عندما تحول إضراب سائقي الشاحنات في الأردن إلى أعمال عنف اعتبرت الحكومة الأمر قضية أمنية وليست معاناة اقتصادية، ما جعل وزيراً سابقاً يتساءل: متى تواجه عمان أصول المشكلة قبل أن تتفاقم؟
فبعد مقتل ثلاثة من ضباط الشرطة، يوم الإثنين 19 ديسمبر/كانون الأول، خلال مداهمة استهدفت مخبأً لرجال يشتبه فى قتلهم نائب قائد الشرطة في محافظة معان الجنوبية، تحول الجزء الأكبر من الخطاب السائد في الإعلام إلى الحديث عن العنصر التكفيري، الأمر الذي "لم يؤدِّ إلا إلى إثارة مزيد من الغضب"، وفقاً لتصريح وزير الخارجية السابق مروان المعشر لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
وكانت الأوضاع في الأردن قد شهدت تصعيداً خطيراً بعد مقتل 3 من أفراد الشرطة خلال مداهمة للمخبأ، حيث أصدرت الشرطة بياناً قالت فيه إن ثلاثة من أفرادها مشتبهاً بهم في قتل العقيد عبد الرزاق الدلابيح في معان، قُتلوا خلال مداهمة لمخبأ.
وقالت الشرطة إن أحد المشتبه بهم الذي يعتقد أنه "متشدد" قد قُتل، وأشار البيان إلى فتح تحقيقات بشأن الواقعة. وقالت الشرطة أيضاً إن أكثر من 40 فرد أمن أُصيبوا في الاشتباكات، في حين "حطم متظاهرون سيارات وأحرقوا إطارات، وأقاموا حواجز على الطرق لإغلاق طريق سريعة في أحد أكثر الاضطرابات انتشاراً في السنوات الأخيرة".
وقالت السلطات إنها ألقت القبض على 44 لهم صلة بالاضطرابات من بين أكثر من 200 مشتبه بهم مطلوبين للسلطات فيما يتعلق بتلك القلاقل.
غياب الحديث الحكومي عن أسباب احتجاجات الأردن
وتحول "إضراب الكرامة"، الذي نظمه سائقو الشاحنات، إلى أعمال عنف في جزء من المحافظات الجنوبية الفقيرة الأسبوع الماضي، الأمر الذي دفع الحكومة إلى اعتبارها قضية أمنية وليست فشلاً لسياستها في معالجة صعوبات اقتصادية طويلة الأجل تسبق جائحة فيروس كورونا.
ونشرت الشرطة جنودها الأسبوع الماضي "لتهدئة أعمال الشغب" في محافظة معان الفقيرة جنوب شرقي البلاد، بحسب وكالة الأنباء الحكومية بترا. وقُتل نائب قائد شرطة المحافظة، العقيد عبد الرازق الدلابيح، في اشتباكات مع محتجين في المحافظة الواقعة جنوبي الأردن خلال الاحتجاجات، ما أثار غضباً شعبياً وحكومياً عارماً.
قتل الدلابيح برصاصة في رأسه على يد أشخاص وصفتهم الشرطة بـ"المخربين"، ورفضت عشيرة بني حسن، التي ينتمي إليها العقيد المقتول، "استقبال أي جهة رسمية تمثل الحكومة، إلى حين معرفة هوية القاتل"، بحسب ما نقله موقع قناة رؤيا الأردنية الخاص، بينما ظهر الملك عبد الله الثاني مرتدياً الزي العسكري، خلال تقديمه واجب العزاء، وتوعد "كل من يرفع السلاح في وجه الدولة ويعتدي على ممتلكاتها العامة".
وكان رد فعل الحكومة سريعاً، إذ تعهدت السلطات بـ"الضرب بيدٍ من حديد" على أي شغب من هذا القبيل. وفي اليوم التالي، أعلنت عن حظر مؤقت لتيك توك، الذي ينشر المتظاهرون عليه مقاطع الفيديو الخاصة بالاحتجاجات. وقالت وحدة مكافحة الجرائم الإلكترونية في الأردن إنها تتعقب حالات "خطاب كراهية وتحريض على التخريب ومهاجمة كوادر إنفاذ القانون والممتلكات، وإغلاق الطرق" على هذا التطبيق.
وفي خطوة لإبداء الدعم للحكومة، شارك نجل الملك عبد الله الثاني وولي العهد الأمير الحسين في جنازة نائب قائد الشرطة الذي لقي حتفه. ويقول نشطاء إن معان لا يزال مقطوع عنها الإنترنت.
لكن ما كان غائباً بوضوح عن رد الحكومة على الأحداث هو أي ذكر للأسباب والإحباطات ومشاعر الغضب التي حركت هذه الاحتجاجات. وشاهد المواطنون الحملات القمعية التي تنفذها الأجهزة الأمنية دون أن تصدر أية تطمينات بأن المسؤولين يعملون على حل المشكلات الاقتصادية التي تعصف بالبلاد.
وعندما لقي ثلاثة من ضباط الشرطة مصرعهم خلال المداهمة، التي استهدفت مخبأً لرجال يشتبه فى قتلهم نائب قائد الشرطة، قالت مديرية الأمن العام إن مشتبهاً به قُتل واعتُقل تسعة آخرون. وقالت السلطات إنهم جميعاً ينتمون إلى ما أسمته "خلية إرهابية" تتبع "الفكر التكفيري".
وهذا الرد يتبع نمطاً سئم منه الأردنيون؛ فالحكومة تتعامل مع المخاوف الأمنية باهتمام لا تمنحه للأزمات الأخرى التي يمر بها الشعب. وفي غياب التصريحات الرسمية عن المتظاهرين ومطالبهم، يزداد الغضب الشعبي بطبيعة الحال.
استمرار أسعار الوقود في الارتفاع
الأردن، مثل بلدان عديدة في المنطقة، يعاني من ارتفاع معدلات البطالة والديون والتضخم وأسعار الغذاء والطاقة، لكن المشكلات الاقتصادية في البلاد كانت قائمة قبل جائحة كورونا وقبل الهجوم الروسي على أوكرانيا، وهذان الحدثان لم يؤديا إلا إلى تفاقم تلك المشكلات.
إذ يعاني الأردن من أوضاع اقتصادية صعبة للغاية فاقمتها الديون الخارجية، التي تجاوزت 50 مليار دولار وتداعيات جائحة كورونا، ثم ازدادت حدة تلك المصاعب مع اندلاع حرب روسيا في أوكرانيا وما تسببت فيه من ارتفاعات كبيرة في أسعار النفط.
وعلى مدار السنوات الثلاث الماضية، شهد الأردن موجات احتجاجية متعددة بسبب غلاء أسعار السلع الأساسية، لكن الأمور هذه المرة تبدو أوسع وأشمل من المرات السابقة، وخصوصاً بعد وقوع ضحايا، ما يثير تساؤلات بشأن الاتجاه الذي تسير فيه الأوضاع المضطربة في المملكة حالياً.
وقال المعشر للصحيفة الأمريكية إن البلاد تعتمد منذ فترة طويلة على المساعدات الخارجية من الولايات المتحدة والسعودية، ولكن بعد فتور العلاقات مع السعودية في السنوات القليلة الماضية، تراجع هذا الدعم.
والأردن لا يتمتع بموارد طبيعية كثيرة. وقال البنك الدولي في يوليو/تموز إن معدل النمو القوي نسبياً الذي بلغ 2.2% عام 2021 لم يؤدِّ إلى توفير فرص عمل قوية. وبلغ معدل البطالة نحو 23% نهاية عام 2021 ارتفاعاً من 19% قبل تفشي الجائحة.
وقال تقرير البنك الدولي أيضاً إن المستويات "المقلقة" للبطالة "ترجع أساساً إلى قدرة القطاع الخاص المحدودة على توفير وظائف أكثر وأفضل في ظل سيطرة الشركات الصغيرة منخفضة الإنتاجية على الاقتصاد".
ورغم مطالبات خبراء الاقتصاد للأردن منذ سنوات بتبني سياسات الاعتماد على النفس، لا تزال الحكومة تتبنى منظومة "قديمة" تعتمد على المساعدات الخارجية والتركيز على الخدمات الأمنية، وفقاً للمعشر، الذي يعمل حالياً كنائب رئيس قسم الدراسات في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
وقال المعشر: "هناك إصرار غريب على التمسك بالأدوات القديمة التي لم تعد كافية للحفاظ على السلام الاجتماعي. "أين الحكومة؟" هذا سؤال يطرحه كثيرٌ من الأردنيين في وقت كانت الدولة فيه غائبة تماماً. والوضع الراهن ليس مستداماً".
الضرائب على الوقود تزيد معاناة الأردنيين
وأكّد بعض النواب مخاوف المواطنين، إذ حمّل أحد أعضاء البرلمان، إسماعيل المشاقبة، الحكومة مسؤولية دفع الناس إلى الخروج إلى الشوارع برفعها الأسعار، وطالب بالتعامل بلطف مع الناس خصوصاً مع قدوم فصل الشتاء، وتساءل إن كانت الحكومة تدرس قراراتها قبل اتخاذها.
وقال نائب عن إحدى محافظات الجنوب، عيد النعيمات، لصحيفة واشنطن بوست إن الشعب سئم من مقولة إسطوانة الغاز لا تُمسَّ، بينما الحكومة مستمرة في رفع أسعار المشتقات النفطية الأخرى. ونبّه إلى ضرورة اتخاذ إجراءات سريعة لتجنب أية اضطرابات أخرى.
وشدد النعيمات على ضرورة خفض الضريبة على مشتقات الوقود لحماية المواطنين مما أسماه بـ"الشبح". إذ ازدادت حدّة الغضب من هذه الضريبة، التي قال نائب آخر إنها بلغت حوالي 1.7 مليار دولار العام الماضي، أي ما مجموعه 3.7% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
وقال المعشر: "يسود شعور بالغضب أيضاً مما يعتبره كثيرون غياب الشفافية عن هذه الضريبة. ويقول كثيرون إن أسعار البنزين انخفضت دولياً، فلِمَ ترتفع في الأردن؟ قد يكون لكل هذه الأسئلة إجابات منطقية، لكن الحكومة لا تخبرنا بها".
وعلى الرغم من تعهدات الحكومة بالنظر في مطالب المضربين، إلا أنها قالت إنها دفعت بالفعل أكثر من 500 مليون دينار (700 مليون دولار) للسيطرة على ارتفاع أسعار الوقود هذا العام.
وخلال نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، رفعت لجنة تسعير المشتقات النفطية في الأردن الأسعار بنسبة تتراوح بين 40 – 46%، إذ وصل سعر لتر الديزل إلى 895 فلساً (1.26 دولار) خلال ديسمبر/كانون الأول الحالي، مقارنة مع 615 فلساً (0.87 دولار) خلال الشهر ذاته من عام 2021.
وأثارت الخطوة غضب نواب أردنيين ممن اتهموا الحكومة بعدم الاهتمام بحاجات المواطنين الأساسية، الأمر الذي دفع رئيس الحكومة الأردنية، بشر الخصاونة، للخروج عن صمته والتأكيد على أن الخزينة العامة للدولة "لا تملك ترف دعم المحروقات كما حصل في السنة الماضية".
لكن الارتفاع الذي شهدته أسعار المحروقات هذه المرة، بدا قاسياً بالنسبة لقطاع واسع من أصحاب الدخل المتوسط، وهكذا قرر عدد من سائقي الشاحنات تنظيم إضرابات متكررة، ثم انضم إليهم أصحاب سيارات أجرة وحافلات عمومية.
وعلى الرغم من أن المملكة الأردنية شهدت، على مدى سنوات، العديد من الإضرابات والمظاهرات بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة وارتفاع تكاليف المعيشة، فإن معظمها كان محصوراً في شعارات واعتصامات محدودة، ولم تصل إلى حد غلق طرق رئيسية مهمة أو استخدام السلاح.
وفي الوقت الذي يدق فيه البعض ناقوس الخطر ويطالب بتدخل حكومي عاجل، متهماً أطرافاً خارجية بتأجيج الوضع، يصف آخرون الاحتجاجات بأنها "مسألة داخلية جاءت نتيجة تجاهل الحكومة لمطالب المواطنين".
أما الحكومة الأردنية فقد أعلنت اتخاذ خطوات صارمة ونشر مزيد من شرطة مكافحة الشغب لـ"مواجهة من يريدون جر البلاد إلى أتون المواجهات الدامية".
ويمكن القول إن ما يشهده الأردن من احتجاجات شعبية وإضرابات على خلفية الأوضاع الاقتصادية الصعبة ليس مفاجئاً في حقيقة الأمر، إذ كان البنك الدولي قد أشار في تقريره، قبل عام، إلى وجود عدد من التحديات التي تواجهها المملكة وتهدد استقرار الأوضاع فيها.
إذ أكد تقرير البنك الدولي على أن ارتفاع معدلات البطالة (لا سيما بين الشباب بنسبة 50%)، واستمرار الاضطرابات الخارجية في المنطقة، وارتفاع الديون الخارجية، وانخفاض مستويات الاستثمار؛ تشكّل تحديات كبيرة أمام الاقتصاد الأردني.
الخلاصة هنا هي أنه على الرغم من أن الاحتجاجات في الأردن على ارتفاع تكاليف المعيشة ليست حدثاً جديداً في حد ذاتها، فإن الأمور هذه المرة تبدو أكثر خطورة من المرات السابقة، ولا أحد يمكنه توقع إلى أين تتجه الأوضاع في المملكة، خصوصاً إذا أصرت الحكومة على التعامل الأمني دون مخاطبة جذور الأزمة.