استغل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي القمة الأمريكية الإفريقية ليطلب من إدارة بايدن تجديد وساطة أمريكا بأزمة سد النهضة، ورغم قوة موقف القاهرة والخرطوم القانوني وأهمية مصر لأمريكا في الشرق الأوسط، ولكن من الواضح أن التدخل الأمريكي بالضغط على إثيوبيا ليس بالأمر اليسير، وأن الرئيس الأمريكي جو بايدن لديه أسباب خاصة تجعله يتجنب إغضاب إثيوبيا.
وفي خضمّ زيارته لواشنطن لحضور القمة الأمريكية-الإفريقية، أثار السيسي ملف سد النهضة الإثيوبي مع وزيري الدفاع والخارجية الأمريكيين أوستن لويد وأنتوني بليكن، خلال لقاءين منفصلين.
إذ قال السيسي للوزير الأمريكي: "هذه مسألة حيوية ووجودية للغاية بالنسبة لنا، ونشكر الولايات المتحدة على دعمها واهتمامها". وأضاف أنّ "التوصّل إلى اتفاق ملزم قانوناً يمكن أن يحقّق شيئاً جيداً وفقاً للمعايير والأعراف الدولية، ولا نطلب أيّ شيء آخر غير ذلك"، وتابع "نحتاج إلى دعمكم في هذا الشأن".
كيف ردت إدارة بايدن على طلب وساطة أمريكا بأزمة سد النهضة؟
ورد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن على السيسي قائلاً إن التوصل إلى حل دبلوماسي لقضية سد النهضة من شأنه أن يحمي مصالح جميع الأطراف، مشدداً على التزام بلاده بالشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة ومصر، وأثنى على استضافة مصر الناجحة لمؤتمر المناخ "كوب 27" (COP 27)، حسب وزارة الخارجية الأمريكية.
وأعلنت الرئاسة المصرية، اليوم الخميس، عن توافق القاهرة وواشنطن على إيجاد حل لقضية سد "النهضة".
وتحصل مصر منذ أكثر من 6 عقود على 55.5 مليار متر مكعب من المياه سنوياً من نهر النيل، وفقاً لاتفاقيات تصفها بـ"التاريخية"، لكن إثيوبيا ترفض الاعتراف بها على أساس أنها "أبرمت خلال الحقبة الاستعمارية"، بينما يستقبل السودان 18.5 مليار متر مكعب من المياه.، وترفض إثيوبيا إبرام اتفاقات تنظم انسياب نهر النيل أثناء بنائها لسد النهضة وبعد انتهاء البناء.
وكان رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد قد وعد بمواصلة المحادثات بشأن السدّ، لكنّه مضى قدماً في خطة ملء وتشغيل أول التوربينات، ومنذ أبريل/ نيسان 2021، تجمدت المفاوضات بين الدول الثلاث، التي تجري برعاية الاتحاد الأفريقي، بعد فشلها في الحل، الأمر الذي دعا مصر للتوجه إلى مجلس الأمن.
وفي يوليو/تموز الماضي، شدد الرئيس الأمريكي جو بايدن، في ختام "قمة جدة للأمن والتنمية"، على ضرورة "إبرام اتفاق بشأن ملء وتشغيل سد النهضة، من دون مزيد من التأخير"، مؤكداً أهمية "صياغة قرار دبلوماسي يحقق مصالح جميع الأطراف ويساهم في الوصول إلى منطقة أكثر سلاماً وازدهاراً، دون أن يتبع ذلك أي تحركات من قبل إدارة بايدن على الأرض.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد في حوار تلفزيوني الثلاثاء، إن "هناك محاولات بعض الأطراف للمساعدة وتحريك المياه الراكدة في ملف سد النهضة… لكن لا استطيع أن أقول إن هناك تحركا ملحوظا أو شيئا يستحق الانتباه"، موضحًا أن "الأزمة الروسية الأوكرانية غيرت ملامح كثيرة في النظام الدولي، وفي الموضوعات والمناطق والقضايا التي يهتم بها العالم".
السيسي قدم لأمريكا أدلة أن السد ليس غرضه التنمية بل لإعادة توزيع مياه النيل
وذكرت صحيفة "العربي الجديد" أن فريقاً يضم قانونيين ودبلوماسيين وخبراء في المياه عكف على إعداد ملف "مُحدّث" خاص بقضية سد النهضة الإثيوبي، حمله السيسي والوفد المرافق له إلى القمة التي يحضرها أيضاً قادة من مختلف أنحاء القارة الإفريقية، بينهم رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد.
ويحتوي الملف الذي يحمله السيسي معه، بالإضافة إلى الجوانب الفنية والوضع الإنشائي لسد النهضة والمراحل التي وصلت إليها عملية التشغيل، دراسة حول الوضع القانوني للقضية و"أدلة" حول مخالفة إثيوبيا اتفاق إعلان المبادئ الموقّع في عام 2015 في الخرطوم بين مصر والسودان وإثيوبيا.
ومن بين "الأدلة" وثائق بريطانية كشفت عنها هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" أخيراً، وتحتوي على شهادة مسؤول إثيوبي كبير، تؤكد أن إصرار أديس أبابا على بناء سد النهضة كان سببه الرغبة بإعادة تقاسم مياه النيل وليس التنمية.
ولفتت إلى "رفض إثيوبيا مقترحاً بريطانياً ببناء مشاريع تنموية على أنهار أخرى تجري في إثيوبيا بعيداً عن النيل الأزرق (الرافد الرئيسي للنيل)". كما أشارت الوثائق إلى أنه "على الرغم من اعتراف أديس أبابا بجدوى الاقتراح، إلا أنها أكدت إصرارها على اختيار تطوير النيل الأزرق أولاً من أجل تأكيد حقها في استخدام مياه هذا النهر".
ترامب فرض عقوبات على إثيوبيا، وبايدن رفعها فور وصوله للبيت الأبيض
وسبق أن توسطت الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب الذي كان ينظر له على أنه حليف للسيسي بين الدول الثلاث، وتم التوصل لمشروع الاتفاق عبر مفاوضات كان ترامب منخرطاً فيها أحياناً بشخصه.
ولكن إثيوبيا رفضت التوقيع على المشروع، الأمر الذي دفع ترامب لفرض عقوبات عليها عبر تعليق بعض المساعدات الأمريكية، بعدما اتّهمت إدارته أديس أبابا بعدم التعامل بحسن نية في هذا الملف.
كما وجه ترامب انتقادات إلى إثيوبيا وألمح إلى أنّ مصر يمكن أن تهاجم السدّ، وهو سيناريو رفضته القاهرة علناً.
ولكن جو بايدن أزال العقوبات التي فرضها ترامب فور وصوله للبيت الأبيض، دون أن يحصل على أي التزام إثيوبي في المقابل.
انقسام أمريكي حول سد النهضة
من الواضح أن هناك اختلافاً أمريكياً عميقاً بشأن الموقف من أزمة سد النهضة، مرتبطاً بالانقسامات الداخلية الأمريكية.
ويرى مراقبون أن الحزب الديمقراطي الأمريكي يميل إلى أديس أبابا، بينما يدعم الجمهوريون موقف القاهرة والخرطوم، حسبما ورد في تقرير لموقع "إندبندنت عربية".
فالديمقراطيون باتوا يتأثرون في مواقفهم بشدة باللوبي الإفريقي الأمريكي، وهو لوبي ينظر لإثيوبيا باحترام شديد باعتبارها أول دولة وحضارة إفريقية سوداء، والمفارقة أن هذا غير حقيقي، لأنه من المعروف علمياً أن القوميات التي أسست حضارة إثيوبيا هي قوميات سمراء سامية (أبناء عمومة العرب)، ولا تصنف إطلاقاً من الناحية السلالية كزنوج مثل باقي إفريقيا، بل مارست هذه القوميات وخاصة الأمهريين والتيغراي اضطهاداً طويل الأمد للقوميات الأخرى في إثيوبيا خاصة الزنجية، كما يظهر في إقليم بني شنقول قمز الإثيوبي الذي شيد على أرضه سد النهضة، ويتعرض سكانه الأصليون من الزنوج المسلمين للتمييز من قبل الأمهريين والأورومو الأفتح بشرة.
بايدن نأي بنفسه عن السيسي بعد توليه السلطة، والجمهوريون يرونه حليفهم
كما اتّخذ بايدن عند تولّيه منصبه مسافة من السيسي، بسبب مخاوف تتعلق بسجل القاهرة الحقوقي، وربط بينه وبين ترامب.
في المقابل، فإن الجمهوريين باتوا أقرب في السنوات الماضية خاصة في عهد ترامب، للسعودية والإمارات ومصر، خاصة في ظل تقدم التطبيع العربي الرسمي مع إسرائيل.
ويظهر ذلك واضحاً في لقاء السيسي مع عدد من القيادات الجمهورية بمجلس النواب الأمريكي على هامش القمة الأمريكية الإفريقية في واشنطن.
وخلال اللقاء، أعربت القيادات الجمهورية بمجلس النواب الأمريكي عن "تفهمها التام لشواغل مصر إزاء تلك القضية الحساسة التي تتعلق بالأمن القومي المصري، مؤكدة أن مصر حليف رئيسي للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، ودورها محوري كركيزة للأمن والاستقرار في حوض البحر المتوسط والقارة الأفريقية، والتصدي لخطر الإرهاب والفكر المتطرف، وإرساء مفاهيم التسامح الديني"، حسبما قال السفير بسام راضي، المتحدث باسم رئاسة الجمهورية المصرية، في بيان صحفي (الأربعاء).
الإدارة الديمقراطية لم تفرض أي عقوبات ذات مغزى على إثيوبيا بعد فظائع تيغراي
واللافت في هذا الصدد ليس فقط رفع بايدن السريع للعقوبات الأمريكية على إثيوبيا المرتبطة بسد النهضة، بل إن إدارته لم تتخذ سوى إجراءات وعقوبات محدودة للغاية ضد حكومة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، رغم الفظائع التي ارتكبت في إقليم تيغراي من قبل القوات الحكومية الإثيوبية والتي تحالفت مع جيش أريتريا الدولة المعزولة والمنبوذة من قبل أمريكا.
ويظهر ذلك مدى محدودية قدرة الولايات المتحدة على ممارسة أي ضغط على إثيوبيا بصفة عامة بما في ذلك عندما يرتكب نظامها الحاكم جرائم ضد إحدى الإثنيات الرئيسية في البلاد.
ويمكن إجمال أسباب ضعف مواقف إدارة بايدن تجاه إثيوبيا في أربع نقاط
- المكانة المعنوية لهذا البلد لدى أفارقة أمريكا، وتأثير ذلك على الديمقراطيين الذين أصبح الخطاب الداعم للأفارقة جزءاً محورياً من أيديولوجيتهم.
- الأهمية الاستراتيجية لإثيوبيا في القرن الإفريقي ودورها في مكافحة الإرهاب.
- قلق أمريكا من تقارب آبي أحمد أكثر مع الصين.
- خوف في واشنطن من أن مزيداً من الضغط على إثيوبيا قد يؤدي لانفجار هذا البلد الذي يزيد عدد سكانه عن مائة مليون نسمة ويتكون من عشرات القوميات وشعب ذي طبيعة محاربة، حتى إن مسؤولين أمريكيين قالوا إن حرب سوريا لن تكون شيئاً بجانب أي حرب أهلية في إثيوبيا التي ستكون بمثابة يوغسلافيا إفريقيا.
الوضع لن يتغير كثيراً بعد التحسن الملحوظ في العلاقات بين بايدن والسيسي
ورغم تحسن العلاقات بين إدارة بايدن والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بعد دور الأخير في التوسط لوقف إطلاق النار، العام الماضي، في قطاع غزة بين إسرائيل وحماس، واستضافة مصر قمة الأمم المتحدة للمناخ الشهر الماضي، إلا أنه تظل المشكلة أن الديمقراطيين الذين باتوا يعتمدون بشكل كبيرة على الناخبين السود وعلى الخطاب المعادي للعنصرية يصعب عليهم اتخاذ إجراءات صارمة ضد أديس أبابا.
في الوقت ذاته، فإن إثيوبيا ليس لديها أي حافز لتقديم تنازلات لمصر في أزمة سد النهضة في ظل غياب أي أوراق ضغط بيد القاهرة، خاصة أن أسوأ أيام النظام الإثيوبي قد مرت، فبعد أن كانت العاصمة أديس أبابا مهددة باجتياح من قبل قوات جبهة تحرير تيغراي، انكفأت الأخيرة، في إقليمها في ظل غياب حليف قوي يدعمها مقابل الدعم الأريتري والإماراتي لأديس أبابا وخاض الطرفان مفاوضات، أدت لتبريد الأزمة، ويظل سد النهضة مشروعاً قومياً مهماً لآبي أحمد يقدم به نفسه، كبطل قومي إثيوبي عابر للإثنيات يتحدى أكبر وأعرق وأقوى دولة بالمنطقة.
رغم أن مصر قد تكون أهم من إثيوبيا استراتيجياً بالنسبة لواشنطن، ولكن حساسية وضع أديس أبابا أمريكياً أعلى كما أن هشاشة وضعها الداخلي، تجعل إدارة بايدن أكثر حذراَ، وكل ذلك يعني أن أمريكا قد تحاول التوسط مجدداً بين مصر وإثيوبيا والسودان في أزمة سد النهضة، ولكنها وساطة بلا أنياب، وساطة تقدم مقترحات، ولكنها غير ملزمة للأطراف، وإن اتفقت الأطراف على شيء من خلال تلك الوساطة ثم تنصل طرف منها فلن تعاقبه واشنطن.
وساطة أمريكا بأزمة سد النهضة إذا انطلقت سوف تشبه في أفضل أحوالها دور إدارة بايدن الديمقراطية بين إسرائيل وفلسطين؛ تعاطف كلامي مع وضع الشعب الفلسطيني وانتقادات للانتهاكات الإسرائيلية دون أي ردع بل استمرار سيل المساعدات دون توقف.
لا يعنى هذا أن إدارة بايدن إذا جددت وساطة أمريكا بأزمة سد النهضة، ليس لديها أدوات قوة، بل لديها مثل هذه الأدوات ولكن لا تريد استخدامها.
فمهما كانت أهمية مصر ومهما كان الانتهاكات الإثيوبية صارخة فإدارة بايدن لن تستخدم الأدوات الأمريكية الحازمة التي تشهر في وجه الصين وإيران وروسيا.
ومع تزايد قوة اللوبي الإفريقي في واشنطن بشكل ينافس اللوبي اليهودي ستكتفي واشنطن بالاعتماد على حسن نية رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في أزمة سد النهضة.