لا أستطيع منْع نفسي من الاندهاش كلما قرأتُ مروية تاريخية تحكي أثراً من حياة أبي رافع مولى الرسول، اندهاشي هنا يرجع إلى الشخصية ذاتها، فذلك الرجل وصفته كتب التاريخ بأنه "قبطي من أهل مصر"، وهو ما يجعله ضمن فئة قليلة للغاية من المصريين الذين عاصروا النبي وصاروا من صحابته، لم يُشاركه في تلك المكانة إلا أعضاء وفد السيدة مارية القبطية، هدية المقوقس إليه.
عاش أبو رافع في الجزيرة قبل الإسلام بفترةٍ من الزمن، فما الذي وصل به إلى هناك؟ وكيف احتمل العيش في قلب الصحراء وهو ابن أرض الوادي كثيفة الزروع والثمار؟ ولماذا لم ينل حقّه من التكريم رغم تفرد صحبته للنبي رغم قِبطيته، فلم نكثر في الاستماع إلى سيرته ومروياته كما جرى مع سلمان الفارسي مثلاً؟ رغم ذلك بقي أبو رافع مجهولاً حتى في مصر نفسها التي لم تحتفِ بصحابييها كما يجب.
لذا آثرتُ الكتابة عنه، وتحقيق سيرته ململماً الشذرات القليلة التي وردت عنه بين ثنايا الكتب، لعلّي أستطيع الإجابة عن جانبٍ من تلك الأسئلة.
حكاية أسلم
بحسب المرويات فإن اسمه الحقيقي هو "أسلم"، قيل أيضاً إن اسمه "إبراهيم" أو "يسار"، ومع تعدُّد تلك الأسماء فإنه اشتهر بكُنيته التي عُرف بها لاحقاً، وهي "أبو رافع"، أما لقبه الأشهر الذي نعتته به بعض الكتب دون حتى الإشارة إلى اسمه فهو "مولى رسول الله"، وكأنه كافٍ بحدّ ذاته لتعريفه دون تفاصيل زائدة عن الاسم والنسب والحسب.
لا نعرف شيئاً عن حياة أبي رافع قبل أن يفد إلى الجزيرة؛ مَن أبوه؟ مَن قومه؟ كيف وأين عاش؟ لا أحد يدري، ولم أعثر على أي معلومة ولو صغيرة في هذا الشأن، لكنّي هنا أرجح أنه ربما أُسر طفلاً لم يبلغ الرُّشد بعد على أيدي بعض القبائل العربية التي عاشت في سيناء، ومنها انتقل بوسيلة ما إلى مكة، حيث أصبح ضمن ملكية العباس، عم النبي، وكانت بداية علاقته بالهاشميين.
وقيل في وصفه "كان أبو رافع نحيفاً طويلاً، شديد السُّمرة، وديعاً، ليّن العريكة، خفيف الحركة، لا يُخفي مشاعره إذا استفزّه أمر أو استخفّه نبأ"، كما تحدّث هو نفسه بأنه كان "رجلاً ضعيفاً".
أسلم والإسلام
عاش أبو رافع فترة طويلة من حياته عبداً للعباس بن عبد المطلب، وكان يمارس مهمة "بري السهام والأقداح"، وحينما بزغت الدعوة الإسلامية إلى النور كان أبو رافع في بداية العشرينيات، وكغيره من رقيق مكة اجتذبته تلك الدعوة التي تنادي بالمساواة بين البشر، وإلغاء الفروق بين السادة والعبيد.
أسلم أبو رافع سرّاً، وهاجر إلى الحبشة، حيث عاش بصحبة ابن عم النبي جعفر بن أبي طالب، لكنه قرّر العودة إلى مكة مُجدداً، وعاش في كنف العباس، وبخصوص عودته لم أعرف لها سبباً مباشراً إلا ما قيل بشكلٍ عام عن بعض العائدين الذين رجعوا إلى مكة للتحقق من شائعة أن أهلها أسلموا، ولما دخلوها اكتشفوا كذب تلك الشائعة.
بعد فترةٍ من خدمة العباس وهبه إلى ابن أخيه، وهكذا عاش أبو رافع في كنف الرسول، وكان حلقة وصل هامة بين الرسول وعمّه، فمثلاً المعروف عن العباس أن إسلامه تأخر حتى يوم فتح مكة، وهو ما جعل المؤرخين يعدّون أنه أسلم متأخراً، هنا يظهر دور أبي رافع، الذي كشف أن العباس وأسرته أسلموا سراً قبيل غزوة بدر، لكنه أخفى إسلامه وأظهر عقيدة القريشيين- بتنسيقٍ من النبي- حتى فُتحت مكة، وقيل إن العباس قام بتلك الخطوة، لأنه كان تاجراً وللناس عليه ديون لم تُسدد، فخاف أن يقطعوها عنه، وتُصادر كافة أمواله ما إن يُعلن إسلامه.
وهنا يحكي أبو رافع "كنتُ غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا، فأسلمت، وأسلمت أم الفضل، وكان العباس قد أسلم، ولكنه كان يهاب قومه فكان يكتم إسلامه"، وبحسب مروية أخرى، فإنه ما إن انتهى العباس وأسرته من جلسة استقروا فيها إلى اعتناق الإسلام سراً، هرع أبو رافع إلى النبي، وأخبره ففرح بشدة، لدرجة أنه أعتق أبا رافع، وحرّره من العبودية سعادةً بإسلام عمه.
عقب هجرة النبي إلى المدينة لم يصحبه معه، وبقي في معيّة العباس. وهنا يكشف عمر عودة الخطيب، في كتابه "لمحات في الثقافة الإسلامية"، أنه خلال سريان صُلح الحديبية بين النبي والمُشركين، طلب إليه أبو رافع أن يسافر إليه ويعيش معه في المدينة، فرفض النبي بسبب التزامه بعهده، وقال له "إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع".
أبو رافع من أهل محمد
فور وصول نبأ الخسارة المذلة في "بدر" إلى القريشيين زُلزلت مكة، ووقف الناس في صحن الكعبة يتبادلون النقاشات الذاهلة، حول كيفية فوز فئة المسلمين القليلة على فئة الكفار الكثيرة، من ضمن هؤلاء المُناقشين كان الشاب المتحمس أبو رافع، الذي يُخفي إسلامه، لم يستطع كتمان فرحته أكثر من ذلك، فراح يهتف "تلك والله الملائكة.. تلك والله الملائكة".
سمع أبو لهب كلمات أبي رافع فغضب بشدة، وضربه بشدة في وجهه، ووقع نزاع بين الرجلين، أنهته أم الفضل زوجة العباس، بعدما تدخلت في العراك وضربت رأس أبي لهب بعمود، صارخة "استضعفته أن غاب عنه سيده"، لاحقاً سيموت أبو لهب من أثر تلك الضربة.
عقب تلك الليلة، لم يعد أبو رافع آمناً على نفسه إن بقي أكثر من ذلك في مكة، فانسلَّ في ذات الليلة إلى المدينة، حيث عاش تحت عناية النبي، وبداية من غزوة أُحد حضر جميع المعارك مع الرسول، وكان يتولّى الإشراف على متاع النبي خلال أسفاره.
مع النبي نال أبو رافع تكريماً لم يسبق له مثيل، فخلال شجار له بصحبة مملوك حبشي للنبي، راح كلاهما يفتخر بأصله، فنهاهما عن ذلك قائلاً "لا تقولا هذا، فإنما أنتما رجلان من آل محمد".
ذات الموقف تكرّر حينما حاول رجل مخزومي عيّنه الرسول على جمع الصدقة، حاول الاستعانة بأبي رافع فرفض النبي قائلاً إن "الصدقة لا تحلُّ لنا"، حسبما روى محمد الروداني في كتابه "جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد".
ووفقاً لما ورد في طبقات ابن سعد، فإن أبو رافع بات يعتبر نفسه واحداً من آل محمد، وردَّد في عددٍ من مروياته عبارة "كان الإسلام قد دخلنا أهل البيت".
مع قدوم السيدة مارية إلى المدينة، كان منطقياً أن يستعين به النبي في العناية بها، لذا نعلم من المرويات أن سلمى، زوجة رافع، هي التي أشرفت على ولادة السيدة مارية وخروج "إبراهيم" ابن النبي إلى الدُّنيا.
زوّجه النبي من مولاته سلمى، ورُزق منها بعبيد الله بن أبي رافع وبقية إخوته علي وعبد الله وزينب ورافع والحسن والمغيرة وغيرهم. سلمى أيضاً كانت مولاة النبي، إذ كانت مملوكة لصفية بنت عبد المطلب، ومنها انتقلت إلى النبي، وشهدت معه خيبر، واعتمد عليها كقابلة للسيدة مارية، كما ألحقها بخدمة ابنته فاطمة لرعايتها على العناية بأبنائها. بقيت سلمى وفيّة لفاطمة حتى ماتت بين يديها، متأثرة بمرضها الذي ألمَّ بها بعد رحيل الرسول.
ويكشف الزمخشري في كتابه "ربيع الأبرار ونصوص الأخيار" جانباً من عناية أبي رافع بالحسين بن علي، إذ يروي أنه كان يلاعب الحسين وهو صبي بالمداحي (حفرة صغيرة تُلقى فيها الأحجار، من يُدخل الحجر الحفرة يكون فائزاً).
وبصحبة النبي سمع الكثير من الأحاديث، روى منها قرابة 68 حديثاً (4 منها وردت في الصحيحين، انفرد البخاري بواحدٍ منها، والثلاثة الباقية في صحيح مسلم)، كما رُوي عنه أنه كان أوّل من اهتمّ بالكتابة عن تاريخ النبي وسُنته، فألّف كتاباً في هذا الشأن سمّاه "كتاب السُّنن والأحكام والقضايا"، أعلى علماء الشيعة من شأن هذا الكتاب، لتكريمهم لشخصية أبي رافع بسبب دعمه الدائم للإمام علي.
مع الإمام علي
عقب وفاة الخليفة الثالث عثمان، وبدء الصراع بين علي ومعاوية على السُّلطة، دعّم أبو رافع الإمام علي، رغم أنه كان حينها شيخاً كبيراً في الثمانين من عُمره، باع أملاكه في المدينة، وصحب الوفد العلوي الذي خرج إلى البصرة ثم إلى الكوفة.
اعتمد عليه الإمام علي في إدارة بيت ماله، حتى وُصف في الأدبيات الشيعية بأنه كان "وزير مالية دولة الإمام"، وعقب وفاة علي عاش أبو رافع في كنف الحسن، الذي آثر إيقاف الحرب مع معاوية، وتنازل له عن الخلافة، وعاد إلى المدينة، وكان بصحبته أبو رافع.
نهاية حذّره منها الرسول
في نهاية حياته عاش أبو رافع عيشة موسرة، وامتلك الذهب والفضة والأراضي والبيوت، وهنا تذكّر تحذيراً قديماً للنبي له، نهاه فيه عن اكتناز الثروات، فكان يشعر بالأسى تجاه أمواله، وكثيراً ما كان يردد "ليت أبا رافع مات في فقره".
لم أعلم تحديداً متى مات، فقد اختلفت الروايات بشأن وفاته؛ فقيل مات في أواخر خلافة علي، وقيل أيضاً إنه مات في عهد عثمان.
ومن نسله خرج مَن عُرفوا لاحقاً بـ"آل أبي رافع"، ويُشار إليهم دائماً بأنهم من فضلاء أهل المدينة، ومن أبرز الموالين للعلويين، أبرزهم ولده عبيد الله بن أبي رافع، وهو أيضاً أسهم في خدمة الإمام علي عبيد الله بن رافع، الذي كان يُساعد والده في إدارة بيت المسلمين، كما أن الإمام علي جعله كاتبه الخاص يُملي عليه مواضيعه ورسائله، وعقب وفاة علي ألّف عدة كتب لنصرة قضيته، ولتبيان سيرة الصحابة الذين دعموه في حربه.
شطرٌ من هذا النسل الرافعي استقر في الأندلس لاحقاً، وخرج منهم فقهاء زهاد، أسهموا في نشر الإسلام في شبه الجزيرة الأيبيرية، وفقاً لما ذكره ابن عميرة في كتابه "بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.