أثار الرئيس الأمريكي جو بايدن صراع القوى الكبرى مع نظيريه الروسي فلاديمير بوتين، والصيني شي جين بينغ، ما دفع العالم إلى حافة الهاوية خلال 2022، فإلى أين يتجه ذلك الصراع الجيوسياسي في عام 2023؟
رغم أن العالم يعاني من أزمات متعددة كل عام، بعضها يكون إثر كوارث طبيعية والبعض الآخر يكون من صنع البشر، فإن عام 2022 شهد أحداثاً حفرت مكانها في التاريخ دون شك، أبرزها الحرب في أوكرانيا التي أثرت سلبياً على جميع دول العالم وشعوبه، والصراع المفتوح بين الصين وأمريكا، الذي تسبب في مرحلة من التضخم بمستويات لم تُسجَّل منذ عقود، مع ارتفاع أسعار سلع وخدمات ضرورية مثل الطعام والتدفئة والنقل والإقامة.
جو بايدن.. السعي لاستعادة "قيادة" أمريكا خلال 2022
عندما دخل جو بايدن البيت الأبيض رئيساً مطلع عام 2021 خلفاً لدونالد ترامب، رفع الرئيس الأكبر سناً في تاريخ أمريكا شعار "أمريكا عادت لقيادة العالم"، لكن العام الأول من رئاسة بايدن كان واحداً من الأعوام السيئة للغاية بالنسبة لتلك "القيادة" الأمريكية للعالم.
فمن مشاهد اقتحام الكونغرس يوم 6 يناير/كانون الثاني 2021، إلى مشاهد الهرولة للانسحاب من أفغانستان قبل الموعد النهائي الذي حددته حركة طالبان للجيش الأقوى في العالم، وصولاً إلى رفع إيران سقف مطالبها في مفاوضات الاتفاق النووي بصورة غير مسبوقة، وجد الأمريكيون أنفسهم في موقف لا يُحسدون عليه.
وكانت تلك فقط بعضاً من ملفات السياسة الخارجية التي واجهت فيها إدارة بايدن، في عامها الأول، تحديات كان بعضها "مهيناً"، لكن الأوضاع الداخلية ربما كانت أسوأ بكثير، سواء من الجانب الاقتصادي وأزمة جائحة كورونا وتبعاتها الصحية والاجتماعية، أو من الجانب السياسي الذي غلب عليه الاستقطاب بصورة غير مسبوقة، وتسبب في حالة من الضبابية التشريعية تُغلّف أروقة الكونغرس.
لم تعد واشنطن مركز العالم كما كانت منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي وانفراد الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمي دون منازع، على مدى نحو نصف قرن تقريباً، لكن بايدن ظل يردد أن أمريكا "عادت" لقيادة ما يسميه "العالم الحر" في مواجهة ما يسميه "الاستبداد والديكتاتورية"، قاصداً بذلك نظيره الروسي بوتين والصيني شي جين بينغ، دون أن يسميهما غالباً.
ومع بداية عام 2022، ركز بايدن كل اهتمامه على الأزمة الأوكرانية من جهة وعلى المنافسة مع الصين من جهة أخرى، وكلتا القضيتين لم تكن جديدة بطبيعة الحال، فالأولى تعود إلى عام 2014، بينما الثانية أشعلها ترامب، الذي من المفترض أن بايدن جاء كي "يصلح ما أفسده".
إذ إن الأزمة الأوكرانية هي بالأساس صراع جيوسياسي بين وريث الاتحاد السوفييتي -روسيا- وبين الغرب بقيادة أمريكا. فبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، حصلت أوكرانيا على استقلالها عام 1991، وفي عام 2004، اندلعت ثورة البرتقال في أوكرانيا، وأطاحت بالرئيس يانكوفيتش لصالح يوشتشنكو (الأول أقرب لروسيا والثاني أقرب إلى الغرب). وبدأت مرحلة جديدة من التقارب في العلاقات بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
لكن انتخابات 2010 أعادت يانكوفيتش إلى رئاسة أوكرانيا، وبدأ يتخذ إجراءات لوقف التعاون مع الاتحاد الأوروبي، في ظل وجود انقسام واضح داخل أوكرانيا بشأن مستقبل البلاد بين فريقين، الأول يميل إلى الغرب ويريد الانضمام لحلف الناتو وقاعدته الرئيسية في الأقاليم الغربية من البلاد، والثاني يريد التقارب مع روسيا والانضمام لها رسمياً، وقاعدته في الأقاليم الشرقية التي يتحدث أغلب سكانها اللغة الروسية كلغة أولى.
ومطلع عام 2014 اندلعت ثورة ضد الرئيس يانكوفيتش، على غرار ثورة البرتقال، التي كانت أيضاً داعمة للتقارب مع الغرب، لكن الرئيس وقوات الأمن الأوكرانية استخدموا العنف -عكس ما حدث في ثورة البرتقال- فسقط نحو 100 قتيل برصاص قناصة تابعين للأمن الأوكراني، وفي النهاية هرب يانكوفيتش من العاصمة كييف واتجه نحو الشرق.
وتولى زعماء المعارضة الحكم خلفاً ليانكوفيتش، وأصدروا أوامر باعتقاله ومحاكمته بتهمة قتل المتظاهرين، لكن موسكو اعتبرت السلطة الجديدة في كييف "تمرداً مسلحاً"، بينما وجدت السلطة الجديدة في كييف دعماً متواصلاً من أوروبا الغربية والولايات المتحدة.
وأعلنت الأقاليم الشرقية في أوكرانيا عدم اعترافها بالحكومة المركزية في كييف، ومن تلك الأقاليم شبه جزيرة القرم ودونباس وغيرهما. واشتد القتال في تلك الأقاليم بين القوات الحكومية الأوكرانية من جهة، والقوات الانفصالية من جهة أخرى. وأعلنت حكومة إقليم القرم الانفصال عن أوكرانيا وإعلان جمهورية القرم المستقلة.
ووجّه حاكم القرم رسالة رسمية إلى روسيا طالباً الانضمام إلى موسكو، ودخلت القوات الروسية إلى الإقليم وأعلنت ضمه رسمياً إليها في 2014، ما أدى إلى فرض عقوبات على موسكو من جانب الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا، لكن ذلك لم يوقف الدعم الروسي للانفصاليين في الأقاليم الشرقية الأخرى.
من الطبيعي إذاً أن يطرأ السؤال البديهي: لماذا لم تتدخّل الولايات المتحدة وحلفاؤها، في ذلك الوقت، كما فعلوا هذه المرة؟ والحقيقة هي أنهم تدخلوا بالفعل، ولكن بطريقة مختلفة تماماً كانت للدبلوماسية فيها الكلمة العليا، وهو ما أدى إلى تفادي اندلاع الحرب، عكس ما حدث هذه المرة.
ويرى كثير من المحللين والمراقبين، وحتى المسؤولين الغربيين، أن كلمة السر في تفادي الحرب وقتها هي المستشارة الألمانية السابقة، أنجيلا ميركل، التي قادت الجهود الدبلوماسية، مما أدى إلى توقيع اتفاقيات مينسك وتجميد الصراع ونزع فتيل برميل البارود.
اختلف تعامل بايدن مع الأزمة تماما منذ بدايات عام 2022، فيما وصفه محللون غربيون بأنه "هروب للأمام" من جانب الرئيس الأمريكي، الذي وجد في أوكرانيا وأزمتها مع روسيا فرصة سانحة للتغطية على جبال المشاكل الداخلية في بلاده. رفض بايدن جميع المقترحات التي كان يمكن لأي منها تجنيب أوروبا والعالم تلك الحرب الكارثية، لتبدأ موسكو هجومها على كييف، الذي تصفه روسيا بأنه "عملية عسكرية خاصة" بينما تصفه واشنطن بأنه "غزو عدواني غير مبرر".
ورغم دخول الحرب في أوكرانيا شهرها الحادي عشر، لا يزال بايدن متبعاً استراتيجيته التي وصفتها تقارير أمريكية بأنها "مرعبة"، إذ تتمثل في إطالة أمد الحرب حتى إضعاف روسيا تماماً، وهو ما يشير إلى أن عام 2023 ربما يكون أسوأ بالنسبة للعالم والسبب تداعيات تلك الحرب التي كان يمكن تفادي اندلاعها من الأساس.
نعم، حقق بايدن بعضاً مما أراد، فأوروبا عادت لتعتمد بشكل كامل على أمريكا فيما يتعلق بالأمن، وأرسلت واشنطن عشرات الآلاف من قواتها للتمركز في القارة العجوز، كما كانت الأوضاع أثناء الحرب الباردة مع المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي.
لكن استراتيجية صراع القوى العظمى التي يتبعها بايدن ليست مضمونة النجاح، كما حدث خلال إدارة الحرب الباردة السابقة، وذلك لأن هناك الآن متغيرات كثيرة على جميع المستويات مقارنة بما كان عليه العالم قبل تلك العقود الطويلة، كما أن قوانين الحمائية الاقتصادية التي تطبقها إدارة بايدن تتسبب في أضرار كبيرة باقتصاد العالم ككل، وليس فقط خصوم واشنطن لكن لحلفائها أيضاً.
بوتين.. هل وقع في الفخ "الأوكراني"؟
لعب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دوراً رئيسياً في دفع العالم إلى حافة الهاوية في عام 2022، فهو من اتخذ قرار الهجوم على أوكرانيا، فهل وقع بوتين في "فخ" نصبه له نظيره الأمريكي بايدن، أم أن الرئيس الروسي استعد لتلك الخطوة الهجومية في صراع القوى العظمى ووجد أن هذا هو الوقت المناسب؟
من الصعب جداً الإجابة عن هذه التساؤلات بطبيعة الحال، في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا وعدم وجود مؤشرات على النتيجة النهائية أو الكيفية التي قد تنتهي بها. فالهدف الأمريكي من حرب أوكرانيا هو أن تنتهي "بإضعاف روسيا إلى الأبد"، بينما الهدف الروسي يتمثل في ضم الأجزاء الشرقية من أوكرانيا رسمياً إلى أراضي الاتحاد الروسي من جهة، وضمان "حياد" كييف، وعدم انضمامها لحلف الناتو من جهة أخرى.
وعلى الرغم من فشل روسيا حتى الآن في حسم الحرب عسكرياً، بل وتعرض قواتها في أوكرانيا إلى هزائم متتالية أجبرتها على الانسحاب من خاركيف ثم خيرسون، فإن بوتين يصر على أن بلاده ستحقق أهدافها في نهاية المطاف: "أعتقد أننا نتحرك في الاتجاه الصحيح، ندافع عن مصالحنا الوطنية ومصالح مواطنينا وشعبنا. وليس لدينا خيار آخر غير حماية مواطنينا".
ووضعت موسكو شروطها لإنهاء الحرب، مؤكدة أنها لن تتخلى عن أي أراضٍ استولت عليها بالقوة، نقلت وكالة تاس الرسمية للأنباء عن وزير الخارجية سيرغي لافروف قوله الإثنين، 26 ديسمبر/كانون الأول: "يعلم العدو جيداً مقترحاتنا لنزع السلاح والقضاء على النازية في الأراضي التي يسيطر عليها النظام وإزالة التهديدات النابعة من هناك لأمن روسيا، بما في ذلك أراضينا الجديدة".
وأضاف لافروف: "الأمر بسيط: نفذوه من أجل مصلحتكم، وإلا فإن الجيش الروسي سيحسم الأمر"، مكرراً وجهة نظر موسكو في أن أوكرانيا هي أداة الغرب العازم على "إضعاف" روسيا "أو حتى تدميرها".
وفي ظل الهوة الشاسعة بين مطالب روسيا وشروط أوكرانيا، المتمثلة بشكل أساسي في انسحاب كامل من جميع أراضيها والانضمام للناتو، من الواضح أن الحرب ستطول إلى إلى أبعد من فصل الشتاء الحالي، وربما تتحول إلى صراع طويل ومرير.
وفي ظل زيارة بوتين الأخيرة إلى بيلاروسيا، يبدو أن جبهة جديدة على وشك أن تبدأ في هذا الصراع، إذ أظهرت لقطات الأقمار الصناعية عدداً من طرقات الغابات الممهدة حديثاً، وبعض تحركات المعدات العسكرية البطيئة، باتجاه حدود أوكرانيا الشمالية.
ولا شك أن الحكومة الأوكرانية بدأت تشعر بالقلق من إطلاق هجومٍ جديد من الشمال مطلع العام المقبل، ويأتي ذلك القلق مدفوعاً بوصول المعدات الجديدة، وعملية "مكافحة الإرهاب" الأخيرة، وعمليات تفتيش الجنود المفاجئة التي ينظمها الجيش البيلاروسي.
فقد زادت أعداد القطارات التي تنقل الجنود والمعدات من الحدود الروسية إلى بلدة برست في جنوب غرب بيلاروسيا، وذلك بالقرب من الحدود بولندا، وأفادت وكالة Interfax الروسية بأن القوات الروسية في بيلاروسيا ستُجري مناورات تكتيكية قريباً.
الخلاصة هنا هي أن بوتين لن يتراجع، والأمر نفسه يبدو مرجحاً من جانب بايدن، ما يعني أن عام 2023 قد يكون أكثر سوءاً بالنسبة للعالم. فاستمرار الحرب يعني ازدياد التضخم الحالي سوءاً، رغم شروع البنوك المركزية في أنحاء العالم في رفع أسعار الفائدة رفعاً حاداً لتهدئة الطلب وترويض كابوس التضخم.
شي.. حصار تايوان وإلغاء سياسة "صفر كورونا"
الضلع الثالث من مثلث دفع العالم إلى حافة الهاوية خلال 2022 هو الرئيس الصيني شي جين بينغ، فالصراع بين واشنطن وبكين وصل إلى مرحلة خطيرة للغاية خلال العام المنصرم، ولا يبدو أنه سيتلاشى في العام الجديد.
فالصين وأمريكا هما الآن القوتان الأعظم على المسرح الدولي، والحرب الباردة بينهما أصبحت حاضرة وليست مجرد توقعات، ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا والتحالف الوثيق بين موسكو وبكين، لم يعد هناك شك في سعي الولايات المتحدة إلى "احتواء" التنين الصيني.
وكانت صحيفة الغارديان البريطانية قد نشرت تحليلاً عنوانه "كيف يمكن منع وقوع حرب بين الولايات المتحدة والصين؟"، رصد كيف أن اندلاع حرب بين القوتين، بسبب أزمة تايوان بالأساس، قد أصبح احتمالاً حقيقياً، ما يشير إلى أن العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين يمكن وصفه بسنوات الخطر.
الرئيس الصيني شي، الذي عدل الدستور وضمن البقاء في منصبه لـ5 سنوات أخرى على الأقل، مؤمن بأن الوقت قد حان لأن تأخذ بكين مكانها تحت الشمس، وأنه النظام العالمي الذي تقوده أمريكا آن له أن ينتهي، ليحل مكانه نظام عالمي آخر تقوده الصين أو على الأقل يكون متعدد الأقطاب.
واستغلت الصين زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة، نانسي بيلوسي، إلى تايوان مطلع أغسطس/آب 2022 لتفرض حصاراً شاملاً على الجزيرة، وتقوم بتغيير الوضع الراهن في خليج تايوان، فيما يعتبر استعداداً لضم الجزيرة بالقوة في أي وقت يراه شي مناسباً.
كانت الصين وتايوان قد انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولةً ذات سيادة، وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين تصرُّ على أنها ستستعيد الجزيرة في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر. ولا يعترف بتايوان سوى عدد قليل من الدول؛ إذ تعترف معظم الدول بالحكومة الصينية في بكين بدلاً عن ذلك، ولا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، ولكن لدى واشنطن قانون يلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها.
كما اتخذ شي قراراً بإعداد حزمة دعم تزيد قيمتها على تريليون يوان (143 مليار دولار) لصناعة أشباه الموصلات لديها، في خطوة كبيرة نحو تحقيق هدف الاكتفاء الذاتي من الرقائق ومواجهة التحركات الأمريكية التي تهدف إلى إبطاء تقدمها التكنولوجي.
ويشير ذلك، كما توقع محللون، إلى نهج مباشر بصورة أكبر، من جانب الصين في تشكيل مستقبل صناعة أصبحت قضية جيوسياسية ساخنة، بسبب الطلب المتزايد على الرقائق التي تعتبرها بكين حجر الزاوية في قوتها التكنولوجية. ويقول محللون إنه من المرجح أيضاً أن يثير ذلك مزيداً من المخاوف في الولايات المتحدة وحلفائها بشأن منافسة الصين في صناعة أشباه الموصلات. ويشعر بعض المشرعين الأمريكيين بالقلق بالفعل إزاء زيادة قدرة الصين على إنتاج الرقائق.
كما قرر شي مؤخراً إلغاء سياسة "صفر-كورونا"، التي كان قد اعتمدها على مدى الأعوام الثلاثة الماضية منذ تفشي الفيروس القاتل، ما أثار القلق عالمياً بشأن عودة الفيروس إلى الانتشار مرة أخرى، سواء في الصين؛ حيث يعيش أكثر من 1.4 مليون شخص أو حول العالم.
الخلاصة هنا هي أن ما شهدناه خلال العام المنصرم من أحداث حافة الهاوية تبدو وكأنها تمهيد لما قد نشهده خلال 2023، وربما بصورة أسوأ، خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد، كون الصين وأمريكا هما أكبر اقتصادين، والصراع بينهما يصيب العالم أجمع بتداعيات سلبية.