لكل منا تصوراته وانطباعاته ومفهومه الخاص عن رياضة كرة القدم، فكرة القدم هي روح وإثارة وفن جماعي يوائم العقليات والاتجاهات والأجناس والثقافات مهما اختلفت وتباعدت؛ خُلدت سيرتها في الحضارة الإنسانية، وحملت أسماءً وأوصافاً لا حصر لها، كالساحرة والمعشوقة والمدورة والقذيفة والمكورة ورياضة الشطرنج الأخضر، وأسماء أخرى… واعتبر ديفيد جولد بلات في كتابه The Ball is Round: A Global History of Soccer كرة القدم: "ضوء يوفر التألق الفردي، والتحدي في قلب المسعى الجماعي"، لكونها الرياضة الشعبية الأكثر شهرة على مرّ الأزمان، إذ تطورت وتنوعت ممارساتها، واحتفظت بمكانتها في حياة الناس رغم مرور الوقت وتنوع الأماكن والثقافات؛ قَبَّلها البرازيلي بيليه في استاد ماراكانا عندما سجل هدفه رقم ألف، وأقام لها الأرجنتيني ألفريدو دي ستيفانو نصباً عند مدخل بيته، وكان عبارة عن كرة من البرونز مع لوحة حجرية نُقش عليها عبارة "شكراً أيتها العجوز".
أصول كرة القدم
أصول كرة القدم هي تاريخ من المعتقدات والرموز، التي تأتت من الحضارات، فاستنبطت وصُقلت وشذّبت، وانتقلت من طور بدائي إلى طور حداثي بعد تغييرات كثيرة في القوانين والأنظمة، لتكون على الشكل الذي يستأثر باهتمام الناس جميعاً. وتؤكد المرويات التاريخية، ومن بينها "كرة القدم بين الشمس والظل" للكاتب الأورغواياني إدوارد غالياني، أن أول شعب لعب رياضة كرة القدم البدائية هم الصينيون، فمنذ خمسة آلاف سنة كان البهلوانيون الصينيون يُرقّصون الكرة بأقدامهم، وكان أن نظمت أول ألعاب الكرة في الصين، وكان المرمى في الوسط، وكان اللاعبون يسعون ألا تلمس الكرة الأرض، دون أن يلمسوها هم أنفسهم بأيديهم، وهو ما عثر عليه الباحثون الأثريون في المنحوتات الجدارية التي تُظهر صينيي سلالة مينغ.
وكشفت سجلات اللعبة خلال عهد أسرة هان (206ق.م – 220م) عن أنها تمرين عسكري للجنود، وخلالها كان الصينيون يقدمون الولائم للفريق الفائز، ويعاقبون الفريق المنهزم.
من جهة ثانية، وحسب "football history"، عُرفت أول لعبة كرة قدم في الصين خلال القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد تحت اسم "سو جو"، وهي كرة مستديرة مصنوعة من جلد مخيط بالفراء أو الريش. وبعد ذلك انتشرت اللعبة في اليابان باسم "كيماري"، وكانت طريقة يتبعها الجنود للتسخين قبل التدريب العسكري الخاص بهم، وأصبحت جزءاً من طقوس الخصوبة الموسمية عند اليابانيين.
ومن المعروف أن المصريين القدامى كانوا يتسلون بتبادل ركل الكرة، وعثر على رخام قبر إغريقي قبل الميلاد بمئات السنين يظهر رجلاً يلاعب كرة بركبته، كما كان الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر يتفنن في استخدام كِلتا ساقيه في لعب الكرة. ويروي مؤرخو البلاط الملكي الإسباني أن هيرنان كورتيس قذف كرة مكسيكية، وجعلها تطير عالياً جداً أمام عيني الإمبراطور كارلوس الزائغتين.
إن أول الأمثلة المعروفة للعبة الفريق التي تتضمن كرة مصنوعة من صخرة نجدها في ثقافات أمريكا الوسطى منذ ألف سنة قبل الميلاد، وقد كان من قبل الأزتيك باسم Tchatali، وكانت لها مكانتها في المناسبات الطقسية، فهي ترمز إلى الشمس والخصوبة والفداء، وحسب معتقداتهم تتم التضحية بقائد الفريق الخاسر، وتقديمه قرباناً للبركة والتطهر أمام الآلهة.
بريطانيا مهد كرة القدم الحديثة
في عام 1314م، مَهرَ الملك الإنجليزي إدوارد الثاني بخاتمه وثيقة ملكية تُدين هذه اللعبة الرعاعية والصاخبة، حيث كانت كرة القدم تخلف الكثير من الضحايا، إذ كانوا يتنافسون في جماعات كبيرة، ولم يكن هناك تحديد لعدد اللاعبين ولا لمدة اللعب ولا لأي شيء آخر؛ يدفعونها بالأقدام والقبضات نحو الهدف الذي كان في ذلك الحين عجلة طاحونة قديمة.
وفي عام 1349م، ضمّ الملك إدوارد الثالث كرة القدم إلى ألعاب الحماقة التي لا فائدة منها، وعثر على مرسوم ضد كرة القدم ممهور باسم الملك الإنجليزي هنري الرابع عام 1410م، وهنري السادس عام 1547م. وهددت الملكة إليزابيث الأولى (1533-1603) بسجن لاعبي كرة القدم أسبوعاً. ومع ذلك لم تستطع القوانين إيقاف تلك الإثارة والحماس للعبة، وفي عام 1681، أعيدت كرة القدم إلى وضعها السابق وارتفعت شعبيتها.
وفي عام 1846م، تأسست "قواعد اللعبة" في جامعة كامبريدج، وهناك تم الطلاق النهائي بين كرة القدم ورياضة الركبي، حيث مُنع حمل الكرة باليد، مع أنه كان مسموحاً بلمسها، ومُنع كذلك توجيه الركلات إلى الخصم، فـركلات الأقدام يجب أن توجه إلى الكرة فقط. وقد سيطرت فرق المدارس العامة على كرة القدم، غير أن رياضة كرة القدم في شكلها الحديث تنحدر من "اتفاق جنتلمان" بين اثني عشر نادياً إنجليزياً توصلت له في خريف 1863م في إحدى حانات لندن، وقد تبنت تلك الأندية القواعد التي أقرتها جامعة كامبريدج. ونتج عن الاجتماع أيضاً توحيد حجم ووزن الكرة، وتوحيد عدد اللاعبين في الملعب، وتوحيد زي اللعب لمعرفة أعضاء الفريق الأول من الثاني، ولكن لم تكن الكأس جزءاً من اللعبة آنذاك.
ويعتبر نادي شيفيلد الإنجليزي أول نادي كرة قدم في التاريخ، وتأسس في 24 أكتوبر/تشرين الأول 1857م. وكان الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم أول اتحاد كروي يؤسس في العالم عام 1863، وأول شخص مارس لعبة كرة القدم بعد تطويرها يُدعى وليام هيفيل فينجر، وقد بدأ باللعبة عام 1867م. ومع مرور الوقت انضم عدد من النوادي إلى الاتحاد الإنجليزي حتى وصلت إلى 128 نادياً كروياً بحلول عام 1887م.
ولاحقاً، كانت الفرق المكونة من العمال تشكل أغلبية اللاعبين، فالخطوة الأولى لظهور الفرق هي التصنيع الذي أدى إلى اجتماع مجموعات أكبر من الناس في أماكن مثل المصانع والسكك الحديدية والحانات والأماكن العامة. وبعد ذلك لعب الجميع كرة القدم، ومن ضمن ذلك الشخصيات البارزة والنبلاء؛ مثل أوليفر كرومويل ووالتر سكوت وبعض ملوك إنجلترا.
وعلى الرغم من أن الرجل الأبيض هو من بدأ باللعب، فإن اللاعبين السود لم يتأخروا بالانضمام إلى اللعبة في بريطانيا، ومن المعروف أن أندرو واتسون هو أول لاعب أسود، والذي لعب في نادي كوينز بارك الاسكتلندي في ثمانينيات القرن التاسع عشر الميلادي. وكما هو الحال مع العديد من الأنشطة الإنسانية القديمة، استبعدت النساء مدة طويلة من المشاركة في الألعاب، حتى أقيمت أول مباراة رسمية للسيدات في إينفيرنيس ببريطانيا عام 1888م (الأبيض، 10،11/2022).
وتعتبر أول المباريات على الكأس هي مباراة (كأس الاتحاد الإنجليزي) عام 1871، وفي العام التالي لُعبت مباراة بين فريقين وطنيين لأول مرة، وهي المباراة التي ضمت إنجلترا واسكتلندا، وانتهت بنتيجة 0-0. وفي عام 1883، أقيمت أول بطولة دولية ضمت أربعة منتخبات وطنية: إنجلترا وأيرلندا واسكتلندا وويلز.
انتشار رياضة كرة القدم
كانت كرة القدم لفترة طويلة خاصية إنجليزية، ولم يستغرق الوقت طويلاً بالنسبة إلى الدول الأوروبية الأخرى لتَبنّي العشق الإنجليزي لكرة القدم، فبدأت أولى بطولات الدوري في هولندا والدنمارك عام 1889، وفي الأرجنتين عام 1893، وفي شيلي في عام 1895، وفي سويسرا وبلجيكا في عام 1895، وفي إيطاليا عام 1898، وفي ألمانيا والأوروغواي في عام 1900، وفي المجر عام 1901، وفي فنلندا عام 1907، وفي فرنسا عام 1903م.
والجدير بالذكر أنه في أوج التوسع الإمبراطوري البريطاني، تحولت كرة القدم إلى سلعة بريطانية للتصدير لا تقل شهرة عن أقمشة مانشستر أو قروض مصرف باريتغز، فوصلت اللعبة إلى أمريكا اللاتينية مع أقدام البحارة الإنجليز الذين كانوا يمارسونها على أرصفة ميناءي بوينس آيرس ومونتفيديو. وقد جرت أول مباراة خارج القارة العجوز في الأورغواي عام 1889م بين إنجليزيي مونتفيديو وبوينس آيرس، تحت صورة ضخمة للملكة فيكتوريا (ملكة بريطانيا العظمى).
وفي عام 1892م، كانت أول مباريات كرة القدم البرازيلية التي تنافس فيها مواطنون بريطانيون يعملون في شركة الغاز وسكك حديد ساو باولو. وتحولت تلك اللعبة من لعبة إنجليزية داخل القارة اللاتينية إلى لعبة شعبية لعبها الناس على الشواطئ، وفي الأزقة، وفي الحقول والمناجم، وتحولت إلى هوىً شعبي في القارة اللاتينية بعد تكشف جمالها السحري وإثارتها والولع بها، وخطف اللاتين الأضواء في حيازة الاهتمام الكروي، حتى عادت إلى الأندية الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، ليبدأ الأفارقة والعرب باحتضانها في الوقت الراهن.
توحيد معايير كرة القدم
ولدت كرة القدم المطاطية التي تُنفخ بمنفاخ، والمغطاة بطبقة من الجلد، في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، وذلك بفضل عبقرية تشارلز غوديير، وهو أمريكي شمالي من كونيكتيكت، وبفضل عبقرية وتسوليني وبالبونسي وبولو، وهم ثلاثة من المحترفين الكرويين الأرجنتينيين.
ووفق كتاب "كرة القدم بين الشمس والظل"، ظهر الحَكَم الرياضي في عام 1872، وكان اللاعبون حتى ذلك الحين هم حُكام أنفسهم، وفي عام 1880 كان الحَكم يحمل جهاز توقيت في يديه ليقرر متى تنتهي المباراة. وفي عام 1891م، ولحماية اللاعبين من الضربات والكسور، اعتُمدت لأول مرة مخالفة ضربة الجزاء، وذلك بعد أن خطا الحكم نحو 12 خطوة محدداً نقطة توجيه الضربة ومسافتها عن مرمى الخصم.
وترسخت المعايير القانونية لكرة القدم مع تشكيل الاتحاد الدولي لكرة القدم FIFA عام 1904، كهيئة رياضية دولية مستقلة عن اللجنة الأولمبية الدولية التي كانت تستحوذ عليها إنجلترا حتى ثلاثينيات القرن العشرين في أولمبياد عالمي دوري، فأقرت الفيفا بطولة مستقلة عن الأولمبياد باسم "كأس العالم" كل أربع سنوات. وفي عام 1930م، عقدت لأول مرة البطولة في الأوروغواي، والتي بدأت بفكرة ابتكرها الفرنسي جول ريميه رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم، حيث كان هناك 41 عضواً في FIFA حينذاك، ولكن في الوقت الحالي هناك أكثر من 211 اتحاداً وطنياً ضمن الفيفا، فكانت هذه البطولة إعلان نهاية الاحتكار الإنجليزي للعبة كرة القدم العالمية.
وقسمت مناطق العالم إلى 6 اتحادات: الاتحاد الإفريقي لكرة القدم "CAF"، والاتحاد الآسيوي لكرة القدم "AFC"، واتحاد الاتحادات الأوروبية لكرة القدم "UEFA"، واتحاد أمريكا الشمالية والوسطى والكاريبي لكرة القدم "CONCACAF"، واتحاد أوقيانوسيا لكرة القدم "OFC".
شهدت السنوات التي أعقبت ظهور كرة القدم بشكل منتظم تغيرات عدة في قوانينها، حيث تم استعمال الشباك في المرمى عام 1925، واللعب بلون موحد بين لاعبي الفريق الواحد، وفي 1937 روجعت خطوط الملعب، ورُسم قوس خارج منطقة الجزاء ليتساوى اللاعبون في المسافة نفسها عن الكرة عند تنفيذ ركلة الجزاء. وبعد مونديال فرنسا 1938 صار بالإمكان ضرب الكرة بالرأس دون خوف من الأذى، والذي كان يسببه الرباط المستخدم سابقاً في ربط الكرة.
واستمر تطور كرة القدم وتغيير قوانينها، حيث أصبح زي اللاعب مكوناً من بنطلون (شورت) وقميص وجوارب وحذاء رياضي وواقٍ للساقين، مع إضافة القفازات لحارس المرمى. وفي 2018، وبعد تجربة واسعة النطاق في عدد من المسابقات الكروية الكبرى، أضيفت تقنية حكم الفيديو المساعد (فار) رسمياً إلى قوانين لعبة كرة القدم، بعد استشارة الإيطالي كولينا، وهو أشهر حكام كرة القدم عبر التاريخ. وفي 2020 أقر الفيفا السماح لكلٍّ من الفريقين بخمسة تغييرات إثر تفشي وباء كورونا في العالم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.