كان من المقرر أن ترمى قنبلة نووية ثالثة على اليابان في حال قررت عدم الاستسلام في الحرب العالمية الثانية، لكن بعد حادثتي هيروشيما وناغازاكي استسلمت اليابان، أما القنبلة الثالثة فقد تم الاستغناء عنها، ونقل قلبها الذي كان مصنوعاً من البلوتونيوم إلى المختبر لإجراء التجارب عليه، لكن سرعان ما اكتسب هذا القلب سمعة سيئة فأطلق عليه لقب "قلب الشيطان" بعد أن تسبب في مقتل عالِمين بالمختبر.
"قلب الشيطان".. بداية الحكاية
كما هو معلوم فقد كان الاستخدام الأول للقنابل النووية في الحرب العالمية الثانية، عندما قررت الولايات المتحدة الأمريكية إلقاء قنبلتين نوويتين على اليابان.
أُلقيَت الأولى على مدينة هيروشيما في 6 أغسطس/آب 1945، وأُلقيَت الثانية على مدينة ناغازاكي في 9 أغسطس/آب 1945.
وكانت الولايات المتحدة على أهبة الاستعداد لإلقاء القنبلة الثالثة أيضاً في حال رفضت اليابان الاستسلام.
استسلمت اليابان بعد حادثتي هيروشيما وناغازاكي، وبالتالي لم تستخدم الولايات المتحدة قنبلتها الثالثة التي كانت تعمل بقلب البلوتونيوم، والبلوتونيوم معدن ثقيل جداً وعالي الكثافة، مشعٌّ وسامّ، وهو شبيه باليورانيوم من ناحية كونه عنصراً قابلاً للانشطار، وبالتالي من الممكن استخدامه لصناعة القنابل النووية.
كانت قنبلة البلوتونيوم تلك تزن نحو 6.4 كغم وامتد قطرها لنحو 9 سم. وعندما أعلنت اليابان استسلامها في 15 أغسطس/آب، سُمِح للعلماء في مختبر لوس ألاموس الوطني بالاحتفاظ بقلب البلوتونيوم؛ لإجراء تجارب عليه.. لكن سرعان ما اكتسب هذا القلب اسماً جديداً ألا وهو "قلب الشيطان".
علماء في المختبر ضحايا "قلب الشيطان"
أراد العلماء في المختبر دراسة حدود المادة النووية باستخدام قلب البلوتونيوم المتوافر لديهم. وتحديداً أرادوا معرفة النقطة الحرجة التي تتحول فيها المادة المشعة إلى حالة خطيرة قبيل الانفجار. لكن دراسة كهذه لا تخلو من الخطورة بالتأكيد، وقد شبهها فيزيائي يُدعى ريتشارد فينمان، بـ"إيقاظ وحش خطير".
وبالفعل تمكن هذا الوحش الخطير من قتل عالمين بمختبر لوس ألاموس الوطني، لكن كيف حدث ذلك؟
في 21 أغسطس/آب 1945، بعد أسبوع من إعلان اليابان نيتها الاستسلام، أجرى الفيزيائي بمختبر لوس ألاموس الوطني هاري داغليان تجربة حرجية نووية على قلب الشيطان كلَّفته حياته. فوفقاً لموقع Science Alert، تجاهل بروتوكلات السلامة ودخل المعمل بمفرده –يرافقه حارس أمن فقط- وبدأ العمل.
تضمَّنت تجربة داغليان إحاطة قلب الشيطان بقرميد مصنوع من كربيد التنجستين، والذي خلق تأثير ارتدادي نوعاً ما للنيوترونات المنبعثة من القلب ذاته. أوصل داغليان قلب الشيطان إلى حافة حالة الحرج الفائق، لكن بينما كان يحاول إزالة قرميدة، أسقطها بالخطأ على كرة البلوتونيوم. فدخل قلب البلوتونيوم مرحلة الحرج الفائق وأطلقت عليه أشعة نيوترونية.
توفي داغليان بعد 25 يوماً. لكن قبل وفاته، عانى الفيزيائي من حروق وبثور في اليد وغثيان وألم. ودخل في النهاية في حالة غيبوبة وتوفي بعمر 24 عاماً.
الضحية الثانية يتوقع موته
وبعد مرور 9 أشهر بالتمام، في 21 مايو/أيار 1946، تسبب قلب الشيطان بمقتل عالم آخر. هذه المرة، كان الفيزيائي الكندي لويس سلوتن الذي أجرى تجربة شبيهة وضع فيها قبة من البريليوم على القلب لدفعه نحو حافة حالة الحرج الفائق.
وكي يضمن عدم تغطية القبة للقلب بصورة كاملة، استخدم سلوتن مفك براغي للحفاظ على فتحة صغيرة. وكان سلوتن قد تلقّى تحذيرات بشأن طريقته سابقاً.
لكن مثلما انزلقت قرميدة كربيد التنجستين من يد داغليان، انزلق مفك براغي سلوتن من مقبضه. سقطت القبة بينما كانت النيوترونات ترتد ذهاباً وإياباً، ووصل قلب الشيطان إلى حافة الحرج الفائق.
روى ريمر شرايبر، أحد زملاء سلوتن، لمجلة The New Yorker الأمريكية، قائلاً: "كان الوميض الأزرق مرئياً بوضوح في الغرفة على الرغم من أنَّ الحجرة كانت مُضاءة جيداً من النوافذ وربما الإضاءة العلوية. لا يمكن أن تكون الفترة الإجمالية التي استمر خلالها الوميض أكثر من بضع أعشار من الثانية. وكان رد فعل سلوتن سريعاً جداً في إزالة عاكس (النيوترونات)".
ربما جاء رد فعل سلوتن سريعاً، لكنَّه كان قد رأى ما حدث لداغليان. ووفقاً لشرايبر، قال سلوتن: "حسناً، انتهى الأمر".
ومع أنَّ الأشخاص الأخرين في المختبر نجوا، كان سلوتن قد تعرَّض لجرعة مميتة من الإشعاع. تحولت يد الفيزيائي إلى الزُرقة وظهرت بها البثور، وانخفض عدد كرات الدم البيضاء لديه، وعانى من الغثيان وألم المعدة وحروق إشعاعية داخلية، وأصبح مشوشاً ذهنياً شيئاً فشيئاً. وتوفي سلوتن بعد تسعة أيام وهو بعمر 35 عاماً.
ماذا حدث لقلب الشيطان؟
غيَّرت وفاة هاري داغليان ولويس سلوتن إلى الأبد طريقة تعامل العلماء مع المواد المشعة. ومُنِعَت التجارب المباشرة مثل التي قام بها الفيزيائيان على الفور. ومنذ هذه اللحظة، بات الباحثون يتعاملون مع المواد المشعة على بعد مسافة معينة وباستخدام أجهزة التحكم عن بُعد.
لكن ما الذي حدث لقلب الشيطان؟
كان الباحثون في مختبر لوس ألاموس الوطني قد اعتزموا إرساله إلى جزيرة بيكيني في جزر مارشال، على أن يجري هناك تفجيرها علناً. لكنَّ القلب كان بحاجة إلى مزيد من الوقت لتبريده بعد تجربة سلوتن، وحين أُلغيت التجربة الثالثة في جزيرة بيكيني، تغيَّرت الخطط بشأن قلب الشيطان. فقد تم صهر البلوتونيوم وأعيد دمجه في المخزون النووي للولايات المتحدة، لإعادة صهره في نوى أخرى عند الضرورة.
ينظر كثيرون اليوم إلى قلب الشيطان على أنه كان "ملعوناً" فقد صمم ليكون قلب قنبلة نووية كانت لتتسبب بمقتل الآلاف، كما أنه تسبب بقتل عالمين بصورة متشابهة لدرجة مرعبة، فقد أجرى كلا العالمين، لويس سلوتن وهاري داغليان، تجارب متشابهة على قلب البلوتونيوم، وارتكب كلاهما أخطاء متشابهة كانت قاتلة بفاصل 9 أشهر عن بعضهما في عاميّ 1945 و1946، ووقع كلا الحادثين في يوم ثلاثاء وفي يوم 21 من الشهر. بل ومات داغليان وسلوتن في نفس حجرة المستشفى. وبالتالي أُطلِق على القلب، الذي كان يسمى سابقاً باسم "Rufus"، لقب "قلب الشيطان".