خرج المنتخب الألماني المدافع عن لقبه كبطل لكأس العالم 2014، من مونديال روسيا 2018 بطريقة أشبه ما تكون بالصدمة الكهربائية المفاجئة، التي تصيب البعض على حين غفلة، صدمة لم يفق منها المجتمع الألماني حتى الآن، ليُطرح سؤال في الأُفق: ما الذي حصل لبطل العالم؟!
وبدلاً من أن يبحث بعض القائمين على أمر المنتخب الألماني والصحف الرياضية الألمانية عن أسباب هذا الخروج بشكله الرياضي، ودراسته بشكل منهجي، اتَّجهوا بطريقة منظمة للبحث عن كبش فداء، وكما نعلم في كل خسارة، خاصة في رياضة كرة القدم لا بُد أن يكون هناك "كبش فداء" يتم تعليق الإخفاق عليه، لامتصاص الصدمة، وإنقاذ بعض الرؤوس التي تجلس على بعض الكراسي من خطر الإقالة أو الاستقالة بضغط جماهيري.
ولم يكن هناك كبش فداء جاهز أكثر من اللاعب "مسعود أوزيل"، يعرف الجميع أن أُصوله تُرْكِية، ولكن عند الخسارة فقط نسي الغالبية العظمى ممن يقودون الاتحاد الألماني وبعض السياسيين أنه "ألماني" ولعب بقميص المنتخب الألماني "92" مباراة، وجلب لهم كأس العالم 2014.
قصة صورة أثارت الكثير من اللغط
قبل الانتخابات التركية الرئاسية التي جرت مؤخراً، وفي تجمّع للمرشح الرئاسي -حينها- رجب طيب أردوغان، في عاصمة الضباب لندن، مع الجالية التركية في إنكلترا، ظهرت صورة للاعب أرسنال الإنكليزي "مسعود أوزيل"، مع زميله لاعب مانشستر سيتي "إلكاي غوندغان" يهديان قميصي ناديهما للمرشح الرئاسي، بتوقيع من الثاني على قميص ناديه بالتركية "لأجل رئيسي الموقر، مع فائق الاحترام"، لتنطلق عاصفة تجاه اللاعبين، مشكِّكة في ولائهما لألمانيا الدولة، وبأنهما يساعدان في الدعاية السياسية لرئيس أجنبي، لتزيد النار اشتعالاً، بالنظر للعلاقات السياسية المتوترة بين البلدين.
الكُل يعلم أنهما ابنا مهاجرين في الأصل، فما الجديد؟!
في المباريات الودية التي خاضها المنتخب الألماني تحضيراً للمونديال، وخاصة أمام المنتخب السعودي، ومع حالة صافرات الاستهجان التي قوبل بها اللاعبان عند كل لمسة للكرة، خاصة اللاعب "غوندوغان"، ظهر أن هنالك شيئاً غير طبيعي يجري في صفوف المنتخب، وفي طريقه لأن يكون أكبر مما هو مجرد صافرات استهجان، وأن هنالك أمراً ما يتم طبخه على هدوء لاستغلاله وقت الحاجة.
فحسب التصريحات والمقابلات الإذاعية والتلفزيونية من القائمين على أمر المنتخب الألماني، والسياسيين الألمان بعد نشر الصورة، فقد اتفق الجميع على أن اللاعبين قد ارتكبا خطأً فادحاً، ولكنه ليس بالخطأ الذي لا يمكن مسامحتهما عليه، وأن الجميع بدَوا متفهمين أن المناقشات داخل الجهاز الإداري للمنتخب ستعالج الأمر.
خروج مدوّ يستوجب البحث عن كبش الفداء ليتحمل تبعاته
خروج بشكل مفاجئ وغير متوقع لبطلٍ مُتوج، وبأداء لا يرقى لمستوى التطلعات، أذاب عن جبل الجليد، وأن تشكيلة المنتخب يتوجب "غربلتها" من جديد، وإضافة عناصر جديدة بطموحات جديدة وأهداف شخصية للاعبين، لتحقيق إنجاز في قادم السنوات، وأن ما حدث عبارة عن "كبوة حصان"، وستعود الماكينات الألمانية للدوران من جديد، هذا على المستوى الرياضي، وهو ما بدا ظاهراً للجميع.
ولكن يبدو أن هناك أمراً ما يجب تسليط الضوء عليه بقوة، وليس هناك أنسب من إعادة مشهد صورة اللاعب الألماني من أصول تركية للتركيز عليها، لتحقيق أهداف بدا للبعض أن هذا هو الوقت المناسب لاستغلالها بهدف تحقيق بعض الأهداف الخفية منها:
– "لا تثقوا بأبناء المهاجرين" هو لسان حال اليمين المتطرف، الذي وجد أن هذه أنسب فرصة للتشكيك في ولاء المهاجرين تجاه ألمانيا، بالرغم من أن هؤلاء المهاجرين أصبحوا مندمجين بشكل كامل في المجتمع الألماني، وكانوا سبباً في فرحة الشعب الألماني قبل أربع سنوات مضت.
– رئيس الاتحاد الألماني لم يعجبه صمت اللاعب حيال هذا الأمر، وجاء الأداء السيئ للاعب في المونديال "ليزيد الطين بلة"، ويشكل تهديداً مباشراً لكرسيه مع قوة الصحافة الألمانية، التي بالتأكيد ستشنّ حملة كبيرة ضد الاتحاد، وليس هناك أنسب من التضحية برأس رئيس الاتحاد لسياساته، التي اتفق أغلب المحللين الألمان على أنها "أسوأ" سياسة لرئيس اتحاد ألماني على مرِّ التاريخ.
– التنافس المحموم حول استضافة "يورو 2024" بين البلدين (تركيا وألمانيا) أيضاً له نصيب، فالمجتمع الألماني أو الحزب الحاكم حالياً يشعر بأنه في حالة فوز تركيا بحق استضافة البطولة القادمة، فإنها ستكون خطوة كبيرة ستساعد الأتراك على الانضمام للاتحاد الأوروبي، وهو ما يرفضه الكثير من الساسة الألمان، خاصة الأحزاب اليمينية المتطرفة.
– الصحافة الألمانية معروفة بشدة تأثيرها على الرأي العام، خاصة الشهيرة منها، وكانت أكثر ثقة في نيل المنتخب الألماني للقب المونديال، وهذا ظهر في تغطيتها قبل انطلاق المونديال، ببث الأمل والثقة في الشعب الألماني، بأن المنتخب قادر على الاحتفاظ بلقبه، ولكن عند خروج المنتخب حدث ما يشبه الصدمة المفاجئة لدى الصحافة والإعلام الألمانيين. كان يتوجب معها البحث عن كبش الفداء بشكل عاجل، وهذا ما ظهر في تغطيتها للخروج الألماني، بوضع صورة رئيسية للاعب في كل تغطياتها وتقاريرها حول أداء المنتخب، وفي تحليلها حول أسباب الخروج.
ماذا لو قرَّرت ألمانيا العودة إلى سياستها القديمة، بعدم استدعاء أبناء المهاجرين للمنتخب؟!
للإجابة عن هذا السؤال يمكننا الرجوع لعقود سابقة، خاصة عند حكم الزعيم النازي أدولف هتلر، الذي قال يوماً: "لا يمكنني أن أتفهم الخطأ الذي نقوم به حينما نسمح لأي شخص بأن يكون ألمانياً فقط لأنه تعلم اللغة الألمانية، ويرغب في التحدث بها مستقبلاً، أو لأنه تزوج من ألمانية"
فماذا حدث؟! تصاعدت موجة تفوق الجنس الآري، الذي كان سائداً لمدة طويلة، حتى مع خسارة ألمانيا الحرب العالمية الثانية، واندثار الإمبراطورية النازية التي كان يحلم بها الزعيم النازي هتلر، ويبدو أن هذه الموجة ما زالت متفوقة بقوة، وتصاعدت حدَّتها بصعود اليمين المتطرف، الذي يعتبر امتداداً لذلك التوجه.
خسرت ألمانيا الكثير من ذلك التوجه العنصري، حتى وقت قريب، ولكن مع تفوق المنتخب الفرنسي في كأس العالم 1998 بتشكيلة كاملة من أبناء المهاجرين، وحصولهم على اللقب العالمي لأول مرة في تاريخهم، تغيَّرت الكثير من المفاهيم لدى الألمان، وخفتت حدة الهجوم، وأصبح اندماج المهاجرين في المجتمع الألماني يتم قبوله بشكل خجول، حتى أتى الفوز بكأس العالم 2014، ليتأكد الكثير من الألمان، خاصة المتطرفين منهم تجاه الأقليات الأخرى، أن التفوق الرياضي من دون المهاجرين في هذا العصر يعتبر ضرباً من المستحيل.
وبالتالي إذا سمحت ألمانيا للأصوات التي تنادي بالاستغناء عن المهاجرين في منتخبها، يمكننا القول حينها، وبكل ثقة، وداعاً للكرة الألمانية في بسط هيمنتها على المستوى الدولي، وسترى ألمانيا بنفسها أن هذه الخطوة ستكون خطراً عليها مستقبلاً، وسيكون النموذج الفرنسي هو السائد، والنموذج الذي ستتخذه الكثير من الدول الأوروبية للتفوق رياضياً، وستتخطَّى المنتخب الألماني في عدد إنجازاتها.
في الوقت الراهن، وبسبب ما يجري في دول العالم المختلفة، التي لا تضم دول الاتحاد الأوروبي، نجد أن هناك أجيالاً قد ترَبَّوا وتشبَّعوا بروح الدول الأوروبية التي ولدوا فيها، وتشرَّبوا مفاهيمها، وتغلغلوا في مفاصل أجهزتها بشكل كامل. وبالتأكيد كرة القدم سيكون لها نصيب في هذا التغلل؛ بل الواقع الآن يقول إن معظم الدول الأوروبية أصبحت تبحث عمَّن يحقق أهدافها الرياضية، طالما يحمل جنسيتها، وأقسَمَ بالولاء للقميص الذي يمثله.
لذلك، دعوة بعض الألمان للتخلي عن استدعاء أبناء المهاجرين للمنتخب، خاصة السياسيين المتطرفين سيؤدى إلى نتائج قد يندمون عليها مستقبلاً، فكُرة القدم الآن أصبحت صناعةً تنهض بها بعض المجتمعات بشكل كامل، أكثر من أن تكون وسيلةً ترفيهيةً.
ولكن هناك سؤال لم نطرحه بعد:
هل أخطأ اللاعبان في التقاط هذه الصورة؟!
عند ظهور الصورة وانتشارها قبل المونديال كان هناك هجوم حاد من الصحافة وبعض السياسيين على هذا الأمر، وقد سارع اللاعب "إلكاي غوندوغان" لتبرير موقفه، بتأكيد أنه ألماني قلباً وقالباً، وأنه لم يقصد أي مواقف سياسية بهذه الصورة، وعدم اعتذاره بشكل مباشر، ويبدو أن البعض قد تفهّم هذا الأمر، داعين لمساندة المنتخب في المونديال، الذي كانعلى وشك الانطلاق.
ولكن يبدو أن صمت اللاعب "مسعود أوزيل" لم يُعجب البعض، وبالتالي كان التركيز عليه كبيراً في تحليل أسباب إخفاق المنتخب دون باقي اللاعبين الآخرين، ولكن مع بيان اللاعب الأخير الذي ساقه في قرار اعتزاله الدولي، يبدو أن اللاعب قد عانى من ضغوطات كانت أكثر مما يتحمله إنسان طبيعي.
وهنا نأتي لنقول إن "الصورة" لم تحمل أي دلالات سياسية، وكانت عفوية وطبيعية مع مرشح رئاسي في طريقه للفوز بحكم بلاد كانت ولا تزال موطن أجداده، ومن حقِّه أن يفتخر بالموطن الذي أتى منه والداه وأجداده، وهذا لم يأت بعد نشر اللاعبَين هذه الصورة في حساباتهما الشخصية على شبكات التواصل الاجتماعي، بل ظهرت الصورة بشكل رئيسي في حساب الرئاسة التركية.
فالكثير من اللاعبين حول العالم، بالرغم من حمل ألوان منتخبات أخرى، إلا أنهم لا يخفون اعتزازهم وفخرهم ببلدانهم الأصلية، وموطن أجدادهم، ومع التناول غير الطبيعي لهذه الصورة في الصحافة الألمانية، والهجوم الحاد من السياسيين الألمان ظهرت رسالة بأن الألمان حتى الآن ما زالوا لم يتعافوا من "العنصرية" تجاه القوميات الأخرى، وفي الوقت الذي يحارب فيه الجميع هذه الظاهرة، خاصة في الملاعب الرياضية، يبدو أن جزءاً من المجتمع الألماني لم يتقبل بعدُ فِكرة أن اندماج المهاجرين في المجتمع الألماني أصبحت أمراً لا بد منه، وأنه الواقع الذي لم يتقبله هؤلاء بعد.
الجهاز الإداري للمنتخب الألماني والبحث عن طُرق لعودة الثقة للاعبين المهاجرين
أن تعود الماكينات الألمانية للدوران مرة أخرى، وبقوة، لَهو شيء متوقع بنسبة كبيرة، ولكن المشكلة الآن هي عودة الثقة للاعبين، خاصة اللاعبين المهاجرين، في أن هناك مَن يدعمهم عند حدوث شيء ما لهم، وهذا ما فشل فيه المدير الإدارى للمنتخب أوليفر بيرهوف.
فالمدير الإدارى أظهر -وبشكل كبير- أن مسألة دعمه للاعبيه ضعيفة نوعاً ما، بتصريحه المتسرع بأنه كان يجب استبعاد اللاعب أوزيل من المنتخب، قبل أن يعود ويبدي أسفه لاحقاً على تصريحه، وأن هناك فشلاً بدأ ظاهراً للجميع، ولكن المدير الإدارى أراد التغطية عليه بتحميل اللاعب جزءاً من المسؤولية.
فلو كان هناك تأثير، فيجب عليه بالإضافة للمدير الفني أن يتّخذا قرار استبعاد اللاعب قبل المونديال بفترة كافية، للتركيز على ما هو قادم، ولكن أن تأتي لتُبرّر بعد "وقوع الفأس في الرأس" فهذا يظهر أن الدعم والمساندة للاعبين مفقودة في الإطار الإداري للمنتخب، وهذا أكثر ما يضر المنتخب مستقبلاً في استقطابه للاعبين، خاصة المهاجرين منهم، الذين قد يفضلون تمثيل بلادهم الأصلية بدلاً من الوقوع تحت الضغوطات، وغياب المساندة التي اختبرها اللاعبان مسعود أوزيل وغلكاي غوندوغان.
الفشل للكُل والنجاح للكُل
في كرة القدم بالتحديد، لا يكون هناك شخص واحد يتحمل مسؤولية فشل فريق كامل، فهذه اللعبة جماعية بالدرجة الأولى، وليس هناك ناجحون وفاشلون، بل الجميع عند الانتصار ناجحون، وعند الإخفاق جميعهم فاشلون أيضاً.
وفي حالة المنتخب الألماني في المونديال الروسي، معظم المتابعين اقتنعوا بشكل كبير، بأن المنتخب كله من المدرب إلى اللاعبين كانوا سيئين بشكل لا تخطئه العين المجردة، لذلك من غير المنطقي أن يتم تحميل إخفاق مجهود منظومة كاملة للاعب واحد دون الآخرين، وحتى هذا اللاعب "مسعود أوزيل" أثبتت الإحصائيات أنه أكثر اللاعبين صناعة للفرص، بواقع 5.5 فرصة كل 90 دقيقة، وبفارق كبير عن أقرب منافسيه، كما أن تربعه على عرش صناعة الأهداف في المنتخب الألماني على مرّ تاريخه يدحض نظرية أنه كان سيئاً، لدرجة تحميله إخفاق منتخب كامل.
ولكن يبدو أن الكثير من الأجندات السياسية، وبعض الرياضية، جعلت من اللاعب أسوأ لاعبي المنتخب في المونديال، متناسين أن هناك بعض اللاعبين ممن يتحلون بالحماية الإدارية والإعلامية، كان وجودهم على أرضية الميدان هو "سبب الإخفاق"، الذي تجاهله الكثير من المنتقدين، من اللاعبين السابقين والإعلام الألماني وبعض السياسيين المتطرفين.
حتى ظهر اللاعب "مسعود أوزيل" ببيانه الأخير، ليظهر أشياء بعيدة كل البُعد عن الرياضة، هي التي تسببت في اعتزاله اللعب الدولي، تاركاً حسرة وألماً كبيرين، بأن "العنصرية"، بالرغم من جهود الكثيرين لمحاربتها واستئصالها من الملاعب والمجتمعات بشكل نهائي، إلا أنها ما زالت متجذّرة بصورة كبيرة في المجتمعات الأوروبية، حتى وإن أظهرو غير ذلك.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.