"مليون صيني قد يموتون بسبب كورونا"، هكذا أفادت بعض التقديرات بعد الانفجار الصادم لجائحة كورونا في الصين إثر الإعلان عن نهاية سياسة صفر كوفيد، في وقت تعافى بقية العالم تقريباً من المرض، الأمر الذي أثار تساؤلات لماذا تفشى المرض بهذا المعدل المقلق في البلاد، وما صحة الأرقام التي تعلنها بكين عن الوفيات.
وأنهت الصين سياسة صفر كوفيد التي تعني فرض إغلاقات صارمة في حال أي ظهور للمرض بأي منطقة، وجاء هذا القرار المفاجئ بعد تذمر شعبي واسع أفضى إلى مظاهرات نادرة في تاريخ البلاد الحديث، إلى جانب استياء الشركات الأجنبية من تداعيات الإغلاقات ومخاوف من تضرر اقتصاد البلاد جراء استمرار هذا الوضع.
في بداية جائحة كورونا وذروتها، كانت الصين محط إعجاب عالمي بسبب إغلاقاتها الصارمة، والتي أدت لمحاصرة المرض وتقليل عدد الوفيات بشكل كبير، مقارنة بأكثر دول العالم تقدماً مثل منافستها الولايات المتحدة، التي نظر لإدارة رئيسها السابق دونالد ترامب للأزمة بأنها نموذج للفوضى والفشل الأمريكيين مقارنة بالانضباط الصيني، الذي كان محط إعجاب خاص من النخب الليبرالية واليسارية الغربية وكذلك المسؤولين الصحيين والمثقفين، الذين أرادوا إغلاقاً صارماً على غرار النموذج الصيني.
غير أن سياسة صفر كوفيد كبّدت الاقتصاد الصيني خسائر فادحة، وتسببت عمليات الإغلاق في ربيع عام 2022 في اضطرابات في الاقتصاد الصيني لم يشهدها منذ الانكماش الاقتصادي الحاد في الربع الأول من عام 2020 بسبب تفشي كوفيد الأول في مدينة ووهان التي نشأ فيها الفيروس.
وأصبحت سياسة صفر كوفيد محط انتقاد عالمي واسع النطاق حتى من منظمة الصحة العالمية التي كانت تتهم بأنها تمالئ الصين.
وبعد أن تخلت الصين عن إغلاقات سياسة صفر كوفيد الصارمة، فإنها يبدو أنها تواجه أزمة جديدة وسط توقعات بتفشي كبير للمرض.
خبراء يحذرون من أن الصين قد تواجه مليون حالة وفاة في العام المقبل
وأدت النهاية المفاجئة لاستراتيجية "صفر-كوفيد" الصينية المثيرة للجدل إلى مباغتة النظام الصحي الهش في البلاد بينما لم يكن مستعداً، تاركاً المستشفيات تتدافع لتأمين أسرّة، والصيدليات للبحث عن الأدوية، والسلطات تسابق لبناء عيادات خاصة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
وقال مسؤول كبير في منظمة الصحة العالمية، يوم الخميس 22 ديسمبر/كانون الأول، إنَّ الصين قد تكافح لتسجيل الإصابات بفيروس كورونا المستجد في ظل الارتفاع الحاد في الحالات. ويقول الخبراء إنَّ الصين قد تواجه أكثر من مليون حالة وفاة في العام المقبل، حسبما ورد في تقرير للصحيفة البريطانية.
بكين لجأت لطريقة جديدة لاحتساب الضحايا، وتتحدث عن 10 وفيات في أسبوعين
لكن على الرغم من الأدلة على اكتظاظ المستشفيات ومحارق الجثث، سجّلت حكومة الصين أقل من 10 وفيات بسبب "كوفيد-19" في الأسبوعين الماضيين.
وصرح خبير طبي صيني بارز، يوم الثلاثاء 20 ديسمبر/كانون الأول، بأنَّ الوفيات الناجمة عن الالتهاب الرئوي وفشل الجهاز التنفسي بعد الإصابة بـ"كوفيد-19″ هي وحدها التي ستُصنّف على أنها ناجمة عن فيروس كورونا المستجد.
وقال وانغ تشيانغ، رئيس قسم الأمراض المعدية في مستشفى جامعة بكين الأول، إنَّ الوفيات الناجمة عن مضاعفات في مواقع أخرى بالجسم، بما في ذلك الحالات الأساسية التي تفاقمت بسبب الفيروس، ستُستبعَد من الأرقام الرسمية.
وقال خبراء مطلعون على بروتوكولات المستشفيات في الصين إنَّ مثل هذه الحالات لم تكن تُستبعَد دائماً في السابق.
وأوضح وانغ أنَّ المعايير قد تغيرت لأنَّ متحور "أوميكرون" كان أقل ميلاً للتسبب في أعراض أخرى تهدد الحياة، على الرغم من أنَّ المستشفيات الصينية لا تزال مطالبة بالحكم على كل حالة للتأكد بدقة مما إذا كان "كوفيد-19" هو السبب الأساسي للوفاة أم لا.
وحذّر خبراء صحة أجانب من أنَّ المعايير الصينية المشددة لتحديد الوفيات الناجمة عن "كوفيد-19" ستقلل من العدد الحقيقي للموجة الحالية من الإصابات في البلاد، وقد تجعل من الصعب توصيل أفضل الطرق للناس لحماية أنفسهم.
ويقول خبراء الأمراض خارج الصين إنَّ هذا النهج المقيد يغض الطرف عن العديد من مضاعفات "كوفيد-19" القاتلة الأخرى المعترف بها على نطاق واسع، من جلطات الدم إلى النوبات القلبية وكذلك الإنتان والفشل الكلوي.
وعلّق الدكتور آرون غلات، خبير الأمراض المعدية في مستشفى Mount Sinai South Nassau في نيويورك والمتحدث باسم جمعية الأمراض المعدية الأمريكية، إنَّ التعريف الجديد "لن يعكس بوضوح جميع الوفيات الناجمة عن كوفيد. القول إنك ستتجاهل أي شيء آخر يحدث في الجسم لا معنى له وغير دقيق علمياً".
وأفاد باحثون كوريون، الشهر الماضي، بأنَّ 33% من الوفيات المرتبطة بمتحور أوميكرون بين يوليو/تموز 2021 ومارس/آذار 2022، في أحد المستشفيات الكبرى كانت لأسباب أخرى غير الالتهاب الرئوي.
اتهامات سابقة للصين بتقليل عدد الوفيات
بتسجيل واحد من أقل عدد وفيات "كوفيد-19" في العالم، اتُّهمِت الصين من قبل الغرب باستمرار بتقليل عدد الإصابات والوفيات لأسباب سياسية.
وتقدّر دراسة أُجرِيَت في يونيو/حزيران 2020 عن تفشي المرض الأولي للبلاد في ووهان ابتداءً من أواخر عام 2019 أنَّ 36000 قد ماتوا في ذلك الوقت -أي 10 أضعاف الرقم الرسمي.
وقدّرت دراسة نشرتها دورية Lancet الأمريكية في أبريل/نيسان، التي نظرت في الوفيات المرتبطة بـ"كوفيد-19″ في 74 دولة ومنطقة خلال 2020-2021، أنَّ هناك 17900 حالة وفاة زائدة في الصين خلال تلك الفترة عن عدد الوفيات الرسمي البالغ 4820 حالة.
وأثار الإعلان الجديد برفع القيود من الصين مخاوف من أنَّ الحكومة كانت تسعى لإخفاء التأثير الحقيقي لتخفيف ضوابطها الصارمة للعدو الوبائي، بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من عمليات الإغلاق الحازمة والاختبارات الجماعية الإلزامية.
تقارير عن انتشار الجنازات ومحارق الجثث
تقول الصحيفة البريطانية إنه على الرغم من التقارير المنتشرة التي تفيد بأنَّ دور الجنازات ومحارق الجثث تكافح للتعامل مع الزيادة في الطلب، لم ترتفع أعداد الوفيات الرسمية في الصين، مع عدم الإبلاغ عن وفيات جديدة في 21 ديسمبر/كانون الأول، والإبلاغ عن سبع وفيات فقط منذ أعلنت الحكومة في 8 ديسمبر/كانون الأول إنهاء القيود المرتبطة بسياسة "صفر كوفيد".
في الواقع، خفّضت الصين عدد الوفيات المتراكم في 20 ديسمبر/كانون الأول، ليصل العدد الإجمالي إلى 5241.
ولم ترد لجنة الصحة الوطنية الصينية على الفور على طلبات للتعليق على إحصاءات "كوفيد-19" في البلاد والوفيات الزائدة.
باحث صيني يعترف بأنه يستحيل تسجيل الوفيات في ظل توسع العدوى
وقال تشين جيمينغ، الباحث الطبي في جامعة فوشان الصينية، إنه حتى إذا وسّعت الصين من نطاق تحديد وفيات "كوفيد-19″، فمن غير المرجح أن تعكس البيانات الرسمية الوضع على الأرض، بالنظر إلى السرعة التي تنتشر بها العدوى الآن.
وأضاف: "إنَّ أعداد الحالات والوفيات المُبلَّغ عنها ليست سوى جزء صغير جداً من الأعداد الحقيقية".
من جانبه، قال بن كاولينغ، عالم الأوبئة في كلية الصحة العامة بجامعة هونغ كونغ، إنَّ حصيلة الوفيات الرسمية ستكون منخفضة للغاية حتى لو استُخدِم تعريف أوسع؛ "لأنه لا تُجرى سوى القليل من الاختبارات" الآن بعد أن أوقفت الصين المراقبة الجماعية.
من ناحية أخرى، أشار كاولينغ إلى أنَّ تصنيف كل شخص توفي بينما كان إيجابياً بفيروس كورونا المستجد على أنه مات نتيجة المرض قد يؤدي إلى زيادة في الإحصائية. ومثل هذا النهج "يمكن أيضاً انتقاده لأنه قد يشتمل على وفيات مصادفة مثل الأشخاص الذين اصطدمت بهم حافلة أثناء إصابتهم بحالة متوسطة من كوفيد-19، وهو ما حدث بالفعل".
خبراء غربيون يقولون إن الصينيين لا يثقون في إحصاءات حكومتهم
ولفتت الدكتورة ماي هي، اختصاصية علم الأمراض في جامعة واشنطن في سانت لويس، التي شاركت في دراسة ووهان التي نُشِرَت في عام 2020، إلى أنه لا يزال هناك نقص في الثقة في سلامة الأرقام الصينية.
وقالت: "المشكلة الحرجة المستمرة هي الافتقار إلى الشفافية؛ إذ لا يمكن للأشخاص استخدام بيانات الصينيين لإجراء البحث والتحليل، ولا تقديم إرشادات للخطوة التالية".
وتابعت فيكتوريا فان، الزميلة البارزة في الصحة العالمية في مركز أبحاث التنمية العالمية في واشنطن، أنَّ الافتقار إلى الثقة في الإحصائيات الصينية تسبب أيضاً في حالة من الذعر بين أفراد الجمهور.
ورأت: "من مصلحة الحكومة أن تكون أكثر شفافية؛ لأن الكثير من السلوكيات الصادرة عن الجمهور يرجع إلى افتقارهم للمعلومات".
أسباب التفشي المتأخر لجائحة كورونا في الصين بعدما تعافي بقية العالم
مفارقة كبرى أن تتفشي جائحة كورونا في الصين بعدما تعافي بقية العالم، رغم أنها كانت مثالاً يحتذى في ذروة الوباء.
ويبدو أن تفشي كورونا في الصين سببه هذا النجاح المبكر، الذي كانت تشيد به منظمة الصحة العالمية وبعض الصحف والخبراء في الغرب.
ويعتقد أن الصين ظلت متمسكة بـ"سياسة صفر كوفيد" الصارمة، بعد أن أنهى بقية العالم الإغلاقات، لأنها كانت قلقة من أن المناعة الجماعية للصينيين، أقل من بقية العالم، وذلك بسبب عدم إصابة أعداد كبيرة من الصينيين في السابق في ظل الإغلاقات الصارمة، حيث أن نجاح الصين السابق في فرض إغلاقات صارمة حاصرت المرض بشكل مثير للإعجاب في بدايته، هو نفسه جزءاً من أسباب المأزق الحالي.
فهذا يعني بمنتهى البساطة أن الصينيين لم يصابوا بالمرض على نطاق واسع مثل بقية العالم، تداخل هذا مع ضعف المناعة التي توفرها اللقاحات الصينية مقارنة بنظيراتها الغربية لتجعل الشعب الصيني يعاني أكثر من غيره من ضعف المناعة الجماعية أو غياب ما يعرف بمناعة القطيع.
وفي الوقت ذاته لا تريد أن تلجأ بكين للقاحات الغربية ولا سيما الأمريكية مثل مودرنا وفايزر لأن ذلك سيبدو هزيمة لها في منافستها مع واشنطن.
ولم توافق الحكومة الصينية في الموافقة على لقاحات الحمض النووي الريبوزي (mRNA) الأكثر فاعلية أو استيرادها (مثل مودرنا وفايزر).
تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية قد يكون جزء من هذا هو الرغبة في تعزيز الحلول والتكنولوجيا المحلية. لكن قد يكون للمخاوف الصينية من المؤامرات الأمريكية دور أيضاً، لأنه منذ ما قبل الوباء بفترة طويلة، روّج الأكاديميون العسكريون الصينيون وشخصيات عامة أخرى لفكرة أنَّ الولايات المتحدة تطور فيروسات لاستهداف إثنية الهان الصينية جينياً.
كما أن هناك سبباً إضافياً، هو أن الصين مجتمع به نسبة عالية من المسنين، ويعتقد أن عدداً كبيراً منهم غير ملقح، أو تلقى جرعة لقاح واحدة، وفي الوقت ذاته فإنها لا تمتلك بكين نظاماً صحياً متطوراً يضاهي الدول الغربية.
والآن يبدو أن هذه المخاوف تتحقق.
وتلوم بعض التقييمات الغربية القيادة الصينية على عدم تأهب النظام الصحي الصيني للوضع الحالي، بسبب تركيزه على إجراء الإغلاق والعزل بدلاً من إعداد النظام الصحي لمواجهة تفشي الجائحة، مثلما حدث في أغلب دول العالم.
فمنذ احتواء أول تفشّ لفيروس كورونا المستجد في ووهان بنجاح في أبريل/نيسان 2020، كان أمام الصين أكثر من عامين ونصف العام للتحضير لنهاية سياسة "صفر كوفيد"، التي فرضت قيوداً صارمة على عامة الناس الذين ازدادوا سأماً من الحياة تحت الإغلاق. لكن بكين لم تستخدم ذلك الوقت بحكمة، حسبما ورد في تقرير مجلة Foreign Policy.
والآن، تضرب موجة "كوفيد-19" المتصاعدة في جميع أنحاء البلاد نظام رعاية صحية غير جاهز تماماً. وبعدما كانت الشوارع فارغة من قبل بسبب الإغلاق، صارت الآن فارغة لأنَّ الناس يغامرون بالخروج فقط للحصول على الأدوية.
لن يكون نجاح الصين أو فشلها في مواجهة جائحة كورونا، واضحاً لسنوات، هذا إن اتضح على الإطلاق، لكن الصورة على الأرض حتى الآن تتراوح من مخيبة للآمال إلى مخيفة. فقد أمضت الصين سنوات الوباء في تعزيز الضوابط الخالية من "كوفيد-19" إلى أقصى الحدود، وليس توسيع نظام الرعاية الصحية.
العاملون بالمجال الصحي تأثروا بالدعاية السياسية
ويبدو أنَّ الثقة المفرطة والإفراط في الاستثمار في إجراءات الإغلاق والعزل، إلى جانب المطالب السياسية والدعاية، جعلت العاملين في مجال الرعاية الصحية غير متأكدين مما يجب عليهم فعله، كما جعلت الجمهور الصيني معرضاً للخطر بدرجة كبيرة.
ومن المستحيل الحصول على معدلات موثوقة؛ فالأرقام الرسمية خيالية لدرجة ساخرة. وأدى سحب نظام الاختبار الباهظ إلى نقل الصين من طرف إلى آخر، حيث شكل المواطنون مجموعات على وسائل التواصل الاجتماعي للعمل معاً للعثور على مجموعات الاختبار التي نقصت فجأة.
تقول المجلة الأمريكية إنه من المحتمل جداً، في بلد بياناته الداخلية ضعيفة بطريقة صادمة، أنَّ الحكومة المركزية نفسها ليست لديها أية إحصاءات دقيقة للوفيات. ولم تأتِ وسائل الإعلام الحكومية الصينية، وخاصة برنامجها الإخباري الرائد، على أي ذكر تقريباً لموجة "كوفيد-19" باستثناء المقتطفات القصيرة التي تزعم أنَّ كل شيء في المستشفيات على ما يرام.
حديث عن استعانة الأطباء الصينيين بنظرائهم الأمريكيين بشكل شخصي
ونتيجة لكل من الفشل في الاستعداد وعدم الرغبة في الاعتراف علناً بمدى الأزمة، يكافح العاملون في مجال الرعاية الصحية للتعامل معها.
في بعض الحالات، يتصل الطاقم الطبي الصيني بنظرائهم الأمريكيين من خلال اتصالات شخصية لمحاولة تحديد أفضل طرق العلاج، حسب قول مجلة Foreign Policy الأمريكية.
وتحدثت طبيبة في بلدة صغيرة شمال شرق البلاد -طلبت عدم الكشف عن هويتها- عن ارتفاع أعداد الحالات وارتجال سلطات المستشفى لتطوير بروتوكولات الفرز والعلاج مع القليل من التوجيه، سواء من الهيئات الحكومية أو مجموعة المؤلفات الطبية والخبرة التي تطورت عبر العالم على مدى السنوات الثلاث الماضية.
وقالت الطبيبة إنَّ ما يقرب من ثُلث إلى نصف حالات الدخول في قسم المرضى الداخليين في المستشفى كانت إيجابية بـ"كوفيد-19″ وإنَّ نحو 60% من الموظفين، بمن في ذلك هي نفسها، قد أصيبوا به. وأضافت: "أشعر أنَّ المستشفى يعاني نوعاً ما بسبب عدد العمال المصابين بفيروس كورونا".
وبدأ تأجيل العمليات الجراحية الاختيارية. على مدار الأيام القليلة الماضية، وبعد فشل المحاولات الأولية لتقسيم الوحدات بين الأقسام المصابة بـ"كوفيد-19″ وغير المصابة، بدأ مسؤولو المستشفى خططاً لتفريغ وحدات كاملة من المستشفى لمرضى الفيروس. وتسارعت هذه الخطط ليس فقط بسبب الانتشار السريع للفيروس، بل أيضاً لأنَّ السلطات الصحية الحكومية لم تعُد تستخدم مرافق الحجر الصحي التي كانت ذات يوم مركزية لاستراتيجية "صفر كوفيد". وأكد موظف إداري في مستشفى بوسط بكين نمطاً مشابهاً؛ قائلاً إنه منذ 10 ديسمبر/كانون الأول تقريباً، وهي أول عطلة نهاية أسبوع بعد رفع القيود، يكافحون للعثور على موظفين لتغطية المناوبات.
هل تطور الفيروس في الصين؟
ومن الممكن أنَّ الفيروس نفسه قد تطور. قالت الطبيبة من البلدة الصغيرة في الشمال الشرقي إنها علمت بعدة حالات لأطفال تقل أعمارهم عن 6 أشهر أصيبوا بالعدوى في الأيام القليلة الماضية، وأنَّ العديد من الأطفال دون سن العاشرة أصيبوا بالمرض.
من السابق لأوانه استخلاص استنتاجات قاطعة، لكن هذا لم يمنع بعض السلطات الطبية من محاولة الاستخفاف بخطر الإصابة. في 9 ديسمبر/كانون الأول، قال تشونغ نانشان، أشهر عالمي الأوبئة في الصين، في مقابلة، إنَّ "أوميكرون اليوم لم يعد مخيفاً!" نافياً أية مخاطر طويلة الأمد للفيروس، وواصفاً الآثار اللاحقة لـ"كوفيد-19″ مثل التعب، وقلة القوة، والاكتئاب، وضباب الدماغ، بأنها لا شيء سوى "مشاعر ذاتية" ستختفي بمرور الوقت.
ويتناقض هذا مع التحذيرات الرهيبة التي كانت تقال خلال حقبة "صفر كوفيد" التي اتبعتها الصين وتوقفت عنها منذ أسابيع قليلة.
في أكتوبر/تشرين الأول 2022، قال ليانغ وانيان، رئيس فريق خبراء الاستجابة الوبائية التابع للجنة الصحة الوطنية، إنه برغم أنَّ الأوميكرون أقل فتكاً، لا يزال يصيب العديد من الأشخاص نظراً لقدرته السريعة على الانتقال والتسبّب بعدد كبير من الوفيات بنفس طريقة السلالات الأخرى من الفيروسات. وأكد كل من ليانغ وو زونيو، رئيس المركز الصيني للسيطرة على الأمراض والوقاية منها، على مخاطر طويلة الأمد من "كوفيد-19".
وهذا ترك الكثير من الناس في حيرة من أمرهم وغير متأكدين بشأن من يثقون به. علّق أحد الأشخاص العاديين: "لا أستطيع أن أصدق الخبراء والأساتذة بعد الآن". كما اشتكى موظفو الرعاية الصحية من ضغوط السياسات المتعرجة، ولاحظوا مخاوف المرضى المتزايدة من أنَّ المستشفيات صارت بؤر إصابة.
سياسة صفر كوفيد أضرت بعملية تصنيع ونقل الدواء
علاوة على ذلك، وصل نقص الأدوية إلى مستويات حرجة، مع فشل في التخزين أو التحضير، على الرغم من أنَّ البلاد هي أكبر مصنع للأدوية في العالم. وقد أضرّت سياسات "صفر-كوفيد"، التي غالباً ما تغلق الشحن والسكك الحديدية والشاحنات، بالفعل سلسلة التوريد الصيدلانية وكذلك التصنيع ضرراً كبيراً. لم يكن هناك أي توريد تقريباً للأدوية المضادة للفيروسات مثل لاكسلوفيد وريمديسيفير، التي لا تُصنّع في الصين، ولم تُثَر سوى القليل من المناقشات أو الوعي حولها حتى وقت قريب.
وأدى تركيز الرئيس الصيني شي جين بينغ على الطب الصيني التقليدي – وهو علم كاذب (حسب وصف المجلة الأمريكية) مع ضوابط ضعيفة لسلامة الأدوية – إلى الدفع باستخدام أدوية وتقنيات الطب الصيني التقليدي لعلاج "كوفيد-19". بينما تدعي الأوراق الصينية النجاح في العلاج، فإنَّ دراسات الطب الصيني التقليدي سيئة الجودة وإنتاجها إلى حد كبير لأغراض تجارية أو دعائية.
ومن الأسباب الكامنة لتفشي المرض أيضاً سجل التطعيم المتقطع. إذ إنَّ معدل الجرعتين أكثر من 90% لكنه أقل بكثير بين كبار السن الصينيين، وخاصة الذين تزيد أعمارهم عن 80 عاماً. وتلقى حوالي 40% فقط من الجمهور حقنة معززة. بينما ألقى بعض المحللين باللوم على الحكومة لعدم تعزيز حملات التطعيم أكثر، إلا أنَّ مقاومة التطعيم بين الجمهور قوية، على الرغم من جهود الإقناع المتكررة من جانب السلطات المحلية.
وساهمت أيضاً الطبيعة المُجزّأة للحكومة في دولة ضخمة. يميل الصينيون الأكبر سناً إلى العيش في مناطق ريفية أكثر، وكانت إجراءات "كوفيد-19" أكثر صرامة في المدن منها في الريف. وبدلاً من طلب التطعيم مباشرةً، اشترطت سلطات المدينة، مع بعض الاستثناءات، إثباتاً للتطعيم ضمن نظام تطبيق الكود الصحي -الذي كان منتشراً حتى وقت قريب. وحتى هذا عادةً ما يتطلب فقط الجرعة الأولى من التطعيم، وليس الجرعات المعزّزة. وغالباً ما يتجنب كبار السن الذين يعيشون في المناطق الريفية نظام تطبيق الكود الصحي تماماً لأنهم لا يسافرون.
جاءت نهاية حالة "صفر كوفيد" بسرعة وبنحو غير متوقع، لتؤشر على أن مخاوف الحكومة الصينية التي جعلتها تصر على هذه السياسة قد تكون حقيقية.
ومن الواضح أنَّ الحكومة غير متأكدة من كيفية التعامل مع الخطوات التالية. يمكن أن تؤدي إعادة تشكيل نظام الرعاية الصحية الصيني صوب توفير معلومات حقيقية ورعاية مُحدّثة إلى إنقاذ العديد من الأرواح. لكن في الوقت الحالي، تسود الفوضى. وموظفو الرعاية الصحية الصينيون مرتبكون وقلقون مثل الجمهور.