عندما يلتقي منتخب المغرب نظيره الفرنسي في نصف نهائي كأس العالم قطر 2022، سيكون إيقاف كيليان مبابي أهم مفاتيح فوز أسود الأطلس، فكيف أصبح مهاجم الديوك أهم لاعبي فرنسا وأغلى لاعبي المونديال العربي؟
كان منتخب المغرب قد دخل تاريخ كرة القدم من أوسع أبوابه بعد أن أصبح أول فريق عربي وإفريقي يتأهل لنصف نهائي المونديال، في نسخته رقم 22 في قطر، بعد أن أطاح بالبرتغال في ربع النهائي ومن قبلها أخرج إسبانيا في دور الـ16.
تصدرت كتيبة وليد الركراكي، مدرب الأسود، مجموعتهم بالفوز على بلجيكا وكندا والتعادل مع كرواتيا، دون أن تهتز شباك المغرب إلا في مناسبة وحيدة، ليدخل الفريق العربي مباراة نصف النهائي التاريخية وهم أقوى خط دفاع في كأس العالم، في مواجهة الديوك الفرنسية صاحبة الهجوم القوي بقيادة مبابي، متصدر الهدافين بخمسة أهداف.
ما قصة تلك الأكاديمية الفرنسية؟
ألقى تقرير لصحيفة The Times البريطانية، الضوء على كيفية اختيار فرنسا للاعبين أصحاب المواهب الواضحة في كرة القدم، وإعدادهم في سن صغيرة كي يصبحوا نجوماً متألقة، واختارت مبابي كأحد أبرز تلك النماذج.
فقبل ما يزيد قليلاً على عقد من الزمان، أمضى كيليان مبابي عامين في "مركز كليرفونتين" الواقع في وسط غابة رامبوييه على بعد ساعة أو نحو ذلك من باريس.
كان كيليان مبابي يوصف، بالفعل حينئذ بأنه ناشئ واعد، وإن كان مشاغباً بعض الشيء، وكان الخبراء يتوسَّمون فيه أن يكون نجماً في المستقبل حين وصل في عام 2011 إلى المركز الذي يروق للفرنسيين وصفه بأنه معقل لصناعة التميز الرياضي.
ومع ذلك، يقول آلان مبوما، المدير الرياضي الذي كان يعرف عائلة اللاعب حين كانوا يعيشون في ضاحية بوندي المضطربة شمال باريس، إن مبابي كان من الممكن أن تؤول به الأمور بسهولة إلى الانحراف والخروج عن الجادة.
وبينما كان منتخب فرنسا للناشئين تحت 16 سنة يخوض مباراة تدريبية ضد فريق الناشئين تحت 15 سنة بمركز كرة القدم الوطني الفرنسي، في اليوم نفسه الذي واجه فيه رفاق مبابي منتخب إنجلترا في ربع نهائي كأس العالم قطر 2022، ارتفع صوتٌ فجأة: "أعطني الكرة يا كيليان".
وصلت الكرة إلى المدرب الذي كان منشغلاً بمراقبة أسلوب اللاعبين الناشئين في الملعب، ثم قال للاعبه: "أنت تتأخر كثيراً في تمرير الكرة، أوقِف اللمسات التي لا داعي لها".
كانت فرنسا قد تفوقت على إنجلترا بهدفين مقابل هدف في ربع النهائي مساء السبت 10 ديسمبر/كانون الأول، وقبل ذلك كانت الديوك الفرنسية قد أطاحت ببولندا بثلاثة أهداف لهدف. ويدخل المنتخب الفرنسي مواجهة المغرب متسلحاً بأقوى هجوم في المونديال بتسجيل 11 هدفاً. لكن رفاق مبابي سيواجهون الدفاع الأقوى في البطولة، ومن خلفه أحد أفضل الحراس ياسين بونو.
مبابي.. الطفل المشاغب
وبالعودة إلى مشوار مبابي، قال مبوما لمجلة Sport-Foot الأسبوعية البلجيكية: "لقد كان [مبابي] طفلاً قادراً على بث الاضطراب إذا لم يحصل على ما يريد. وكان من الأطفال [ذوي الطباع الحادة] الذين قد يعصفون بأي شيء أمامهم".
تبيَّن في اختبار أجراه مبابي بالمدرسة الابتدائية أن معدل ذكائه مرتفع، على الرغم من أن نتيجة الاختبار كانت ممكنة التحسُّن لو لم يترك الأسئلة الأخيرة دون إجابة للعودة إلى الملعب.
ولم تختلف الأمور في المدرسة الثانوية، فيقول معلموه إنه كان يركز على دروس اللغة الإنجليزية والإسبانية، لأنه يطمح إلى اللعب في الدوري الإنجليزي أو الدوري الإسباني، لكنه كان يعاني التشتت والانزعاج من بقية المواد، وكان يستخدم ابتسامته الجميلة للتهرب من العقوبات القاسية.
يعود معظم الفضل في بقاء مبابي على مسار النجاح والتميز إلى والديه، خاصةً والدته فايزة العماري، التي فرضت عليه سيطرة مشددة، حتى إنها أوعزت إلى معلميه في السنة الثانية من المرحلة الثانوية أن يسجلوا الملاحظات على سلوكه كل ساعة، لكي تراقب بنفسها أي سلوك خاطئ، سواء كان التلفظ بما لا يليق أو الوصول إلى الدروس متأخراً أو أي خطأ يرتكبه (حتى إنه حين سخر ذات مرة من سترة زميله في الفصل، أرسلته إلى المدرسة مرتدياً بنطالاً قديماً زاهي الألوان ليشعر بالأذى الذي ألحقه بزميله).
ومع ذلك، فإن العامين اللذين أمضاهما مبابي في أكاديمية كليرفونتين لهما فضل كبير فيما وصل إليه، فقد تضمنت تلك المدة سنتيه الثالثة والرابعة من المدرسة الثانوية، وتمكن خلالها من صقل مهاراته وتحسين انضباطه بالتزام النوم المبكر والاستيقاظ المبكر، والابتعاد عن العبث وإهدار الوقت.
تختار أكاديمية كليرفونتين الوطنية الفرنسية لكرة القدم 23 فتى، ومثلهم من الفتيات، كل عام، من ضمن نحو 1600 ناشئ يشاركون في اختبارات لترشيح أفضل اللاعبين الناشئين بمنطقة باريس. يبلغ متوسط عمر هؤلاء الناشئين 13 عاماً، ويقضون عامين في معقل إعداد اللاعبين الفرنسي، ولا يعودون إلى منازلهم خلال ذلك إلا في عطلات نهاية الأسبوع.
يستيقظ أطفال الأكاديمية في الساعة الـ6:50 صباحاً، وتنقلهم الحافلات إلى المدرسة الثانوية المحلية بعد الإفطار، ويعودون وقت الغداء لأداء الواجبات المنزلية وحصص التدريب. ويتعيَّن عليهم تسليم الهواتف في الساعة الـ8:30 مساءً.
ما قصة أكاديمية "كليرفونتين" في فرنسا؟
في معرض الحديث عن فلسفة الأكاديمية، يقول كريستيان باسيلا، مدير أكاديمية كليرفونتين، إن "كرة القدم رياضة جماعية، وعلى الملتحق بها أن يتعلم كيفية التعايش مع زملائه. لا يمكنك فعل ذلك إذا كنت تستخدم هاتفك طيلة الوقت".
كانت أراضي أكاديمية كليرفونتين ذات يوم متنزه صيد يملكه مصرفي ثري، أما اليوم فتضم أكثر من 10 ملاعب كرة قدم محاطة بغابة تمتد على مرمى البصر، ويقع في وسطها القصر الذي لطالما استخدمته منتخبات فرنسا مكاناً لإقامة معسكراتها قبل المباريات والبطولات الدولية. ومع أن القصر لا يبعد عن مقر سكن الناشئين إلا مئتي متر، فإنه يُمنع على التلاميذ أن تطأ أقدامهم القصر إلا حين يصبحوا لاعبين دوليين.
وتوجد 15 أكاديمية مشابهة في مقاطعات فرنسية مختلفة، لكن كليرفونتين تفوقها جميعاً من حيث الشهرة، فقد تخرج فيها مجموعة من أبرز اللاعبين الدوليين، مثل تييري هنري، ونيكولاس أنيلكا. ويشارك في بطولة كأس العالم الحالية أربعة لاعبين فرنسيين ولاعب تونسي ولاعب برتغالي، من خريجي الأكاديمية.
حين أنشأت فرنسا المنظومة الوطنية لاكتشاف اللاعبين الشباب وتطويرهم في أوائل سبعينيات القرن الماضي، كانت البلاد مشهورة بفلاسفتها المعروفين ومصممي الأزياء وفنون الطهي، لكن منتخبها كان من منتخبات الدرجة الثانية بين منتخبات كرة القدم، فقد احتل المركز الأخير في مجموعته بمونديال 1966، وفشل في التأهل إلى كأس العالم عام 1970. ويقول باسيلا إن التحول الذي أحدثته المنظومة كان ملحوظاً وأبرز أسبابه هو العمل على اكتشاف اللاعبين الناشئين وصقل مهاراتهم.
يقول باسيلا: "لقد تأهلنا الآن إلى ربع نهائي كأس العالم في ثلاث بطولات متوالية، وهو ما يوضح مدى تقدمنا. لقد بذلنا كثيراً من الجهد، ويمكن القول إن فرنسا كانت رائدة في تلك الطريقة، وهي تطوير [اللاعبين الناشئين]. والنتائج أكبر دليل".
هل توجد عنصرية في كرة القدم الفرنسية؟
كان الاتحاد الفرنسي لكرة القدم يواجه مزاعم بأنه يخصص حصة سرية للاعبين البيض حين التحق مبابي بأكاديمية كليرفونتين، وانتشرت مخاوف آنذاك من انصراف المشجعين عن المنتخب الوطني إذا أصبح جميع لاعبيه من الأقليات العرقية.
من أجل دحض المزاعم، دعت الأكاديمية صحيفة Le Monde للمشاركة في فترة إعداد الدفعة المعروفة باسم "برومو 98″، وهي دفعة مبابي. واجتهد المدربون ليظهروا للصحافة أن جميع الطلاب يُعامَلون على قدم المساواة بصرف النظر عن لون بشرتهم. وكان مبابي "النجم الواعد" الذي وضع الجميع عليه آمالاً كبيرة. ومع ذلك، فإنه حافظ على تواضعه في أثناء لقائه مع الصحيفة، وقال: "أعرف أن المكافأة جزاء من يتقن العمل ويحسن الاستماع للنصيحة. وإذا فشلت، فغاية ما أريده ألا أكون قد قصرت أو فعلت ما يستدعي الندم" على ضياع الفرصة.
لم تكن كلمات مبابي من قبيل الهراء. والواقع أن نحو ثلثي طلاب الأكاديمية لا يحصلون بعد ذلك على عقود احتراف لكرة القدم، وبعض الموهوبين يتعثرون في مواجهة الإصابات أو التعب. أما مبابي، فلم يكن ممن يقبلون بمثل هذا التعثر.
أراد نادي ريال مدريد الإسباني التعاقد معه في سن 12، فذهب مع والديه للقاء زين الدين زيدان في العاصمة الإسبانية. واصطحبهم زيدان في سيارته، التي بلغ إعجاب مبابي بها أن سأل إن كان عليه أن يخلع حذاءه قبل الركوب فيها.
إلا أن والدة مبابي ووالده اختارا إبعاده عن ضغوط ريال مدريد في هذه السن المبكرة. والتحق مبابي بنادي موناكو، وشارك هناك في أول مباراة احترافية له قبيل عيد ميلاده السابع عشر، ثم انتقل في عام 2017 إلى نادي باريس جيرمان مقابل 180 مليون يورو، وفاز مع المنتخب الفرنسي بكأس العالم في العام التالي، ووقع الآن عقداً جديداً مع نادي العاصمة يتلقى من خلاله نحو 625 مليون يورو على مدى 3 سنوات، ليصبح أغلى لاعب في مونديال قطر 2022.
تشمل قائمة خريجي كليرفونتين مجموعة من أشهر اللاعبين في تاريخ المنتخب الفرنسي، وعلى رأسهم: تييري هنري، هداف نادي أرسنال وأحد أعظم اللاعبين في تاريخ كرة القدم ودرة تاج الأكاديمية؛ ونيكولاس أنيلكا؛ وأوليفييه جيرو، أكثر اللاعبين تسجيلاً للأهداف في تاريخ المنتخب الفرنسي؛ وأبو ديابي؛ وبليز ماتويدي؛ وحاتم بن عرفة.