هزّت الحرب الروسية في أوكرانيا أسواق الطاقة العالمية، تاركة أوروبا تعاني نقصاً في الغاز الطبيعي، ورفعت أسعار جميع أنواع الوقود الأحفوري، وهددت بركود عالمي. لكن دولة واحدة ناورت بفعالية للحصول على ميزة اقتصادية وسياسية من الاضطرابات هذه؛ وهي قطر.
لطالما كانت قطر مُصدِّراً كبيراً للغاز الطبيعي المسال إلى الدول الآسيوية، وهي تستعد حالياً لتصير مصدراً مهماً لواردات الطاقة إلى أوروبا، التي تتحرك بعيداً عن اعتمادها على روسيا. وتتقرب قطر أيضاً من الصين؛ ما يقوض الآمال الروسية في تحويل معظم الطاقة، التي لم تعد أوروبا تشتريها، إلى آسيا، كما تقول صحيفة The New York Times الأمريكية.
"هذه لحظة قطر"
يقول العديد من خبراء الطاقة إنَّ قطر صارت في قطاع الغاز الطبيعي مثل نموذج السعودية في النفط، ومورد طاقة لا غنى عنه مع احتياطيات هائلة وتكاليف منخفضة للغاية. وهذا يعني أنَّ قطر ستكون قادرة على بيع الغاز الطبيعي لفترة أطول وأكثر ربحية من المُصدّرين الرئيسيين الآخرين، مثل أستراليا وروسيا، حتى مع تغير المناخ الذي يجبر العديد من البلدان على تقليل استخدامها للوقود الأحفوري.
وقال خبير الطاقة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بن كاهيل لنيويورك تايمز: "هذه لحظة قطر. كل شخص في العالم يحتاجهم".
ترتبط قطر فعلياً بأستراليا والولايات المتحدة، باعتبارها أكبر مُنتِج للغاز الطبيعي المسال، وهو الوقود الذي يُبرَّد لدرجات حرارة منخفضة جداً ويُشحَن على ناقلات. ويقول الخبراء إنَّ الصادرات الأسترالية قد بلغت ذروتها على الأرجح، وإنَّ بعض حقولها القديمة بدأت تنحسر.
بينما تبني الولايات المتحدة محطات تصدير جديدة، لكن بوتيرة متواضعة نسبياً ومُقيَّدة جزئياً من كبار المستثمرين الذين هم أقل استعداداً لاستثمار الأموال في الوقود الأحفوري مما كانوا عليه قبل بضع سنوات، بسبب المخاوف بشأن تغير المناخ.
وروسيا أيضاً مُصدِّر رئيسي للغاز، وقد باعت الكثير منه لأوروبا عبر خطوط الأنابيب منذ فترة طويلة. لكن هذه الصادرات تباطأت إلى حد كبير منذ غزت روسيا أوكرانيا في فبراير/شباط.
استثمارات ضخمة لتطوير صناعة وإنتاج الغاز الطبيعي
وهذا يترك قطر، وهي المملكة العربية الشرق أوسطية يبلغ عدد سكانها 3 ملايين نسمة فقط، في موقع ممتاز. في العام الماضي، بدأت الدولة في بناء 4 محطات إنتاج وتصدير جديدة عملاقة، وهي استثمارات ستزيد من قدرتها التصديرية بأكثر من الثلث بحلول عام 2026. وأعلن المسؤولون عن خطط لبناء محطتين أخريين في وقت لاحق من هذا العقد، على أن تنمو قدرة البلاد، في النهاية، على إنتاج الغاز الطبيعي المسال بأكثر من 60% لتصل إلى 126 مليون طن سنوياً في وقت لاحق من هذا العقد.
وقال الرئيس السابق لمنظمة البلدان المصدّرة للبترول ووزير الطاقة الجزائري الأسبق، شكيب خليل: "قطر في وضع أفضل من أية دولة أخرى للاستفادة من الوضع في أوروبا. منافسو قطر إما محاصَرون بسبب مشكلات سياسية مثل إيران وليبيا، أو مثل نيجيريا أو الجزائر، ليس لديهم الموارد اللازمة لتوفير الكميات الإضافية المطلوبة".
تراهن قطر على أنه حتى في الوقت الذي يحاول فيه معظم العالم خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، فإنَّ الطلب على الغاز الطبيعي المسال سيستمر في النمو. وذلك لأنَّ العديد من القادة المنتخبين وخبراء الطاقة يعتقدون أنَّ الوقود ضروري بديلاً للفحم ولدعم الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، التي يمكن أن تكون محدودة بسبب الطقس.
ودفعت الولايات المتحدة من أجل انتقال أسرع إلى الطاقة الخضراء، لكن إدارة بايدن احتضنت قطر. في تصريحات بالبيت الأبيض في يناير/كانون الثاني قبل لقاء زعيم قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أشار الرئيس بايدن إلى أنَّ البلدين يشتركان في الرغبة في "ضمان استقرار إمدادات الطاقة العالمية".
زعماء الغرب يطلبون ودّ قطر من أجل الحصول على الغاز
من جهتها، تقول المديرة التنفيذية لمنتدى الخليج الدولي -وهو معهد أبحاث بواشنطن- دانيا ظافر: "يبدو أنَّ إدارة بايدن تُقدِّر دور قطر في سوق الغاز، خاصة عندما يتعلق الأمر بتوفير الإمدادات لأوروبا".
كما سافر العديد من كبار القادة الأوروبيين؛ بمن فيهم المستشار الألماني، أولاف شولز، ورئيس المجلس الأوروبي، تشارلز ميشيل، إلى عاصمتها الدوحة هذا العام في إطار جهودهم لتأمين مزيد من الطاقة.
وقال المتحدث باسم السفارة القطرية في واشنطن، علي الأنصاري، إنَّ قطر ستواصل بذل قصارى جهدها لدعم حلفائها في أوروبا؛ و"بينما توقف معظم العاملين في الصناعة عن الاستثمار في اكتشافات هيدروكربونية جديدة، ضاعفت قطر من إنتاج الغاز الطبيعي المسال".
الأزمة الحالية تمنح قطر الكثير من الزخم
وتضاعفت صادرات البلاد من الطاقة، التي يعتبر الغاز الطبيعي أهمها إلى حد بعيد، هذا الصيف مقارنة بالعام الماضي، لتصل إلى 9.2 مليار دولار في أغسطس/آب. ووضعت قطر قدميها على الطريق لتحطيم رقمها القياسي في عائدات الصادرات السنوية، التي حددتها في 2013، قبل أن تؤدي صادرات الغاز الأمريكية المزدهرة إلى خفض أسعار الغاز.
وعلّقت الرئيسة التنفيذية لشركة Gas Vista للأبحاث، ليزلي بالتي-غوزمان: "الأزمة تمنحهم الكثير من الزخم".
وتعمل شركة قطر للطاقة، المملوكة للدولة، على التوسع في جميع أنحاء العالم باستثمارات في البرازيل وسورينام وأنغولا وجنوب إفريقيا وأماكن أخرى، بالإضافة إلى إدارة حقل الغاز البحري الكبير الذي تملكه في قطر. وقد عملت مع إكسون موبيل الأمريكية لبناء محطة لتصدير الغاز الطبيعي المسال في لويزيانا، التي ستبدأ العمل بحلول عام 2024. وتنتج قطر للطاقة وإكسون موبيل الغاز في حقل قبالة الساحل المصري، وتنقب عن الغاز في قبرص.
وبدأت شركة قطر للطاقة مؤخراً محادثات مع توتال إنرجي الفرنسية وإيني الإيطالية للعمل معاً في المياه اللبنانية، وهو مشروع صار ممكناً بفضل اتفاق الحدود البحرية الأخير بين لبنان والاحتلال الإسرائيلي.
وفي الأسابيع القليلة الماضية فقط، وافقت قطر للطاقة أيضاً على بناء مصنع بلاستيك بقيمة 8.5 مليار دولار في ولاية تكساس مع شركة شيفرون فيليبس للكيماويات، وتفاوضت على صفقة مدتها 15 عاماً لتزويد ألمانيا بالغاز.
من جانبه، قال خبير الطاقة في جامعة رايس، جيم كرين: "لن يترك القطريون أزمة طاقة أوروبية كبيرة تذهب سدى. بينما اليأس ما زال يخيم على الغرب، ها هم يبرمون عقداً جديداً طويل الأجل في ألمانيا".
وستزود قطر ألمانيا مليوني طن من الغاز سنوياً؛ ما يمنح الدولة الأوروبية قدراً من أمن الطاقة. لكن حتى مع هذه الكمية، يمثل الغاز القطري جزءاً صغيراً مما زودته روسيا بألمانيا، بجانب أنه لن يبدأ في الوصول حتى عام 2026. وتتودد ألمانيا أيضاً لمنتجين آخرين، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة.
من أوروبا حتى آسيا
بالإضافة إلى تلك الصفقة، وقعت قطر مؤخراً عقداً لتزويد الصين بالغاز الطبيعي لمدة 27 عاماً – وهو أطول عقد مُسجَّل على الإطلاق. وسيضمن هذا العقد، الذي يشمل كمية 4 ملايين طن تقريباً من الغاز سنوياً، لقطر سوقاً تضخ فيه كثيراً من الغاز الإضافي الذي تتوقع إنتاجه بمجرد الانتهاء من محطاتها الجديدة.
وتزود قطر الصين بالفعل بربع احتياجاتها من الغاز. وإلى جانب العديد من الصفقات الأصغر الأخرى، سيسمح العقد الجديد للصين بخفض اعتمادها على روسيا انخفاضاً ملحوظاً.
وصرّح وزير الطاقة القطري والرئيس التنفيذي لشركة قطر للطاقة سعد شريدة الكعبي، في بيان، بأنَّ الصفقة "تفتح صفحة جديدة ومثيرة" مع شركة سينوبك الصينية المملوكة للدولة، التي ستشتري الغاز القطري.
بينما يرى الخبير العالمي في مجال الغاز والغاز الطبيعي المسال في شركة Rapidan Energy Group الاستشارية، أليكس مونتون، أنَّ "مصلحة قطر الأساسية هي تحقيق الأمن؛ فهي تدرك تماماً نقاط ضعفها، ومواردها الغازية هي الطريق لتعزيز أمنها".