مع مطلع القرن الـ19، واجهت الدولة العثمانية تحديات كبيرة من أجل الحفاظ على أراضيها، خصوصاً في شرقي أوروبا، مع اندلاع الثورة الصربية، عام 1804، استقلت أولى المناطق العثمانية في البلقان.
وفي العقود التي تلت ذلك أنهكت حروب الاستقلال اليونانية من تماسك وقوة الجيوش العثمانية، فقد كان العثمانيون يخوضون حروباً على جبهات مختلفة، الأمر الذي أجبرهم على التنازل عن السيطرة على أراضيهم شيئاً فشيئاً، فنالت اليونان استقلالها في عام 1830.
وقبل عام واحد فقط، أجبر العثمانيون على توقيع معاهدة أدريانوبول، والتي منحت الروس والسفن التجارية الأوروبية الغربية حرية الوصول عبر مضيق البحر الأسود، كان لدى القيصر الروسي طموحات كبيرة للاستفادة من ضعف الدولة العثمانية، ووضع نصب عينيه شرق البحر الأبيض المتوسط.
أمام التغيّرات الجيوسياسية التي طبعت المنطقة خلال تلك الفترة، كانت بريطانيا وفرنسا ترى في الدولة العثمانية الحاجز الذي يمنع الإمبراطورية الروسية من التوسع إلى البحر الأبيض المتوسط، والتهام أراضي الدولة العثمانية التي كان الفرنسيون والبريطانيون ينتظرون الفرصة المناسبة للانقضاض عليها.
كما كان لدى بريطانيا على وجه الخصوص مخاوف من أن يكون لروسيا القوة للتقدم نحو الهند، وهو احتمال مخيف لبريطانيا العظمى، التي كانت تطمح إلى الاستفراد بتلك المناطق، فعمل كل طرف بطريقته الخاصة من أجل تحقيق أهدافه، فكانت حرب القرم أحد مظاهر الصراع بين الدول الأوروبية والإمبراطورية الروسية.
ما أسباب اندلاع حرب القرم؟
بحلول منتصف القرن الـ19، نشب صراعٌ جديد بين الدول الأوروبية العظمى وروسيا، كان محوره الشرق الأوسط وشرق البحر الأبيض المتوسط، فقد اتفقت بريطانيا وفرنسا على ضرورة إزاحة روسيا من الشرق الأوسط، ومنع استغلالها التراجع العثماني في تلك الفترة وملء فراغه.
بينما واصلت الإمبراطورية الروسية تفكيك الدولة العثمانية من الداخل، عبر دعمها لثورات الشعوب السلافية في البلقان.
من أجل إضعاف روسيا ووقف طموحها في الاستيلاء على مناطق التراجع العثماني، حثت بريطانيا وفرنسا الدولة العثمانية على مواجهة روسيا، ووعدتا الدولة العثمانية بتقديم المساعدات العسكرية لها.
رغم ذلك، لم يكن السبب المباشر في دخول الدولة العثمانية في حرب مع الإمبراطورية الروسية سوى شجارٍ بين الرهبان الكاثوليك التابعين لفرنسا والأرثوذكس التابعين روحياً لروسيا، على الامتيازات الدينية في القدس التابعة للدولة العثمانية.
ففي عام 1850، حدث نزاع بين رجال الدين الكاثوليك والأرثوذكس حول امتلاك أضرحة مسيحية في القدس، بحيث تمّ نقل مفاتيح كنيسة بيت لحم إلى رجال الدين الكاثوليك، وتم اعتبار هذا الفعل إهانة للإمبراطور الروسي.
في فبراير/شباط 1853، أرسل الإمبراطور الروسي نيكولاي الأول سفيره مينشيكوف إلى إسطنبول، من أجل لقاء السلطان العثماني عبد المجيد الأوّل.
خلال اللقاء طلب سفير الإمبراطور نيكولاي الأوّل من السلطان العثماني أن يعرِّف بالقيصر، باعتباره حامي المسيحيين الأرثوذكس في جميع أنحاء الدولة العثمانية، لكنّ السلطان العثماني رفض بشدة طلب الروس.
رداً على ذلك، أمر القيصر الروسي نيكولاي الأوّل- الذي كان أوّل من أطلق على الدولة العثمانية وصف "الرجل المريض"- في 26 يونيو/حزيران 1853، جيشه المكون من 35 ألف جندي بالزحف والهجوم على إمارتي مولدافيا وفالاخيا (رومانيا حالياً)، لتقصف المراكز العثمانية في البحر الأسود، كما أشار موقع History.
حرب القرم.. حين أرادت الإمبراطورية الروسية التوسع على حساب العثمانيين
أدخلت روسيا قواتها في مولدوفا وفالاخيا الخاضعة لمعاهدة أدريانوبل للسلام، تحت حماية الدولة العثمانية، بغرض الضغط على الأخيرة.
وفي 5 أكتوبر/تشرين الأول من العام 1853، اندلعت حرب القرم، بعد أن حشدت الدولة العثمانية وروسيا قوات ضخمة على جبهات القتال، وعلى جبهتي الدانوب والقوقاز.
استطاع القائد العثماني عمر باشا أن يُلحق هزيمة كبيرة بالروس على نهر الدانوب، وأن يدخل رومانيا، وفي جبهة القوقاز ساند الزعيم الشيشاني الإمام شامل الداغستاني القوات العثمانية أثناء القتال ضد الروس.
كما شارك في الحرب جيوش مصرية وتونسية إلى جانب العثمانيين في حرب القرم.
مع ذلك عادت الكفة لتميل إلى الروس مع بداية عام 1854، فقد كانت العمليات العسكرية للإمبراطورية الروسية تسير بخطى ناجحة، بعد أن حققت القوات الروسية بعض الانتصارات في القوقاز.
أدركت الدولة العثمانية إنّ هذه الحرب لن تكون مجدية إذا خاضتها وحيدة، ففكرت في جلب حلفائها البريطانيين والفرنسيين إلى أرض المعركة، عوض البقاء في موقف المتفرج.
بريطانيا وفرنسا وإيطاليا تتحالف مع الدولة العثمانية في حرب القرم
لذا قامت بخدعة حربية لكسب دعمها، إذ أرسلت مجموعة من قطع الأسطول البحري العثماني القديمة إلى ميناء سينوب على البحر الأسود، وهي تدرك أن الروس سيهاجمونها، وبالفعل أغرق الروس جميع السفن، ما أثار أزمة دبلوماسية في الأوساط بين بريطانيا وفرنسا من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى.
عرض الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث الوساطة لإنهاء القتال بين العثمانيين وروسيا، إلا أن الإمبراطور الروسي نيكولاي الأوّل رفض ذلك، فبادر نابليون الثالث بالاتفاق مع بريطانيا ضد روسيا، وقبلت بريطانيا عرض عدوتها التاريخية، نظراً للمصالح المشتركة، وانضمت لهما لاحقاً مملكة سردينيا، التي أصبحت إيطاليا فيما بعد.
أعلنت بريطانيا العظمى وفرنسا الحرب على روسيا، في مارس/آذار من عام 1854، وبعد أسابيع نزلت قوات القوى المتحالفة في شبه جزيرة القرم، وألحقت سلسلة من الهزائم بالجيش الروسي، وبدأت في محاصرة سيفاستوبول.
في عام 1855 وجدت روسيا نفسها في عزلة دبلوماسية. بعد سقوط سيفاستوبول توقفت العمليات العسكرية عملياً، انتهت حرب القرم باتفاقية سلام باريس، الموقعة في 18 مارس/آذار 1856.
وافقت روسيا على إعادة الأراضي التي استولت عليها، وتم جعل منطقة القرم منزوعة السلاح، لكن تلك الاتفاقية جاءت بعد تكلفة بشرية باهظة، فقد قتل في حرب القرب أكثر من 650 شخصاً، واستمرت التوترات بين الروس والعثمانيين لعقود.
كانت حرب القرم من بعض النواحي أول صراع تكنولوجي حديث، فلأول مرة استخدم الجنود البنادق التي تم إنتاجها بكميات كبيرة في المصانع، كما رست على سواحل البحر الأسود سفن هجومية مدرعة للمرة الأولى.
وخلال حرب القرم تواصلت القوات البريطانية والفرنسية بين شبه جزيرة القرم والمقر الرئيسي في باريس، عبر خطوط التلغراف، وأنشأت خطوط السكك الحديدية لنقل الإمدادات والذخيرة.