عاد زيلينسكي إلى أوكرانيا بعد زيارة "خاطفة" إلى واشنطن سعى خلالها إلى إقناع الكونغرس بمواصلة دعم كييف، وقدم له بايدن صواريخ باتريوت في استفزاز واضح لروسيا، فإلى أين تتجه "المرحلة الجديدة" من الحرب؟
ففي أول زيارة خارجية له منذ اندلاع الحرب، التقى الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بالرئيس الأمريكي جو بايدن، وعقد مؤتمراً صحفياً معه، ثم ألقى خطاباً حماسياً للغاية أمام جلسة مشتركة لغرفتي الكونغرس (النواب والشيوخ) قبل أن يستقل طائرة حربية أمريكية عائداً إلى كييف مساء الأربعاء 21 ديسمبر/كانون الأول.
لم يتم الإعلان مسبقاً عن زيارة زيلينسكي ولم يعرف عنها العالم إلا قبيل هبوط الطائرة الحربية التي تقل الرئيس الأوكراني على الأراضي الأمريكية، وهي أيضاً طائرة أمريكية، والأمر نفسه تم تنفيذه بشأن مسار العودة إلى أوكرانيا، والسرية هنا أمر مفهوم تماماً بسبب المخاوف الأمنية.
لماذا استقبله بايدن في هذا التوقيت؟
أوكرانيا بحاجة إلى استمرار الدعم الأمريكي بطبيعة الحال، لكن هذا الدعم كان ولا يزال مستمراً دون الحاجة إلى هذه المخاطرة التي أقدم عليها زيلينسكي واحتاجت إلى ترتيبات أمنية وتخطيط سري، فلماذا فعلها؟
الإجابة هنا لا تتعلق بساحة الحرب، التي تصفها روسيا بأنها "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفها الغرب بأنها "غزو"، بل تتعلق بالأوضاع السياسية عبر الأطلسي هناك في واشنطن، حيث الاستقطاب الحاد سيد الموقف، بحسب تقرير لموقع Vox الأمريكي.
فالكونغرس منقسم بشدة بين الديمقراطيين والجمهوريين، ويوم 3 يناير/كانون الثاني 2023 ستنتقل الأغلبية في مجلس النواب من حزب إدارة بايدن إلى الحزب الجمهوري، وهو ما يعني أن إرسال المساعدات إلى أوكرانيا سيواجه صعوبات، وهذا هو السبب الرئيسي وراء توقيت زيارة زيلينسكي إلى واشنطن، وهي الزيارة التي رتبت لها إدارة بايدن.
وعلى الرغم من تلك المكالمة الهاتفية في يونيو/حزيران الماضي، والتي انفعل فيها بايدن على زيلينسكي بسبب شعور الرئيس الأمريكي بأن نظيره الأوكراني "لا يظهر امتناناً كافياً" للدعم الأمريكي، إلا أن إدارة بايدن والديمقراطيين عموماً لا نية لديهم لتخفيض الدعم العسكري والإنساني لكييف، لكن القرار الخاص بحجم وتكلفة ذلك الدعم بيد الكونغرس وليس البيت الأبيض.
تقول إدارة بايدن إن دعم أوكرانيا قرار يحظى بمساندة الحزبين ولن يتأثر بانتقال السيطرة على مجلس النواب للجمهوريين، إلا أن عدداً ليس قليلاً من الأعضاء الجمهوريين قد عبروا بالفعل عن معارضتهم لاستمرار إرسال الأموال إلى كييف، في ظل معاناة المواطن الأمريكي من التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة بصورة خانقة.
وكان 57 نائباً جمهورياً في مجلس النواب قد صوَّتوا، في مايو/أيار الماضي، ضد إرسال حزمة مساعدات بقيمة 40 مليار دولار إلى أوكرانيا، كما عبَّر كيفن ماكارثي، زعيم الأغبية الجمهورية والمرشح لمنصب رئيس المجلس خلفاً لنانسي بيلوسي، عن "تحفظه على إعطاء إدارة بايدن شيكاً على بياض لأوكرانيا"، لكنه فسر تصريحاته لاحقاً بأنه يقصد حتمية وجود "إشراف ومحاسبة على كيفية إنفاق تلك الأموال".
البيت الأبيض، من جانبه، يقول إن "الهدف الوحيد" من زيارة زيلينسكي هو التأكيد على التضامن الأمريكي المستمر مع أوكرانيا: "هذه الزيارة ليست متعلقة بإرسال رسالة إلى حزب بعينه، بل إرسال رسالة إلى بوتين والعالم مفادها أن أمريكا ستقف مع أوكرانيا مهما طالت الحرب". لكن المؤكد هو أن إقناع الجمهوريين بتلك الرسالة لن يكون سهلاً.
هل نجح زيلينسكي في توحيد الكونغرس المنقسم؟
التقى زيلينسكي أولاً ببايدن وكبار مسؤولي الإدارة في البيت الأبيض، وعقدوا اجتماعات مكثفة خلف الأبواب المغلقة ثم عقد الرئيسان مؤتمراً صحفياً مشتركاً، استخدم فيه الرئيس الأوكراني بعضاً من مهاراته كممثل كوميدي قبل أن يتم انتخابه رئيساً للدولة الواقعة على حدود روسيا.
فخلال شكره بايدن على حزمة المساعدات الأخيرة، والتي تتضمن أنظمة صواريخ باتريوت المتطورة، قال الرئيس الأوكراني: "ماذا سيحدث بعد تثبيت صواريخ باتريوت؟ بعد ذلك سنرسل إشارة أخرى إلى الرئيس بايدن بأننا نرغب في الحصول على المزيد من صواريخ باتريوت".
"نحن في حرب، أنا آسف، أنا آسف حقاً"، حسبما قال باللغة الإنجليزية وبوجه جدّي، فيما ضحك الحاضرون. ثم ضحك بايدن وقال: "نحن نعمل على ذلك.. لن تقف وحدك أبداً".
أما أهم محطات الزيارة على الإطلاق، فقد تمثلت في وقوف زيلينسكي أمام الكونغرس وإلقائه خطاباً أعاد للأذهان ما فعله رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، ونستون تشرشل، عندما أراد إقناع الكونغرس بالمشاركة في الحرب العالمية الثانية، إذ وقف الرئيس الأوكراني ليلقي خطاباً حماسياً وإنسانياً حظي بتصفيق حاد وصيحات إعجاب لا تتوقف من الحضور.
وبالنسبة لزيلينسكي، تعتبر تلك اللحظات بمثابة فرصة يحلم بها أي ممثل كوميدي يقف على خشبة المسرح، لكنه لم يكن يسعى لإثارة ضحكات جمهوره بل لتوحيد ذلك الجمهور، ومن خلفه الشعب الأمريكي كله بطبيعة الحال، ليواصل دعمه لأوكرانيا. قرأ زيلينسكي خطابه باللغة الإنجليزية، بلكنة أوكرانية، مرتدياً نفس الزي الزيتي الذي اعتاد الظهور به منذ بدأت الحرب، بقصة شعره القصيرة ولحية وشارب، رغم أن قوانين الكونغرس تفرض على الرجال ارتداء البدلة ورابطة العنق، بحسب تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية.
واستخدم الرئيس الأوكراني عبارات حماسية من قبيل "أوكرانيا لا تزال صامدة رغم كل الصعاب" و"أوكرانيا لن تستسلم أبداً"، وسط التصفيق الحاد من المشرعين الأمريكيين، كما قال عبارات ذات مغزى من قبيل "إن مساعدتكم لنا ليست إحساناً، بل هي استثمارات حيوية في الأمن العالمي والديمقراطية".
وكانت هناك لحظات في الخطاب أثارت الضحكات أيضاً، إذ قال زيلينسكي: "لدينا مدفعية، نعم، شكراً لكم. هل هذا يكفي؟ بصراحة، ليس حقاً! لكي ينسحب الجيش الروسي بالكامل، هناك حاجة إلى المزيد من المدافع والقذائف". كما توقع الرئيس الأوكراني أن العام القادم سيشهد "نقطة تحول" في الصراع.
وقال زيلينسكي "تماماً مثل الجنود الأمريكيين الشجعان، الذين صمدوا وقاوموا قوات هتلر خلال عيد الميلاد عام 1944، فإن الجنود الأوكرانيين الشجعان يفعلون الشيء نفسه مع قوات بوتين في عيد الميلاد".
وبعد أن انتهى زيلينسكي من خطابه سار في قاعة مجلس النواب وسط التصفيق وصيحات التأييد، مصافحاً الأعضاء بينما سعى آخرون للمسه في مشهد أقرب لأحد رجال الدين بين مريديه، أو أحد المشاهير بين معجبيه.
أنهى زيلينسكي مهمته بنجاح ظاهري على الأقل وعاد على متن طائرة أمريكية كما جاء، لكن إذا ما كان ذلك الخطاب الحماسي كافياً لتوحيد الكونغرس المنقسم يظل سؤالاً معلقاً، فالتضخم الذي يعاني منه الأمريكيون يمثل ورقة انتخابية رئيسية من غير المتوقع أن تختفي فجأة بعد هذا الأداء الباهر من الرئيس الأوكراني، بحسب المحللين الأمريكيين.
ماذا عن رد فعل روسيا؟
على الجانب الآخر، استشاطت روسيا غضباً بطبيعة الحال، فتقديم واشنطن صواريخ باتريوت لكييف يمثل تصعيداً تراه موسكو "غير مقبول"، وكانت روسيا قد أعلنت، الأسبوع الماضي، أن منظومة باتريوت ستكون هدفاً مشروعاً للضربات الروسية في حال تسليمها إلى أوكرانيا.
ونقلت وكالة تاس للأنباء عن السفير الروسي لدى الولايات المتحدة، أناتولي أنتونوف، قوله إن زيارة زيلينسكي أكدت أن التصريحات الأمريكية عن عدم الرغبة في صراع مع روسيا مجرد عبارات جوفاء، مضيفاً أن تصرفات الولايات المتحدة الاستفزازية في أوكرانيا تؤدي إلى تصعيد لا يمكن تخيل عواقبه.
أما دميتري بيسكوف، المتحدث باسم الكرملين، فقد اعتبر أن زيادة إمدادات الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا ستؤدي إلى تفاقم الصراع، وسط إصرار موسكو على أنها ليست المسؤولة عن اندلاع تلك الحرب الكارثية من الأساس.
لكن روسيا لا تكتفي بالتنديد بالدعم الأمريكي لأوكرانيا بطبيعة الحال، إذ قام الرئيس فلاديمير بوتين بزيارة أبرز حلفاء بلاده وهي بيلاروسيا خلال الأيام الماضية، وعلى الرغم من أن مينسك اختارت إبقاء جيشها بعيداً عن الهجوم الروسي على أوكرانيا حتى الآن، فإنه تُوجد مؤشرات متزايدة على احتمالية تغيير الوضع قريباً، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية عنوانه "بيلاروسيا تقترب من غزو أوكرانيا".
وأظهرت لقطات الأقمار الصناعية مؤخراً عدداً من طرقات الغابات الممهدة حديثاً، وبعض تحركات المعدات العسكرية البطيئة، باتجاه حدود أوكرانيا الشمالية، ويرى العديد من الخبراء في ذلك مؤشراً على أن روسيا البيضاء (بيلاروسيا) ستكون "الجبهة الجديدة" في الهجوم الروسي على أوكرانيا.
الخلاصة هنا هي أن زيارة زيلينسكي إلى واشنطن، والتحركات العسكرية المكثفة في بيلاروسيا، تبدو مؤشرات قوية على الاستعداد لجولة جديدة من الحرب في أوكرانيا، وقد تكون أيضاً استعراضاً للقوة من الجانبين في إطار مفاوضات تجري بعيداً عن الإعلام، خصوصاً أن البيت الأبيض كان حريصاً على عدم تسريب تفاصيل الاجتماعات مع الرئيس الأوكراني خلف الأبواب المغلقة.