إذا ذُكرت الهند ذُكر المهاتما غاندي، لكن منذ وصول ناريندرا مودي إلى السلطة تغيرت الأمور بشكل جذري في شبه القارة، وأصبح "والد الأمة" هدفاً للمتطرفين الهندوس، فكيف يحاول حفيده إحياء إرثه لإنقاذ البلاد من التطرف؟
فالمهاتما غاندي واحد من أشهر المناضلين في العالم، وتمثل سياسته القائمة على النضال السلمي ضد الاستعمار أيقونة خاصة، حيث كان يدعو إلى المقاومة اللاعنفية للاستعمار، وبعد الاستقلال أرسى دعائم الديمقراطية العلمانية، رافضاً التطرف وجعل الهند دولة هندوسية.
لكن احتفالات الهند، خلال أغسطس/آب الماضي، بمرور 75 عاماً على استقلالها عن الحكم البريطاني شهدت تعرض إرث "والد الأمة" للتشكيك والتقليل من قيمته والاستهزاء به على نحو لم يحدث من قبل.
من هو راهول غاندي وماذا يريد أن يحقق؟
حكم حزب المؤتمر، الذي أسسه المهاتما غاندي ورفاقه، الهند فترات طويلة منذ الاستقلال، لكن حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي يحكم البلاد منذ عام 2014، ويسعى الحزب الحاكم حالياً وزعيمه مودي إلى القضاء على مظاهر التعدد في الهند وجعلها دولة قومية للهندوس فقط، وتدفع الأقلية المسلمة ثمناً باهظاً لهذه السياسة بطبيعة الحال.
وتضع سياسات مودي وحزبه مستقبل الهند كدولة ديمقراطية متعددة الأحزاب في خطر داهم، إذ أعاد مودي، أحد أقوى القادة في تاريخ الهند، تشكيل أساسها السياسي العلماني لتمييز الأغلبية الهندوسية وتهميش المسلمين والأقليات الأخرى. بَصمته عميقة ونجاحاته كاملة لدرجة أن مساعديه يقولون إن حزب بهاراتيا جاناتا سيظل مسيطراً على البلاد لعقود قادمة، بحسب تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
وفي هذا السياق، قرر راهول غاندي، سليل عائلة غاندي السياسية العريقة، أن يلجأ لطريقة غير تقليدية لمحاولة تغيير الأمور. ففي اليوم السابع والسبعين من مسيرته الطويلة شمالاً عبر طول الهند بأكملها، سار راهول غاندي إلى بلدة صناعة المنسوجات في وسط هذا البلد الشاسع، ووجهه وشعره مغطى بالغبار.
اختفت الزخارف الفاخرة التي استخدمها خصومه في الحزب الهندوسي الحاكم لرسم صورة كاريكاتيرية له وهو منعزلٌ وبعيد عن الأنظار، إذ وقف غاندي يتحدث عن تقرح القدمين وكفاح الرجل العادي. كان يصافح الأطفال، ويعانق الرجال والنساء الأكبر سناً الذين يداعبون شعره ويقبلون جبهته، في رحلة الألفي ميل التي يأمل أن تُخرِج حزب المؤتمر الهندي الذي كان مهيمناً في السابق، من البرية السياسية.
قال غاندي (52 عاماً)، لمؤيديه أواخر الشهر الماضي, في برهانبور بولاية ماديا براديش: "أغلقت الحكومة كل مؤسسة ديمقراطية بالنسبة لنا: البرلمان والإعلام والانتخابات. لم تكن هناك طريقة أخرى سوى النزول إلى الشوارع للاستماع والتواصل مع الناس".
مع الانتخابات الوطنية التي يفصلنا عنها أقل من 16 شهراً، يمكن أن تحدد مسيرة غاندي ما إذا كانت المعارضة السياسية الهندية المنقسمة يمكنها فعل أي شيء لوقف الطموحات المحددة للعصر لحزب بهاراتيا جاناتا الحاكم، بقيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي.
فمع إحكام الحزب قبضته على جميع أنحاء البلاد ومؤسساتها، يشكو سياسيو المعارضة من أنهم طُردوا من البرامج التي تمكِّنهم من الوصول إلى الجماهير في دورة السياسة الديمقراطية.
البرلمان، الذي كان في السابق قاعة نقاش منتعشة، يقتصر الآن إلى حد كبير على الخطب الوزارية، مع تجنب الحزب الحاكم المناقشات حول قضايا السياسة الرئيسية. ومن خلال مزيج من الضغط والتهديد بوقف أموال الإعلانات الحكومية، أخضع حزب بهاراتيا جاناتا وسائل الإعلام التقليدية إلى حد كبير.
لماذا لجأ لهذا الأسلوب في دولة ديمقراطية؟
بعد أن وصل غاندي إلى برهانبور، حيث استقبله حشد كبير وكان البعض يشاهد من فوق أسطح المنازل والبعض الآخر من أغصان الأشجار الهزيلة، بالكاد ذُكِرَ ذلك في البرامج التلفزيونية المسائية.
وجد غاندي أن من الضروري السير على طول الهند، والكفاح من أجل شعاع نور وإبراز صورة جديدة. قاد حزب المؤتمر الوطني الهندي البلاد لثلثي فترة 75 عاماً من الاستقلال، وقدمت عائلة غاندي-نهرو ثلاثة رؤساء وزراء حكموا ما يقرب من أربعة عقود.
ولكن في عقد غاندي كرئيس رسمي للحزب أو زعيم بحكم الأمر الواقع، واجه الحزب هزائم متكررة في الانتخابات الوطنية وانتخابات الولايات، ولديه حالياً 53 مقعداً فقط من أصل 543 مقعداً في البرلمان. كان حزب بهاراتيا جاناتا لديه 303 مقاعد.
لكن شعبية الحزب لم تعد مرتبطة بالأفكار التي يمثلها ولكن بالولاء لعائلة غاندي، التي كانت مركزية في تاريخه، وغالباً ما تُبسَّط المعضلة الخاصة بانحداره على النحو التالي: لا يمكن الاستغناء عن غاندي أو العمل بدونه.
ومع ذبول حزب المؤتمر، ظهرت فضائحه الفوضوية والاقتتال الداخلي بشكل متزايد في الأماكن العامة. يقول مسؤولو الحزب إن التشويش الناجم عن عدم قدرة الأسرة على المصالحة بين الفصائل المتحاربة أدى إلى ركود على المستوى المحلي، وانشقاقات في المستويات العليا.
قال سوميت جانجولي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة إنديانا، لصحيفة نيويورك تايمز: "هذه المسيرة بالطبع محاولة أخيرة من جانبه لإحياء فرص حزبه وتعزيز صورته الوطنية. ولكن بعيداً عن الضجة، فشل في توضيح رؤية بديلة واضحة للبلاد".
فسمعة غاندي تتعرض للتشويه بانتظام في مسيرات المتشددين القوميين الهندوس، معتبرين أنَّه كان رخواً في تكتيكاته ضد البريطانيين، ومتصالحاً بصورة مفرطة مع مسلمي الهند، الذين انفصلوا وشكَّلوا دولتهم الخاصة بهم، باكستان في 14 أغسطس/آب 1947. كما تنتشر على شبكات التواصل الاجتماعي وفي منتديات الإنترنت الكثير من الأكاذيب والمغالطات حول خيانة غاندي المزعومة للهندوس.
وهناك تهميش متعمَّد لغاندي وجواهر لال نهرو، أحد زعماء حركة الاستقلال وأول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال، في الأفلام والمنافذ الإعلامية التابعة للتيار السياسي الرئيسي حالياً في حين تعاظمت الإشادة بالقوميين المناصرين للنضال المُسلّح.
وتعيد الهند، بزعامة مودي، التفكير بشكل أساسي فيما إذا كان غاندي قادراً على نيل حرية البلاد من الاستعمار بدون شبح إراقة الدماء، وما إذا كان ينبغي أن تكون مُثُله العليا هي المبادئ الأساسية الثابتة للبلاد.
توشار غاندي، حفيد الزعيم الهندي الراحل، كان قد قال لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية: "تحاول الحكومة الحالية ترويج نفسها على أنَّها حكومة متحدية وقوية. ثمة حملة متواصلة لاقتلاع مكانة غاندي من نفسية الشعب الهندي أو على الأقل التقليل من قيمته لدرجة تجعله شخصاً عادياً عديم الأهمية".
ويتجسَّد هذا التحول الثقافي في ناريندرا مودي، الذي صوَّره حلفاؤه باعتباره نقيضاً حيّاً لغاندي ونهرو، فهو حاد مع المسلمين وغارق في القومية الهندوسية.
وكانت صحيفة هآرتس الإسرائيلية قد نشرت مقالاً عنوانه "الهند بزعامة مودي على خطى النازية"، شبّه فيه الكاتب ما يتعرض له المسلمون في آسام على أيدي الهندوس، بما قامت به حكومة ألمانيا النازية تجاه اليهود في أوروبا.
ماذا يمكن أن تحقق مسيرة الـ2000 ميل؟
قال غاندي إنه بدأ رحلته -التي ستستغرق نحو 150 يوماً حيث كان هو والوفد المرافق له البالغ عددهم 120 يغطون نحو 13 ميلاً في اليوم، ينامون في حاويات محمولة على شاحنات ثقيلة؛ للمساعدة في توحيد بلد يقول إنه مستقطب بشدة بسبب سياسة الأغلبية الهندوسية لمودي.
منذ سبتمبر/أيلول الماضي، مرَّ غاندي عبر القرى والبلدات الصغيرة في سبع ولايات، واجتذبت مسيرته مجموعة واسعة من الأتباع: حيث يواجه المزارعون حلقة من الديون لا مفر منها، ويكافح السكان الأصليون لحماية الغابات المطيرة من المطورين الأقوياء، ويتخوف الطلاب بشأن فشل الاقتصاد في توفير وظائف كافية.
في مهاجمته للحزب الحاكم، أعرب غاندي عن مخاوف قطاع عريض من السكان الذين يعانون من واقع غير متكافئ للغاية لاقتصاد يعوقه ارتفاع معدلات بطالة الشباب وارتفاع التضخم.
قال عمار ثاكور، الذي دعم حزب بهاراتيا جاناتا في الانتخابات الماضية والتقى غاندي خلال اجتماع في برهانبور للاستماع إلى التظلمات المحلية: "كفانا كراهية الآن. سأصوِّت لحزبه".
وقال قادة حزب المؤتمر إن رسالة غاندي البسيطة عن الوحدة ترقى إلى أول هجوم أيديولوجي كبير للحزب ضد الفكرة الهندوسية الأولى للهند التي عززها حزب بهاراتيا جاناتا.
وقال جيرام راميش، الوزير الفيدرالي السابق الذي كان يسير مع غاندي: "هذه هي رمية النرد الأخيرة. نحن نضع كل ما لدينا فيه. إذا لم نُحدِث فرقاً من خلاله، فهناك مشكلة بالنسبة لنا كحزب وكأيديولوجيا".
لكن نيويورك تايمز ترى، في تقريرها، أن بصمة مودي على السياسة الهندية لا تُمحَى لدرجة أن غاندي، الذي رفض إجراء مقابلة مع الصحيفة الأمريكية، بدا كأنه يقلده خلال رحلته في جميع أنحاء البلاد حتى عندما قدم نفسه كبديل.
غالباً ما يُزيَّن جبين غاندي بنقطة حمراء، وهي علامة على التقوى الهندوسية. وغالباً ما يشارك في زيارات المعابد والاحتفالات الدينية حيث يتوقف في القرى والبلدات.
هذه المسيرات الطويلة جزء من تقليد سياسي راسخ في الهند يعود إلى النضال من أجل الاستقلال بالبلاد. في التسعينيات، عندما كانت الأدوار معكوسة، كان حزب بهاراتيا جاناتا قد قام بمسيرة مماثلة، إذ احتشدوا حول بناء معبد هندوسي حيث كان يقف مسجد من العصر المغولي. ساعدت تلك المسيرة على إطلاق القاعدة الأيديولوجية لحزب بهاراتيا جاناتا، ومهدت الطريق لصعوده اللاحق.
ليس من الواضح ما إذا كان غاندي قادراً على إعادة حزبه إلى مكانته في السياسة الوطنية. لكن يبدو أنه يعتمد على استراتيجية ذات شقين: يضع نفسه في آن واحد في قلب الجهود لبناء سردية وتوجيه جديد، بينما يخلق بعض المسافة من خلال تسليم رئاسة الحزب إلى شخص من خارج العائلة.
بعد فترات طويلة من الاستياء داخل صفوف حزب المؤتمر بشأن رفض عائلة غاندي تقاسم القيادة، انتخب الحزب في أكتوبر/تشرين الأول، أحد الموالين البالغ من العمر 80 عاماً، كأول رئيس من خارج عائلة غاندي منذ 24 عاماً.