تتمتع دول الخليج بحقول أحفورية غنية تكفيها لوقت طويل، وهي تتربع على عرش شركات نفطية عملاقة مثل أرامكو في السعودية وأدنوك في الإمارات، اللتين تعدان من أكبر منتجي الهيدروكربونات في العالم. وفي الماضي، اقتصرت صناعة الطاقة في الخليج على الدفاع بشدة عن الوقود الأحفوري. لكن الآن، يعلن الكثيرون في الخليج عن التزامهم بإزالة الكربون والتحول نحو الطاقة النظيفة برهان ضخم يساوي مليارات الدولارات.
لماذا تراهن دول الخليج على التحول نحو الطاقة النظيفة؟
أعلنت المملكة العربية السعودية والكويت عن أهداف لصافي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بحلول عام 2060. وتقول الإمارات وسلطنة عمان إنهما ستصلان إلى هناك بحلول عام 2050. فيما تقول قطر إنها ستخفض الانبعاثات بمقدار الربع بحلول عام 2030. ووقعت جميع دول الخليج على التعهد العالمي بشأن الميثان، الذي يلزمها بخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
تعتمد حكومات الخليج بشكل كبير على الإيرادات التي تولدها شركات الطاقة الوطنية، التي تمثل حصة كبيرة من ميزانيات الدولة، لذلك يشكك البعض في الغرب بمدى جدية هذه الدول بشأن إزالة الكربون. لكن فحص الخطط الاستثمارية للشركات الرائدة في الخليج يكشف عن رهان حقيقي وكبير للتحول نحو التقنيات الخضراء، كما تقول مجلة Economist البريطانية.
وأصبحت شركات الطاقة الوطنية في أجزاء أخرى من العالم تنظر إلى الشركات الخليجية العملاقة، ولا سيما أدنوك وأرامكو السعودية، كأمثلة يجب الاقتداء بها. حيث تتجه اثنتان من أكبر شركات الطاقة في العالم تقنياً واستراتيجياً نحو التحول الجديد، وغالباً ما يتبعها نظراؤها من الشركات الوطنية في أماكن أخرى.
ويرتكز نهج شركات النفط الخليجية على ركيزتين أساسيتين، الأولى: تتضمن مضاعفة النفط والغاز، والثانية هي استثمار جزء من مكاسب النفط المفاجئة اليوم في تقنيات الطاقة النظيفة المستقبلية.
بالنسبة لتفسير الأولى، تستثمر شركات الطاقة في المنطقة بكثافة لتوسيع الإنتاج، مستفيدة من ارتفاع أسعار النفط الخام. وسيصل الإنفاق الرأسمالي لشركة أرامكو في عام 2022 من 40 مليار دولار إلى 50 مليار دولار. وهي تعد بمبالغ أكبر في السنوات القليلة المقبلة، حيث تهدف إلى رفع طاقتها الإنتاجية من النفط من حوالي 12 مليون برميل يوميًا إلى 13 مليوناً بحلول عام 2027.
فيما ستنفق أدنوك الإماراتية 150 مليار دولار على المشاريع الرأسمالية بحلول عام 2027. وستخصص قطر للطاقة 80 مليار دولار بين عامي 2021 و2025 لتوسيع إنتاج الغاز الطبيعي المسال بمقدار الثلثين بحلول عام 2027.
بالنسبة لمعظم شركات الطاقة، فإن مضاعفة إنتاج الوقود الأحفوري أثناء الانتقال إلى عالم مقيد بالكربون سيكون بمثابة "حماقة مالية". لكن عمالقة الخليج، باحتياطياتهم الهائلة منخفضة التكلفة، هم الأكثر احتمالاً للانتصار. فاستثماراتهم الضخمة في الإنتاج الجديد يمكن أن تؤتي ثمارها، حتى لو انخفض الطلب العالمي بشكل كبير في السنوات القادمة، كما تقول مجلة الإيكونومست.
ورهان رجال النفط على النفط ليس بالأمر الجديد. لكن الرهانات الأخيرة لعمالقة الخليج تشير إلى أنهم يدركون تماماً أن أفضل عملائهم في الغرب سوف يتخذون إجراءات صارمة ضد انبعاثات الكربون، كما تقول مريم الشما من شركة الأبحاث الأمريكية "إس أند بي جلوبال".
وسياسات مثل ضريبة حدود الكربون في الاتحاد الأوروبي، والتي وافقت الدول الأعضاء على تفاصيلها في 18 ديسمبر/كانون الأول 2022، هي علامة على أشياء مقبلة. تقول السيدة الشما: "لكي يكون آخر منتج صامداً، فأنت بحاجة إلى أكثر من مجرد أقل تكلفة. ولضمان طول العمر، تعتزم شركات النفط الخليجية أيضاً أن تكون أنظف منتجي الوقود الأحفوري".
وتتمتع دول الخليج بميزة طبيعية لتحقيق تلك الغاية، إذ تعتبر احتياطياتها من النفط والغاز من بين أقل احتياطيات الكربون كثافة لاستخراجها حول العالم. كما بذل الإماراتيون والسعوديون جهوداً لتقليل كثافة الكربون بشكل أكبر مع الكفاءة التشغيلية العالية وانخفاض حرق الغاز، كما تشير أولغا سافينكوفا من شركة Rystad Energy للأبحاث.
وتنفق أدنوك 3.6 مليار دولار على كابلات الطاقة تحت سطح البحر وغيرها من المعدات لاستبدال الغاز الطبيعي المحروق في منشآتها البحرية بالطاقة النظيفة من البر، وهذه خطط صديقة للبيئة.
استثمار أرباح النفط في خطط الطاقة النظيفة
بالنسبة للركيزة الثانية في استراتيجية الخليج فهي أكثر إثارة للاهتمام. إنها تنطوي على استثمار جزء من المكاسب الأحفورية المفاجئة اليوم في تقنيات الطاقة النظيفة في المستقبل. حيث تقوم حكومات المنطقة بأكبر الرهانات في العالم على مصادر الطاقة المتجددة والهيدروجين، وتقول الإيكونوميست إن هناك موجة من المشاريع منخفضة الكربون تتبلور في الشرق الأوسط.
ويقول جيم كرين من جامعة "رايس" في تكساس الأمريكية: "تمتلك المملكة العربية السعودية مزايا كبيرة في مجال إزالة الكربون"، مشيراً إلى الاستثمار بمساحات شاسعة من الأراضي بالطاقة الشمسية وتخزين الكربون. وتخطط أرامكو لتطوير قدرتها على التقاط وتخزين واستخدام 11 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً، وتركيب 12 جيجاواط من طاقة الرياح والطاقة الشمسية بحلول عام 2035.
بشكل عام، تهدف السعودية إلى بناء 54 جيجاواط من الطاقة المتجددة بحلول عام 2032. ولكيلا يتفوق عليها أحد، تتطلع الإمارات إلى بناء 100 جيجاواط من قدرة الطاقة المتجددة بحلول عام 2030، كاستثمار تراكمي بدأ بـ15 جيجاواط. ومن شأن ذلك أن يجعل "مصدر"، شركة الطاقة النظيفة التي تسيطر عليها الدولة والتي تمتلك أدنوك حصة فيها، ثاني أكبر مطور للطاقة النظيفة في العالم.
لكن أكبر الرهانات على الطاقة الخضراء في الخليج يتعلق بالهيدروجين، وإذا تم تصنيعه باستخدام مصادر الطاقة المتجددة بدلاً من الغاز الطبيعي، فإن الهيدروجين يعتبر وقوداً نظيفاً.
وتتكاثر الاستثمارات الخليجية في البنية التحتية المطلوبة في جميع أنحاء العالم. ففي عام 2021، افتتحت الإمارات أول مصنع لها في تكساس الأمريكية "للهيدروجين الأخضر". فيما أكملت أكوا باور، وهي شركة سعودية، تقريباً، تمويل مشروع الهيدروجين الأخضر بقيمة 5 مليارات دولار.
أما سلطنة عمان، التي تعد احتياطياتها النفطية أصغر وأكثر تكلفة في استغلالها من جيرانها الأكبر، تتحدث عن استثمار بقيمة 30 مليار دولار في ما يمكن أن يكون أكبر مصنع هيدروجين في العالم. وقد أطلقت كياناً هيدروجيناً مملوكاً للدولة لتقديم امتيازات لمشاريع الهيدروجين الأخضر في مناطقها الاقتصادية الخاصة.
خطط واعدة واستثمارات ضخمة حول الهيدروجين الأخضر
السعوديون والإماراتيون يتطلعون أيضاً إلى الخارج بشكل أكبر، حيث تستثمر "مصدر" في مشروع هيدروجين بقيمة 10 مليارات دولار في مصر، بالإضافة إلى تطوير 4 جيجاواط من مشاريع الهيدروجين والطاقة المتجددة في أذربيجان؛ كما تستثمر الشركة في الهيدروجين الأخضر في شمال إنجلترا.
وتتطلع "أكوا باور" السعودية إلى مشروعات الهيدروجين الأخضر بمليارات الدولارات في مصر وجنوب إفريقيا وتايلاند. بحلول عام 2030 تريد كل من الإمارات والسعودية السيطرة على ربع أو أكثر من سوق التصدير العالمي للهيدروجين النظيف.
ويرى "بين كاهيل" من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أن البلدين يتحركان بقوة نحو الهيدروجين والأمونيا (والتي يمكن أن تكون بمثابة وسيط أقل عبثاً لنقل الغاز). ويضيف أن كلاً من السعودية والإمارات تريدان الحصول على ميزة المحرك الأول من خلال تأمين صفقات ضخمة مع مشترين من آسيا وأوروبا.
وتنفق قطر أكثر من مليار دولار على مصنع لإنتاج "الأمونيا الزرقاء" من الغاز الطبيعي، ومن المقرر افتتاحه في عام 2026. وإذا انطلق اقتصاد الهيدروجين، حسب تقديرات الباحث الأمريكي رونالد بيرغر، فقد ينتج ما بين 120 مليار دولار و200 مليار دولار من العائدات السنوية لدول الخليج بحلول عام 2050.
لكن ذلك أقل بكثير مما تحققه هذه الدول الآن من النفط والغاز، حيث حققت أرامكو وحدها مبيعات تزيد عن 300 مليار دولار في النصف الأول من عام 2022. لكنها أموال جدية، وبالنظر إلى الخطر الحقيقي المتمثل في إنهاء ثورة النفط، تشير هذه الاستثمارات الخليجية إلى أنه يجب أخذ جهود الخليج في التحول نحو الطاقة الخضراء على محمل الجد.