خسارة الأرجنتين أمام السعودية في المباراة الافتتاحية
الأجواء حارةٌ هذه الأيام في بوينس آيرس عاصمة الأرجنتين، في الحقيقة تكمن المشكلة في الرطوبة العالية، يكاد الأمر لا يُطَاق، صديقي الذي يعيش هناك لا يتوقَّف عن الشكوى من هذه الأجواء، يتمنى لو يعود إلى عالمنا العربيِّ في أقربِ وقتٍ ممكن، ربما كانت المحادثةَ الأبعدَ على الإطلاق بالنسبة لي؛ يعيش كلٌّ منا في ناحيةٍ من هذه الكرة الأرضية، لكنَّ كرةً أخرى كانت قادرةً على تفسير شعورٍ مشترَكٍ بيننا، كانت تلك الكرة هي كرة القدم..
لم تمنع هذه الأجواءُ الحارةُ والدَ الكاتبة الأرجنتينية، ليلا جيريرو، من الخروج للسير تحت أشعة الشمس رفقة كلبَتَيْه، يعتقد السيدُ الأرجنتينيُّ أنه قادرٌ على تغيير العالم بذلك، يؤمن مع أبنائه الثلاثة بقدرة المنتخب الوطني على تحقيق الكأس الغائبة منذ ستٍّ وثلاثين سنةً كاملة، لكنَّ الأمرَ مقرونٌ بعدم مشاهدة السيد الكبير للمباريات، وإذا كان الحال هذه فلا ضيرَ مِن السير تحت أشعة الشمس، حتى إذا وصلت درجة الحرارة إلى أربعين درجة، وحتى إذا استمرَّ في السير لأكثرَ من نصف ساعة، ما دامَ هذا سيجعلُهم يفوزون!
احتفالات اللاعبين مع الجمهور الأرجنتيني في استاد لوسيل
لم يكن الأمرُ محضَ مصادفةٍ اعتقاديةٍ تبنَّاها الجميع، نعم تحب الجماهير الأرجنتينية الكرة بشكلٍ جنوني، هذا الشعب البسيط يعتبر الكرةَ جزءاً أساسياً لا يتجزَّأ من تكوينه النفسي والعقلي، يكفي أنْ تشاهِدَ مباراةً واحدةً لهذا المنتخب، المشجعون يصنعون الحدثَ بالأهازيجِ التي يُطلِقُونها، لا يتوقَّفُ الجمهور الأرجنتينيُّ عن الغناء والدعم، حتى مع علمِه بتفوُّقِ المنافس بصورةٍ واضحة.
في الأرجنتين يهتم الجميعُ لأمرِ المنتخب الوطني، يشبه ذلك مع الفارق الصورةَ التي رَسَمَها عالم الاجتماع، غوستاف لوبون، في كتابه الشهير "سيكولوجيا الجماهير"، يقول غوستاف في توضيح معنى العقل الجمعي بصورةٍ مبسَّطة: "يمكن أن تُوجَد هوَّةٌ سحيقةٌ بين عالم رياضياتٍ شهير وصانع أحذيته على المستوى الفكري، ولكن مِن وجهة نظر المزاج والعقائد، فإن الاختلاف معدومٌ غالباً، أو قل إنه ضعيفٌ جداً"، يحدث هذا مع الأرجنتينيِّين؛ يجتمع الصحفي الرياضي مع الفتاة التي لا تهتمُّ لأمر الكرة ولا تفهم قوانينها أصلاً، يعرف الجميع أن المنتخبَ سيلعبُ اليوم، وأنه يجب أن يفوز..
كان والد ليلا أحد هؤلاء الذين لا يهتمون بكرة القدم، لذا لم يكن يمانع في مشاهدة المباراة، الأهم أن يفوزَ المنتخب ويتأهل للدور القادم..
بالطبع يمكن ألا يفوز المنتخب، في لعبة كرة القدم لا يفوز ذاتُ الفريق في كل مرة، من الوارد جداً أن يخسر فريقٌ ما في مباراةٍ ما، هذا ما حدث مع المنتخب الأرجنتيني في النسخ التِّسْعِ الماضية، حتى في تلك النسخة من كأس العالم عام 2014 والتي أُقِيمَت في الجارة اللدودة أعني البرازيل، تأهلت الأرجنتين إلى المباراة النهائية في تلك النسخة، لكنها اصطدمت بالطموح الألماني الذي مَنَع رِفاقَ ميسي من وَضْع النجمة الثالثة فوق قميص منتخبهم، إذن، ما الذي تغيَّرَ في هذه النسخة؟ لماذا دخلت الأرجنتين البطولة وهي لا ترى سوى الفوز بالتاج؟
منتخبٌ مُبشِّر
منذ تعيين ليونيل سكالوني مدرباً للمنتخب الأرجنتيني بدأت تظهرُ بوادِرُ التحسن على الفريق، ربما لم يُبْلِ الفريق أداءً حسناً في بطولة "كوبا أمريكا" عام 2019، لكن التماسك كان واضحاً بين أعضاء الفريق، هؤلاء لم يقدِّمُوا أداءً أسطورياً، لكنهم اجتمعوا على هدفٍ واحد، وهو إعطاء أفضل ما لديهم من أجل مصلحة المنتخب، كانوا يقدِّرُون وبشكلٍ بالغٍ معنى أن تُمَثِّلَ منتخب بلدك في مَحفلٍ قاري، لم يكن هذا واضحاً من قبل.
صيف 2016 خسرت الأرجنتين النهائي الثالث لها توالياً، هذه المرة أمام تشيلي بركلات الجزاء، نشرت صحيفة Ole الأرجنتينية تقريراً ناقشت فيه أسباب عدم قدرة المنتخب الأرجنتيني على الفوز بالبطولات، من الأسباب التي ذكرَتْها الصحيفة تعدُّد نجوم المنتخب وخاصةً في خط الهجوم، فالمنتخب الذي يضمُّ ليونيل ميسي أسطورة برشلونة ودي ماريا جناح ريال مدريد وباريس سان جيرمان وأجويرو نجم مانشستر سيتي وهيجوايين مهاجم ريال مدريد ونابولي يفتقر للشعور بأهمية المجد الجماعي، فكل واحدٍ من هؤلاء يطمح لمجده الفردي.
تغيَّر هذا مع الجيل الجديد للأرجنتين، فهم ليسوا نجوماً بقدر نجومية هؤلاء، ربما كانوا لاعبين جيِّدِين، لكنهم قطعاً لم يصلوا بعدُ لما وصلوا هم له، هذا جعلَهم يشعرون بحافزٍ أكبر لتحقيق ما فشل به هؤلاء النجوم، بالإضافة إلى رغبتهم في مساعدة أسطورتهم، أعني ميسي..
ميسي
اقتربَ اعتزال ميسي، لا يُمكننا أن نتركَه يعتزل من دون تحقيق اللقب الذي يحلم به.
هكذا كان شعور إيميليانو مارتينيز حارس المنتخب الأرجنتيني في أحد أحاديثه عن أسطورة الأرجنتين ميسي.
ميسي الذي فشل في كسب قلوب الأرجنتينيِّين لفترةٍ طويلة، نعم هو أسطورة كبيرة، لكنه لن يصل إلى درجة مارادونا أبداً، مارادونا الذي حقَّقَ آخر لقبٍ للأرجنتين في كأس العالم عام 1986 لا يزال يتربَّعُ على قلوب راقصي التانغو بصورةٍ واضحة، الأمر الذي شكَّلَ ضغطاً واضحاً على ميسي، العمر يمضي، ولحظة الحقيقة تقترب، واللقب القومي غائب.
كبر لاعبو الجيل الحالي على مشاهدة ميسي وهو يداعِبُ الكرة، كانت أمنية كلِّ واحدٍ منهم في الماضي التقاطَ صورةٍ واحدةٍ معه، الآن هم يُزامِلُونَه في غرفة الملابس، يشتركون معه في التدريبات الجماعية، والأهم يسيرون معه من أجل تحقيق هدفه!
إن قوانين هذا العالم المادي ظالمةٌ جداً، ألا يكفي ما يبذلُه الشخص من أجل الوصول؟ ألا يضمنُ له السعيُ الجادُّ التخليدَ في صفحات التاريخ؟
مع الأسف كان لويس بورخيس مُحِقاً عندما قال: "أن يكونَ المرءُ هو أن يُرَى"؛ لا يعترف العالم المادي إلا بالإنجازات المحسوسة، حتى في رياضةٍ كان هدفُها الأساسُ هو المتعة.
لم يكن بوسع ميسي أن يصنع الحدثَ وحدَه، فالأسطوريَّةُ تقف عاجِزةً أمام الكثرة، لذا كان البطل بحاجةٍ إلى مُعاوِنين، نعم سيستمرُّ في تحمُّل الضغط وحده، فتلك ضريبة البطولة، لكن وجودَهم بقلوبٍ صادقةٍ كان كافياً بالنسبة له، يقول زميل ميسي اللاعب رودريجو دي بول: "كان ميسي يحتاج إلى الجميع، وكنا نحتاج إليه"..
فوز الأرجنتين بكوبا أمريكا عام 2021
بعد ذلك تحقَّق المراد، فازت الأرجنتين بلقبٍ قاريٍّ غائبٍ منذ مدة، هو لقب "كوبا أمريكا" التي أٌقِيمت في البرازيل، وانتصر رفاق ميسي في المباراة النهائية على البرازيل بالذات، في مباراةٍ كانت تُشبِه الملاحم الطويلة، والتي تنتهي أخيراً بانتصار البطل، صنع هذا حالةً من التفاؤل قُبَيْل كأس العالم بعامٍ واحدٍ فقط.
أوضاع مضطربة
الأجواء في الأرجنتين ليست مثاليةً تماماً، في الحقيقة يزداد الوضع سوءاً يوماً بعد يوم، هذا الشعب الكادح أصبح يائساً كثيراً، ربما كانت الكرة مُتنفَّسَهم الوحيد لصُنع السعادة والبهجة، هم يثقون بأنَّ انتصار الفريق قادرٌ على تحسين الحالة المزاجية لدى الجميع، ربما قام بعضهم بإنفاق كلِّ ما يملك من أجل شراء تذكرةٍ لمباراةٍ واحدةٍ للمنتخب الوطني في قطر، هذا يُوفِّرُ لهم الشعور بالعظمة والوجود، جاء في تقريرٍ نشرَتْه صحيفة فاينانشال تايمز أن شعبَ الدولة التي تُعانِي اقتصادياً نسي المعاناة تماماً بمجرد بداية البطولة، المنتخب بقيادة ميسي يجعلهم يشعرون بالعظمة، ولو كان هذا الشعورُ مؤقَّتاً.
يُضِيف التقرير على لسان أحد المشجعين: "كرة القدم هي خلاصنا، كل شيءٍ حولنا يزداد سوءاً، لكننا سعداء هذا الأسبوع بالوصول إلى النهائي".
الاحتفالات في بوينس آيرس بدأت منذ التأهل للنهائي
في النهاية لم يكن غريباً أن يخرج الشعبُ الأرجنتينيُّ في مظاهرةٍ كبيرةٍ احتفالاً ببلوغ النهائي، حتى إذا كان المنافس هو فرنسا، حامل اللقب في النسخة الماضية.
حتى كبير السن البالغ من العمر ثلاثةً وثمانين عاماً خرج ليشاهد المباراة في الشارع، لا يمتلك هذا الرجل شاشةً لمشاهدة المباراة في بيته، هو فقيرٌ جداً ولا يستطيع أن يشتريَ شاشةً مناسبة، جلسَ هذا الرجل أمام أحد المتاجر التي تعرض المباراة، كان كلُّ هَمِّه أن يفوز المنتخب الوطني!
تبعاً لـgood news movement فاجأه المتجر بشاشةٍ هديةً، ليشاهد المباراة النهائية في بيته، في الأرجنتين توحَّدَت البلادُ من أجل الكأس..
قطعاً لم أكن أعلم نتيجة المباراة أثناء كتابتي لهذا المقال، لكن ما كنت أعلمه يقيناً هو أن رفاقَ ميسي سيُقدِّمون أفضل ما لديهم، وأنَّ الجمهور الأرجنتيني سيملأ مدرجاتِ استاد لوسيل، وأنَّ سيداً كبيراً سيخرج رِفقة كلبَتَيْه للسير تحت أشعة الشمس الحارقة، آمِلاً في تغيير العالم هكذا.. وهذا ما حدث بالفعل
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.