في صباح 5 ديسمبر/كانون الأول 2022 استيقظت في السادسة صباحاً، وفي المساحة بين النوم واليقظة، وبين سريري وحتى الشرفة لإشعال سيجارة عرفت أن "محمد أبو الغيط" رحل!
في السادسة صباحاً تناقل كل أصدقائي خبر وفاة أحد أهم وأشطر كُتاب جيله في الصحافة. رغم معرفتي المسبقة بشكلٍ عابر بإصابة أبو الغيط بسرطان نادر منذ فترة طويلة، إلا أن الخبر كان صاعقاً ومفزعاً بشكل لم أتخيله حتى عليَّ أنا أكثر الناس بُعداً عن محمد وعن كواليس مرضه.
منذ فترة لم يتوقف محمد عن التدوين على "فيسبوك" من خلال منشورات تحكي عن حياته في ظل مرض "غادر"، كما وصفه لأكثر من مرة في كتابه الصادر حديثاً. كانت الرسائل توضح كم المعاناة التي يتعرض لها محمد أبو الغيط في رحلته المؤلمة مع مرض لا تتشكل هجماته بشكل منتظم أو معهود، بل إنها تأتي في صور عديدة، لم تكن في كل مرة تجد وصفاً مناسباً لها في معجم أبو الغيط رغم بلاغته!
حينما مات الغريب الذي لم أكن أعرفه
حينما قرأت الخبر كنت أعرف أن كل أصدقائي المقربين الذين تجمعهم علاقات إنسانية ومهنية وشخصية مع محمد أبو الغيط سوف ينهارون كُلياً، لأنهم مثل محمد أبو الغيط كانوا يملكون نفس الأمل في اختفاء هذا الألم بأي صورة، سواء جاءت في صورة معجزة من الله أو من خلال عقار طبي جديد قد يحمل مفاجأة سارة لكل من يتعلقون به ولكل من يتألمون نفسياً لألمه الذي لم يمنعه -رغم شدته- من ممارسة الكتابة التي وضع لها أكثر من تعريف.
"لماذا أكتب؟
أكتب لأن الكتابة ببساطة تمنحني شعوراً أفضل".
– محمد أبو الغيط من كتابه "أنا قادم أيها الضوء" دار الشروق ٢٠٢٢
حينما تأكدت من خبر الوفاة أصابني الشعور المقبض الذي يصاحب خبر موت الأحباب. أنا في الأساس لا أعرف محمد أبو الغيط ولكن كل أصدقائي المقربين أصدقاؤه، بعضهم يعتبره أخاً، وآخرون يعتبرونه صديقاً مقرباً، وبعضهم كانوا أكبر منه سناً منذ أن بدأت رحلته في الكتابة الإبداعية والصحفية في المدونات وعصور ما قبل الفيسبوك؛ لذلك يعتبرون وفاته كوفاة أحد أبنائهم. بعض الأصدقاء قالوا لي إن وفاة محمد هي وفاة أخ تجمعهم صلة الأخوة بشكل إنساني أعمق من الأخوة البيولوجية، بعضهم لم يتمكنوا من الرد على الهاتف لأيام وأول ما رددوه بعد تجاوز صدمة الرحيل أنهم فقدوا جزءاً من تاريخهم الشخصي بوفاة محمد.
كل هذا جعلني أبدو تائهاً وحزيناً، حزيناً لحزن أصدقائي وحزيناً لرحيل محمد أبو الغيط قبل أن أعرفه بشكل شخصي.
أكتب أنا عن محمد أبو الغيط لرثائه، لمحو جزء -ولو قليل- من شعوري العميق بالخسارة، في محاولة حقيقية لتعريف من لا يعرفون من هو الكاتب الصحفي محمد أبو الغيط الذي ولد في عام ١٩٨٨ وفي صباح ٥ ديسمبر/كانون الأول 2022 في السادسة صباحاً بتوقيت القاهرة ودّعنا بطريقة درامية بعدما كنا ننتظر حدوث معجزة ما لشفائه.
أنا قادم أيها الضوء: أكتب لتحدي الموت والقهر، ولو مؤقتاً!
من لم يعرفوا محمد أبو الغيط في حياته ربما عرفوا اسمه من خلال الجهات الصحفية العديدة التي لا حصر لها محلياً وعالمياً التي نشرت خبر وفاته مرفقاً بإسهاماته في مجالات الصحافة الاستقصائية والكتابة الإبداعية. في كتابه "أنا قادم أيها الضوء" الصادر حديثاً عن دار الشروق المصرية -ربما من سوء حظ الراحل أن الكتاب صدر بعد وفاته وليس قبلها كما كان يتمنى- يكتب محمد عن أشياء كثيرة، يخلط دون عمد بين العام والخاص، يحكي بحساسية شديدة وبدون أي بكائيات عن مرضه النادر والخبيث جداً الذي بدّل حياته. تجربة المرض -كما أطلق عليها محمد- هي واحدة من ضمن التجارب الأسوأ والأصعب التي ندعو الله أن لا يدخلنا بها أبداً، ولكن محمد في مراحل مرضه الأخيرة ذكر أنه اضطر لدخول تجارب عديدة لعقاقير وأنظمة علاج جديدة تم إنتاجها لأول مرة وكان أول من تناولها، فكان كما ذكر في صفحة <١٠٣> في كتابه: "بالمعنى الحرفي لا المجازي التجربة هي أنا، وأنا التجربة".
وانطبقت عليه أبيات أمل دنقل في قصيدة الكعكة الحجرية: صفعته يد.. أدخلته يدُ الله في التجربة.
ولكن محمد في كتابه يدعو الآخرين بصدق للنظر إلى حياتهم بنظرة مختلفة؛ لأنه ورغم كل ما لاقاه من ألم وكل ما عايشه كان على يقين أن الحياة بها أشياء جميلة تستحق أن نعيشها. لا يتضمن الكتاب وصفاً كاملاً لتجربة محمد كمريض بسرطان نادر بالمعدة في مرحلته الثالثة كما ورد في أول تقرير طبي صدر لحالته في منتصف ٢٠٢١ فقط، ولكنه يحمل تجربة محمد ككل واضعاً المرض كهامش أحياناً، وواضعاً الحياة الخاصة به بكل ثرائها وزخمها الثقافي كمتن، بالإضافة لعرض دقيق لأعمال فنية وأدبية أثرت به ودخلت في كتابته عن الحياة بشكل عام في تقاطع شديد النعومة والرقة مع الحياة القاسية التي عاش فيها تجربة الألم في كل جزء بجسده.
الكتاب رغم الحزن السائد على أغلب مواضيعه التي تتضمن خبرات محمد كطبيب سابق يحكي دون تعثر عن مصطلحات طبيبة عديدة -تخص حالته- ويشرحها ببساطة كأنها لا تعنيه إلا أنها مادة صحفية شاملة، رحلة بين الكتب والأعمال الوثائقية يكتبها رجل لطالما التصقت صفة الصدق بكل ما يكتبه.
"ليس بيدنا أن نوقف الآلام الناتجة عن الكوارث الطبيعية، لكن بيدنا أن نحاول وقف الكوارث البشرية".
محمد أبو الغيط / أنا قادم أيها الضوء
بحساسية شديدة وبمهارة طبيب جراح يحكي محمد عن حياته الصحفية وخبراته التي منحته جوائز دولية مرموقة من أعرق المؤسسات وعن أثر الآخرين عليه. كل هؤلاء الآخرين الذين آلمهم رحيل محمد بعدما استهلك المرض جسده شعروا فجأة بأن هذا الرحيل المؤلم كان من الواجب أن يتأخر لسنوات عديدة، ولكنه الموت الذي قال عنه الكاتب الراحل "أحمد خالد توفيق" إنه يختار أفضل من فينا؛ لأنهم نجحوا في الامتحان مبكراً فلا داعي لوجودهم هنا. وفي حالة محمد أبو الغيط الذي كان يحلم بوطن أكثر رقة لا أكثر قوة، والذي كتب رغم كل ما به؛ لأن الكتابة كانت تعني له تحدي الموت والقهر ولو مؤقتاً أتى الموت كخاتمة لا قدرة لنا إلا التسليم بها. مع الأخذ في الاعتبار أن الموت لا يأخذ إلا جسداً، فإننا واثقون أن الأثر لن يزول يا محمد.
في منتدي مصر للإعلام منذ أسبوعين تم تكريم محمد أبو الغيط لرحلته الثرية، ولجهوده الحافلة في مجال الصحافة. لم يكن هذا التكريم هو الأول لمحمد الذي حصل على أرفع الجوائز الدولية، ولكنه كان إحدى أجمل الجوائز التي حصل عليها؛ لأنه جاء من بلده كتقدير ووسام. في الرحلة التي بدأت في صعيد مصر حين وُلد في ٢٣ أكتوبر ١٩٨٨ لم يكن يتخيل أحد أن القاهرة التي جاء إليها محمد لممارسة الطب والكتابة معاً ستصبح هي الباب الكبير الذي يعبر من خلاله محمد عالم الصحافة والكتابة فقط، بعدما يتأكد أن الأمر ليس مجرد هواية هامشية، بل نافذة أساسية سيعبر من خلالها إلى العالم. لم تكن نجاحات محمد الأولى إلا إشارة للاستمرار أدركها هو وأكمل فيها رحلته حتى النهاية على أكمل وجه. لا يمكن حصر الجوائز التي حازها، ولا المواضيع الأبرز التي كتبها وساهم بها في فضح فساد دولي كبير مثل "كشف شبكات تمويل خاصة بميليشيات التدخل السريع التي شكلها عمر البشير في السودان والتي سببت انتهاكات عديدة لحقوق الإنسان وتسببت في جرائم حرب في دارفور والخرطوم" الذي حصل من خلاله على جائزة "فيتيسوف" عن فئة الإسهام البارز في السلام، أو جائزة "ريكاردو أورتيجا" المقدمة من رابطة المراسلين التابعة للأمم المتحدة عن وثائقي "المستخدم الأخير" الذي كشف عن خرق دول أوروبية حظر التسلح في اليمن ومد الأطراف المتنازعة بالسلاح.
ليست كتابتي هنا عن محمد أبو الغيط للتعريف به أو الحديث عنه؛ لأنني غير مؤهل لهذا بالتأكيد؛ لأن محمد كان أستاذاً ومُعلماً يحتاج صفحات عديدة للحديث عنه، وأصدقاؤه الذين رافقوه في رحلته أولى بالتعريف به؛ لأنهم عرفوه حق معرفة. ولكني أكتب لأرثي نفسي لحزني على رجل رحل في عمر الثالث والثلاثين وبالتحديد بالسادسة صباحاً بتوقيت ٥ ديسمبر، لحزني على رجل يشهد الجميع له بموهبته ودعمه للجميع، وبمحاولاته المستمرة في الحفاظ على مبادئه، ولأنني أيضاً أكتب لقهر الموت الذي أفجعنا جميعاً فيه، أقهره ولو مؤقتاً؛ لأن أثر محمد أبو الغيط حي لن يموت.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.