مذهبية وسياسية واقتصادية في القرنين الرابع والخامس الهجريين. لكنّها ما لبثت أن فقدت هذا الدور في نهاية العهد الفاطمي.
وقد حدثت خلال تلك الفترة عدة ثورات حملت أسماء زعمائها من "الأحداث" مثل ثورة ابن عصودا، وثورة ابن المارود، وثورة الدهيقين. وأشهر تلك الثورات ثورة قسّام التراب.
وقد وصفهم المؤرخون بالشطّارة والعيارة. بينما يذهب الدكتور شاكر مصطفى إلى أنّ ابن المارود زعيمٌ شعبي استطاع أن يقيم نوعاً من السلطة الحكومية الشعبية في دمشق.
وقد تحوّلت تلك الحركات في بعض مراحلها إلى نوع من التمرد الطبقي ضدّ الأثرياء والحاكمين والمتنفذين.
وقد يكون قسّام التراب، أو كما أطلقوا عليه "الزبَّال أو السقّاط" هو النموذج الذي يمكن أن نأخذ من خلاله فكرة عن باقي الثوار من الأحداث. وقد اتفق المؤرخون على أنّه كانت له الرياسة على حمَلة السلاح والشطّار والعيارين، وأنّ قوته بلغت شأواً كبيراً إلى حد كان يمنع فيه الولاة الرسميين من دخول دمشق إلا بإذنه. وكان بينه وبين الملوك والخلفاء مراسلات وأمام تعاظم نفوذه، اضطرت الدولة الفاطمية إلى إعداد جيش قوي لمواجهته. وبعد حصار طويل لدمشق ومفاوضات فاشلة بين الطرفين انتهى الأمر بالقتال الذي استمرّ ثمانية أيام، فهزم قسّام، واستسلم العامة. ولم يخرج مع قسّام سوى حزبه من العيارين وبعض رجال القرى الذين ساندوه، وقاتلوا معه. وعلى الرغم من انتصار الفاطميين فإنّ القلق بشأن الأحداث لم يفارق قائدهم حتى اختفى أثر قسّام فدخلوا بيته، ونزلوا ببيوت أصحابه، ونادوا على جائزة بقيمة خمسين ألف درهم لمن يدل على مكانه.
خلال السنوات السبع التي حكم فيها دمشق اتّخذ قسّام علماً خاصاً، وشعاراً يذكّره بأصله عندما كان زبّالاً، وهذا نوع من التحدي الطبقي، وعدم الانفصام عن الواقع الذي خرجت منه الثورة رغبة في تعديله وتحسينه.
تأكدت الخلافة الفاطمية أنّه لا استقرار لها بوجود هؤلاء "الأحداث" فاستدعى القائد الفاطمي "ابن الصماصمة" قادة الأحداث تباعاً إلى مصر، وعفا عنهم، وخلع عليهم، واستمالهم ورجالهم إلى أن حدثت نكبتهم حين قام القائد الفاطمي بمذبحة مروعة قتل فيها الآلاف منهم بعد أن أمنوا جانبه، وصاروا تحت جناحه. وبقيت آثار تلك المذبحة عشرات السنين لم يقم فيها قائمة للأحداث، وانكسرت شوكتهم وهادن من بقي منهم السلطات، وانصرف عامة الشعب عنهم.
وإن قامت حركات مشابهة إلا أنّها لم تكن قوية ولم تستمرّ طويلاً.
وقد انتقلت الحركة من دمشق إلى "صور"، حيث ظهر شخص ملّاح يدعى "علاقة" نظّم ثورة باسمه في المدينة، وبلغ به الأمر أن "سكّ" نقوداً باسمه، كتب عليها "عِزّاً بعد فاقة للأمير علاقة". مما اضطر الدولة الفاطمية إلى إرسال أسطول بحري للقضاء عليه.
الفتوات في الرواية الحديثة
وفي الأدب الحديث استلهم الروائي السوري "حنامينة" شخصية سعيد حزوم، في روايته "حكاية بحار" من أجواء هؤلاء البحارة الذين حاولوا القيام بثورة، فكان سعيد حزوم في الرواية يحاول تحقيق ذاته من خلال بطولاته الخاصة.
والمعروف أنّ الروائي حنامينة المولود في مدينة إسكندرون والذي عاش حياته في اللاذقية، هو ابن البحر وكلّ روايته تدور في فلك البحر وأنوائه. وأشهرها "نهاية رجل شجاع" الذي يمكن أن ينطبق عليها ما قلناه عن "حكاية بحار".