فور رفع أسطورة كرة القدم ليونيل ميسي لكأس العالم، بعد تفوق منتخب بلاده الأرجنتين على فرنسا في نهائي كأس العالم قطر 2022، عمّت الاحتفالات أرجاء الأرجنتين، وكانت ساحة الجمهورية، في قلب العاصمة بوينس آيرس، المركز الرئيسي لتجمّع أنصار التانغو الأرجنتيني للاحتفال باللقب، إذ تجمّع هؤلاء حول نصب مسلة بوينس آيرس التذكاري، للاحتفال حتى ساعات متأخرة من صباح يوم التتويج.
ولفتت تلك المسلة الأنظار خلال احتفالات الأرجنتينيين باللقب الثالث لكأس العالم في تاريخ البلاد، فما قصتها؟
تمّ تشييدها احتفالاً بذكرى تأسيس بوينس آيرس
في عام 1516، تم اكتشاف دولة الأرجنتين لأوّل مرّة عبر المستكشف الإسباني خوان دياز دي سوليس، والذي أطلق عليها اسم ريو دي لابلاتا، وبعد 20 سنة من اكتشافها تأسست مدينة بوينس آيرس لأوّل مرة في العام 1536، ولكن تم تدميرها بواسطة السكان الأصليين، ليتمّ إعادة بناء المدينة مرة أخرى في العام 1580م، وتصبح مستعمرة إسبانية دائمة في الأرجنتين.
وبعد حروب الاستقلال الأرجنتينية في القرن الـ19، أسس الأرجنتينيون حكومتهم الخاصة في عام 1810، وبعد سنتين، وبالضبط في 1812، تم تصميم العَلَم الأرجنتيني ورفعه في كنيسة سان نيكولاس، المكان الذي ستشيّد فيه مسلة بوينس آيرس لاحقاً.
وفي العام 1880، وبمناسبة الذكرى المئوية الثالثة لإعادة بناء المدينة، تمّ الإعلان عن بوينس آيرس عاصمة للأرجنتين.
ومع اقتراب الذكرى المئوية الرابعة لتأسيس مدينة بوينس آيرس، أعلن عمدة المدينة ماريانو دي فيديا، عن نيته بناء مسلة في قلب العاصمة، تجسيداً لروح بوينس آيرس.
اختيرت كنيسة سان نيكولاس، التي رفع بها العلم الأرجنتيني لأوّل مرة، مكاناً لتشييد المسلة، بحيث تقرر هدم الكنيسة ليحلّ محلها نصب المسلة التذكاري، وهو ما أثار معارضة لبناء المسلة قبل إنجازها.
لم تهتم السلطات المحلية بتلك الأصوات المناهضة للمسلة، ومضت قدماً في إنجاز المعلم الذي يعبّر عن مدينة بوينس آيرس.
بناء على طلب عمدة المدينة، شرع المهندس المعماري الأرجنتيني ألبرتو بريبيش، أحد المهندسين المعماريين الرئيسيين للحداثة الأرجنتينية، في تصميم المسلة، ورصد مبلغ 200 ألف بيزو أرجنتيني ميزانية لبنائها.
أسندت مهام بناء المسلة إلى الشركة الألمانية GEOPE – Siemens Bauunion – Grün & Bilfinger التي بدأت في العمل على تشييد المسلة، في 20 مارس/آذار 1936، وانتهت في 23 مايو/أيار من نفس العام، إذ لم يستغرق بناء مسلة بوينس آيرس سوى 31 يوماً.
يبلغ ارتفاع مسلة بوينس آيرس الإجمالي 67.5 متر، وقاعدة بطول 6.8 متر لكل جانب، ولها باب مدخل واحد باتجاه شارع كورينتس، وهي مصنوعة من حجر قرطبة الأبيض، وتمّ إضافة سياج حول قاعدة الهيكل عام 1987 بعد حوادث التخريب التي طالتها.
يوجد في أعلى المسلة طابق بأربع نوافذ، يعطي إطلالة فريدة على المدينة من المسلة، كما يتم السماح بالدخول إلى المسلة فقط في حالات خاصة.
لم تسلم مسلة بوينس آيرس من التخريب!
بعد المعارضة الشديدة التي تلقتها مسلة بوينس آيرس في أيامها الأولى، لم يسلم النصب التذكاري الأشهر في العاصمة الأرجنتينية من التخريب، والتهديد بالهدم.
فبعد عامين من بنائها تم تهديد المسلة بالهدم لأسباب تتعلق بالسلامة العامة، لكن السلطات المحلية في ذلك الوقت ألغت الفكرة، معتقدة أن المسلة أصبحت جزءاً من تراث المدينة.
وعلى مدى عقود خضعت المسلة لعدة عمليات ترميم، حيث لم تسلم من التخريب، وخاصة الكتابة على الجدران أو الطلاء المتساقط عليها، وفي عام 1987 أحاطت قاعدتها بسياج حديدي لحمايتها من التخريب.
كما تم استخدام المسلة لإرسال رسائل إلى سكان بوينس آيرس والأرجنتين بشكل عام، مثل إسدال لافتة "الصمت صحة" على المسلة عام 1975، من أجل تقليل الضوضاء في بوينس آيرس، وفي عام 2005 شاركت المسلة في حملة صحية للتحذير من مرض الإيدز.
هل لمسلة بوينس آيرس علاقة بالحضارة الفرعونية؟
نظراً لأن المسلات ترتبط عادةً بالحضارة المصرية القديمة، ووجود العديد منها في أهم مدن العالم، ومنها مسلة بوينس آيرس، يثير التساؤل، لكن حسب المؤرخين الأرجنتينيين فإنّ مسلة بوينس آيرس لا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحضارات السابقة، كونها شيّدت فقط في العصر الحديث، لكن تصميمها مستوحى من مسلة الأقصر، التي يزيد عمرها عن 3000 عام، والتي أُهديت من مصر إلى فرنسا سنة 1831.
بحسب موقع turismo.buenosaires الأرجنتيني، فإنّ المهندس المعماري ألبرتو بريبيش استلهم تصميم مسلة بوينس آيرس من مسلة الأقصر الرابضة في باريس، وتمّ بناؤها على موقعها الحالي كنصب تذكاري وطني، وتحولت في النهاية إلى "أيقونة".
وتنتشر المسلات في جميع أنحاء العالم، من مسجد السلطان أحمد الكبير في تركيا، إلى كاتدرائية القديس بطرس في الفاتيكان والبيت الأبيض.
لماذا يحتفل الأرجنتينيون بانتصارات منتخبهم عند مسلة بوينس آيرس؟
في نهائيات كأس العالم 1978، وهي أول بطولة تستضيفها وتفوز بها الأرجنتين، تحوّلت مسلة بوينس آيرس إلى رمز وطني لتلك التظاهرة، بحيث كان الأرجنتينيون يشاهدون مباريات كأس العالم في صالات السينما ثم يتدفقون على المسلة للاحتفال بالفوز.
وما سهّل لهذا النصب التذكاري أن يتحوّل إلى أيقونة مشجعي الأرجنتين الراغبين في الاحتفال بفوز منتخبهم، هو موقع المسلة الاستراتيجي، حيث تقع عند تقاطع شارعين مميزين هما شارع 9 de Julio و Corrientes، وتحت المسلة مباشرة، تلتقي ثلاثة من خطوط مترو الأنفاق في المدينة؛ لذلك فهو مكان يسهل على الكثيرين في المدينة التجمع فيه.
ومنذ ذلك الوقت صارت المسلة نقطة الاحتفال الأولى والرئيسية للأرجنتين بإنجازات منتخبهم لكرة القدم، وهذا ما تكرّر مع إنجاز الأسطورة الراحل دييغو مارادونا في مونديال 1986.
وفي عام 2018، وعلى غير المعهود، قامت السلطات الأرجنتينية بافتتاح دور الألعاب الأولمبية للشباب في ساحة مسلة بوينس آيرس.
وتحوّل المعلم التذكاري الشهير ببوينس آيرس إلى رمزٍ رياضي، حين احتضن احتفالات التانغو بالتتويج بلقب كوبا أمريكا 2021، وكأس العالم 2022، حيث احتشد مئات الآلاف من الأرجنتينيين للاحتفال بإنجاز أسطورتهم ليونيل ميسي ومنتخب التانغو في مونديال قطر.