الزيارة التي قامت بها وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا للرباط أثارت جدلاً كبيراً حول دواعيها ومخرجاتها، لاسيما أن العلاقات المغربية – الفرنسية تعيش شهوراً من الجمود والخلاف المؤطر بسقف التوتر المنخفض.
تحليلات زيارة وزيرة الخارجية إلى المغرب
بعض التحليلات القريبة من وجهة النظر الرسمية المغربية، سارعت إلى التركيز على تصريحات هذه المسؤولة بشأن الصحراء المغربية، واعتبرت أنها، حتى ولو كانت تزعم أن بلادها لم تغير موقفها من قضية الصحراء، وأنها كانت من الدول السباقة إلى دعم المقترح المغربي للحكم الذاتي.
فهي في الواقع، تسير في نفس الاتجاه الذي سارت فيه كل من ألمانيا وإسبانيا، وأنها اختارت هذه اللغة، فقط للرد على بعض التأويلات التي أضفيت على خطاب الملك محمد السادس، بشأن تردد وغموض وازدواجية موقف فرنسا من قضية الصحراء، وذلك حتى تعطي الانطباع أن الأمر لا يتعلق برضوخ فرنسي لضغوط المغرب بعد أزمة طويلة على شاكلة ما وقع لمديرد وبرلين مع الرباط.
التحليلات التي سارت في اتجاه معاكس ترى أن قضية الصحراء لم تكن أصلاً موضوع الخلاف الرئيسي، وأن ما فجّره أشياء أخرى، وأن هذا ما دفع المسؤولة في الخارجية الفرنسية للتنبيه على أن موقف بلادها من الصحراء لم يتغير.
وبعيداً عن هذا الجدل، فإن زيارة هذه المسؤولة في هذا التوقيت بعد شهور من الجمود والتوتر الذي أدير بسقف جد منخفض، لم تأتِ بدون دواع سياسية واستراتيجية، أملتها التحولات التي جرت في المنطقة في الأيام القليلة الماضية.
البعض راح يلتمس معطيات فهم هذه القضية في حل أزمة التأشيرات، كما ولو كانت هذه المشكلة تعني الشيء الكثير في إنهاء التوتر بين البلدين، والبعض الآخر قرأ في هذه الخطوة، تجاوز أزمة اتهام فرنسا للمغرب باستعمال برنامج بيغاسوس للتجسس على مسؤوليها وبشكل خاص على رئيسها إيمانويل ماكرون، وأن باريس لم تعد تعتبر المغرب معنياً بهذه القضية، أو على الأقل، لم تعد ترى في ذلك سبباً لإطالة التوتر بين البلدين.
والحال، أن التوتر المنخفض السقف بين البلدين، يعود لسنوات طويلة، وبالتحديد حينما أصبح التوجه إلى العمق الإفريقي سياسة استراتيجية بالنسبة إلى المغرب سنة 2004، وبدأت فرنسا تحس أن حديقتها الخلفية في غرب إفريقيا، أصبحت مهددة بدخول فاعل إقليمي جديد، له رؤية تشاركية جديدة مع دول إفريقيا تنبذ منطق الهيمنة والاستغلال الذي مارسته فرنسا على دول المنطقة.
ولذلك، يمكن القول بدون تردد إن أزمة التأشيرات هي مجرد فقاعة هواء، ربما لا تعادل ما قامت به فرنسا زمن الرئيس فرانسوا هولاند حينما وجه القضاء الفرنسي مذكرة استدعاء لمسؤول الاستخبارات المغربية عبد اللطيف الحموشي للمثول أمامه في قضية على خلفية ضلوعه في التعذيب، وذلك أثناء وجوده في باريس لحضور لقاء تنسيق أمني.
المشكلة في الجوهر، لم تكن لا قضية تأشيرات، ولا قضية الهجرة غير النظامية، ولا حتى قضية وجود مزاعم بتجسس مغربي على هواتف المسؤولين الفرنسيين، وإنما تمثلت في الجوهر، بشعور باريس بتنامي الدور المغربي في المنطقة، ومحاولة الرباط تغيير قواعد اللعب بتغيير تحالفاته والدخول لنادي الكبار، فضلاً عن تكتيكاتها غير المعهودة في إدارة الصراع مع الدول الأوروبية، واستغلال تناقض مصالحها لكسب نقاط تؤثر في موازين القوى.
والتقدير أن أزمة العلاقات المغربية – الفرنسية بدأت بالتحديد عند الاعتراف الأمريكي بقضية الصحراء، وتغير تكتيك المغرب في إدارة الصراع مع الدول الأوروبية، بإدخال إسرائيل ضمن أوراق اللعب، ونجاح المغرب في تسوية أزماته مع كل من ألمانيا وإسبانيا.
بالإضافة إلى حصول تحولات مفصلية في سياسة هذه الدول الخارجية لجهة الإقرار بمصالحها الحيوية في الصحراء، إذ شكلت هذه التحولات، بالإضافة إلى استمرار المغرب في سياسته الإفريقية، وحصول نكسات فرنسية في منطقة الساحل جنوب الصحراء، في الوقت الذي احتفظ المغرب فيه بنفوذه ومصالحه، التحولات التي دفعت باريس لمراجعة سياستها اتجاه المغرب والمنطقة الإفريقية.
وإذا كانت هذه هي الأسباب الحقيقية للأزمة الصامتة التي نشأت بين البلدين، فإن ثمة أسباباً أكبر منها دفعت فرنسا إلى تغيير موقفها، وتبني موقف أكثر براغماتية في التعامل مع المغرب، بعد أن كانت تعتقد أن سياسة الميل نحو الجزائر، ووضع بيض كثيف في سلتها، يمكن أن يدفع الرباط لمراجعة رؤيتها واستراتيجيتها.
الواقع أن الرباط لم تنظر بعين الرضا لزيارة ماكرون للجزائر ومخرجاتها السياسية والاقتصادية والتجارية، واعتبرت مجرد بدء الرئيس الفرنسي المنتخب لولاية ثانية، بزيارة الجزائر أولاً، قبل المغرب، وذلك على غير المعتاد، إشارة غير ودية، تحمل معها الكثير من الدلالات، منها وعلى رأسها، أن ورقة الطاقة كانت حاسمة، وأنها تفسر هذا التحول الكبير.
لكن، مع ذلك، لم تُصدر الرباط أي رد فعل، ولم يقدم الملك محمد السادس بالسحب الناعم لسفير المغرب بباريس بتعيينه على رأس مؤسسة عمومية (مدير صندوق محمد السادس للاستثمار)، إلا في سياق التعامل بالمثل، وذلك حين قررت فرنسا أن تسحب سفيرتها هيلين لوغال من الرباط بطريقة ناعمة بحجة انتهاء مهمتها بشكل رسمي بعد مرور ثلاث سنوات على تعيينها.
تأخر المغرب في الرد على فرنسا، أو ما يسمى بالسياسة الهادئة للرباط، كان يعني في الجوهر انتظار حدوث تحول مفصلي في الظروف الدولية والإقليمية، ومحاولة استثمار سيناريو وصول خيارات باريس إلى الركن الضيق.
المؤشرات الأربعة الأساسية التي تعزز الفرضية
- الخلاف الذي نشأ على خلفية الوضعية السياسية في تونس، بين رفض الولايات المتحدة الأمريكية للأجندة السياسية التي وضعها قيس سعيد، ودعم فرنسا لها.
هذه الوضعية لم تكن في الجوهر السبب في دخول فرنسا مربع سيناريو الركن الضيق، بل ما رافق ذلك من دخول اعتبارات إقليمية أخرى، وبشكل خاص الدعم الجزائري لقيس سعيد، وتوسع الدور الجزائري بتونس.
وأيضاً تنامي النفوذ الإيراني بها، والشكوك التي أثيرت حول الدعم اللوجيستي التي تقدمه الجزائر لهذا النفوذ، إذ أضحت مصالح فرنسا في التقدير الأمريكي متطابقة مع المصالح الإيرانية في المنطقة.
- النفوذ الروسي في شمال إفريقيا وأيضاً في القارة الإفريقية، والحملة الغربية على دور الجزائر في التمكين اللوجيستي لهذا النفوذ، خاصة لما رشحت أخبار عن صفقة تسلح كبرى، ستبرمها الجزائر مع موسكو تصل إلى حوالي 17 مليار دولار تم اعتمادها من الموازنة المالية لهذه السنة.
ما يؤكد قوة هذا المؤشر، وسقوط فرنسا في سيناريو الركن الضيق، هو الضغوط الأمريكية القوية التي مورست على الجزائر، والتي أسفرت عن إلغاء المناورة العسكرية المشتركة الروسية والجزائرية على المناطق المتاخمة لحدود المغرب الشرقية، مع إصدار وزارة الدفاع الجزائرية لبلاغ زادت لغته الأمر غموضاً.
- التحول الكبير الذي حصل في السياسة الأمريكية تجاه القارة الإفريقية بعد أكثر من ثماني سنوات "منذ سنة 2014″، وعقد قمة أمريكية – إفريقية استقطبت حوالي خمسين من قادة دول إفريقيا مع تخلف الجزائر عن الحضور.
البعض حاول أن يقرأ تحول السياسة الأمريكية تجاه إفريقيا باعتبارات استراتيجية، وبمحاولة مواجهة توسع النفوذ الروسي والصيني في المنطقة، إذ عكست تصريحات وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن هذا التحليل.
لكن، إذا كان هذا يفسر طريقة اشتغال العقل الاستراتيجي الأمريكي، ومحاولته استدراك الأخطاء التي ارتكبتها السياسة الأمريكية بترك المجال الإفريقي فارغا، تستثمره موسكو وبكين باعتماد استراتيجيات مختلفة قامت في السابق على التعاون العسكري (موسكو)، والتعاون التجاري (الصين)، وتحرك اليوم أوراق الغذاء والطاقة لجعل أغلب دول إفريقيا حليفة لموسكو، فإن موقع فرنسا في المعادلة ووزنها أضحى خفيفا، مع أن إفريقيا كانت دائماً تشكل حديقة خلفية لها، ومركزاً لنفوذها السياسي والاقتصادي والثقافي واللغوي.
- المصالح الحيوية الكبرى، التي ستنتج عن هذه الشراكة الأمريكية الإفريقية، والدور المحوري الذي يراهن على المغرب للقيام به واعتباره منصة استراتيجية، تمر على جسرها مختلف المشاريع الاقتصادية والتجارية الكبرى، التي تنطلق من أمريكا وأوروبا نحو العمق الإفريقي.
فرنسا، أضحت تشعر أن وزنها في المنطقة تراجع بشكل كبير، وأن دولاً أوروبية (مثل إسبانيا وألمانيا) كانت تتذيل القائمة من جهة توغل مصالحها في المغرب وإفريقيا، أضحت بفعل دخولها في مربع اللعب مع المغرب، تدخل في صفقات كبيرة، كانت فرنسا في العادة صاحبة الأولوية في كسبها.
هذه التحولات الاستراتيجية والسياسية والأمنية، وسيناريو الركن الضيق التي اضطرت فرنسا لمواجهته، هو بالتحديد ما دفعها إلى محاولة تبديد أزمتها مع المغرب، والتفكير في خيارات جديدة لمواكبة هذه التحولات، بما يعيد بناء قواعد اللعب الجديد، ويعزز مواقعها في اللعبة، بعد أن فرضت سياستها السابقة عليها، أن تكون على هامشها.
ولذلك، ليس المهم في زيارة وزيرة الخارجية هي المعلن من التصريحات، وحل أزمة التأشيرات، أو إعادة تأكيد فرنسا على موقفها الثابت في دعم المقترح المغربي للحكم الذاتي، وتشجيع جهود المبعوث الأممي للتوصل إلى حل سياسي عادل النزاع مرضي للطرفين.
الأهم، هو أنها جاءت تمهيداً لمسار من إعادة بناء العلاقة على أساس آخر، تعيد فيه فرنسا النظر في سياستها السابقة، وتقر بتغير وزن المغرب ودوره، وتبحث لها عن موقع قدم ضمن المعادلات الجديدة، ولعل هذا هو ما جاء بوزيرة الخارجية إلى المغرب، وربما ستكون زيارة ماكرون الوشيكة تتويجاً لهذا المسار، أما حكاية حل أزمة التأشيرات، فهي مجرد هدية نهاية السنة أو مؤشر نهاية سوء الفهم، أو برهان حسن نية لا غير.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.