لا صوت يعلو فوق صوت المونديال.. هكذا يتم ترديد هذه الجملة في مختلف بلدان العالم، وبلهجات ولغات مختلفة. لا يهم أن يكون منتخب بلادك ضمن الـ32 منتخباً التي وصلت لهذه النهائيات كي تتابعها بشغف، يكفي فقط أن تكون أحد محبي اللعبة الأكثر شعبية على مستوى العالم للالتفات لهذا الحدث الضخم الذي يجذب انتباه ما يقرب من ملياري إنسان على سطح هذا الكوكب.
ولكن كأس العالم ليست مجرد بطولة يحصل عليها المنتخب الأفضل بعد الفوز في عدة مباريات، ولا يمكن اختصاره في لقب "بطل العالم"، الذي يصحب اسم الدولة الفائزة طيلة 4 سنوات كاملة، ولكنه أيضاً أحد أهم الأحداث التي ساهمت في تشكيل وعي كثيرين ممن يشاهدونه ويشاركون فيه بمختلف مهامهم.
من الطبيعي أن تكون أي رياضة ملهمة بشكلٍ إنساني أو بآخر، لذا فإن اللعبة التي تُلعب بالأقدام، والتي ساهمت في مجد كثيرين ومنحتهم كل لحظات النشوة والسعادة في أوقات الفوز، أو ساهمت في قتل آمال كثيرين ممن تعثروا في مسيرتهم بها، ألهمتنا نحن البشر بكل اختلافتنا وتوجهاتنا للتفاعل معها بشتى الطرق، ومن خلال الكتابة نتوغل في سرد الكثير والكثير عنها، والذي قد يجذب انتباه أكثر المتجاهلين لهذه الأحداث الرائجة واللافتة.
حكاية عامل الغرف: أدب كرة القدم المجهول!
منذ سنوات عديدة دخلت كرة القدم حيز اهتمام الأدباء لسرد حكايات شديدة الثراء والدهشة من الناحية الإنسانية في لعبة ترفيهية من الأساس!
تتكون اللعبة من 11 لاعباً لكل فريق، وعدد أكبر من طاقم فني وإداري وطبي، والعديد من الوسائل التكنولوجية المتعددة والذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات مؤخراً، ولكن كل هذا لن يساوي شيئاً دون جمهور. ومن خلال الأدب الذي التفت فجأة لحجم هذه اللعبة التي تؤثر في قلوب مشجعيها منحتنا القصص صوراً متعددة لتفاصيل هذه اللعبة شديدة الثراء والتعقيد.
في كتاب "حكاية عامل غرف"، الذي ترجمه الكاتب والصحفي المصري "محمد الفولي"، يحكي لنا عدداً من القصص العظيمة من أدب كرة القدم في الأرجنتين بلغة حريصة على شرح أبسط وأعقد الأشياء في الكرة، مع مراعاة روح النص المختار. ومن خلال نجوم في مجال القصة القصيرة أمثال "أوسبالدو سوريانو"، "إدواردو ساتشيري"، "روبرتو فونتاناروسا"، "خورخي فالدانو" و"غوستابو لومباردي" ننظر إلى هذه اللعبة بعيونٍ مختلفة، بحسب رؤية كل كاتب وأبطاله.
يشتهر أدب كرة القدم في أمريكا اللاتينية لعدة أسباب، أبرزها تفوق نجوم هذا الجزء من القارة من الناحية المهارية بشكل فطري، يمارس جميع الأطفال تقريباً هذه اللعبة منذ تعلم المشي في الساحات الشعبية، المدارس، بجوار البيت، وفي الملاعب الصغيرة، الجميع هناك يحلم بالثراء والأضواء والتألق في أوروبا واللعب في أندية كبيرة وانتشال أسرته من الفقر والجوع المحدق بهم دوماً، بالإضافة لأن اللاتينية تبدو من خلال الروايات والقصص هي اللغة المثالية لحكاية أي حكاية يمكن أن تبدأ من حدث غير معلوم، وتنتهي به دون أدنى مشكلة.
في حكاية عامل الغرف، يتم تسليط الضوء أكثر على المهمشين في هذه المنظومة التي تمنح اللاعب وحده كل المجد. يحكي "إدواردو ساتشيري" في قصة "عجوز ينهض واقفاً" عن رجل يشاهد مباراة كرة قدم للاعبين ناشئين فيستحضر ذكرى ابنه المتوفى منذ سنوات طويلة، ومن ثم ينتقل من هذه الذكرى لذكريات عديدة في حياة العجوز، الذي يُسكن آلامه بمتابعة أولئك الناشئين دوماً إلى ملعب المباراة، ويتحدث عن إمكانات كل لاعب وطريقة ملامسته للكرة بطريقة ساحرة تخلو من التقريرية المملة، أو الوصف الزائد. تمنح كل قصة عن الكرة قيمة للكرة، وتُعيد تشكيل أدب جديد من الناحية الفنية، وبُعد آخر من الناحية الإنسانية.
حكايات عن عمال الغرف: نحن فريق واحد
على هامش نجوم الفرق الرياضية تتكون هذه المنظومة الضخمة من كوادر عديدة، أفراد ومؤسسات قد تساهم في نجاح فريق كرة وتعثر آخر.
لا يخلو أي نادٍ أو منتخب كرة قدم من عُمال غرف دائمين مع الفرق بشكل كامل، قد تبدو مجرد وظيفة روتينية عادية، ولكن عند ظهور أفرادها وخروجهم من الهامش إلى متن الحكاية لسببِ أو لآخر نتعرف على كواليس وجوانب مختلفة لهذه المهن المتخفية من أضواء النجومية! في مصر يوجد النادي الأهلي أشهر نادٍ في إفريقيا وواحد من أوائل الأندية في قائمة الأكثر تتويجاً بالبطولات القارية، وبنفس مقدار الشهرة هذه أو أقل بقليل يعرف الجميع قصة "عم حارث" الرجل الذي قضى 47 عاماً داخل أسوار نادي القرن العشرين في إفريقيا، حمل خلالها بطولة دوري أبطال إفريقيا ٩ مرات من أصل ١٠ للنادي الأحمر، بالإضافة للعديد من البطولات المحلية ووجوده في المناسبات الدولية الأشهر مع النادي الأهلي، الذي حصل على برونزية كأس العالم للأندية 3 مرات في تاريخه، وهو الرقم الأكبر في تاريخ أندية إفريقيا.
في القصة الرئيسية التي حملت اسم "حكاية عامل غرف" يحكي "روبرتو فونتاناروسا" عن عامل غرف يحكي عن كواليس مباريات فريقه وظروف عمله، التي تضطره لمتابعة المباراة من خلال جهاز الراديو في غرف تبديل الملابس وعن نظرة نجوم الفريق له والأحاديث التي بالكاد قد يتبادلونها معاً من منظور مختلف تماماً لسرد الحكاية التي تحكي مأساة من وجهة نظر متابع.
يختلط الحديث في المجموعة القصصية بين الحقيقي والمُتخيَّل، فلا يؤكد كل كاتب حقيقة أبطاله أو أحداث قصته ولا ينفيها، هو ينسبها ببساطة للأدب الذي نشأ بدافع حب الكتابة وحب هذه اللعبة، التي يجتمع على عشقها الناس باختلافاتهم المتعددة، فلا يتم التفريق بين عامل وبين لاعب، الجميع على عشق الكرة مجتمع. ربما ما حدث في بعثة المنتخب الياباني خلال نسخة المونديال الحالية المُقامة في قطر يؤكد هذا، فخلال جلسة التصوير الجماعية الخاصة بمنتخب اليابان في المونديال تم تكريم طباخ المنتخب "يوشيتيرو نيشي" بأخذ صورة رفقة الفريق مرتدياً الطقم الرسمي وشارة القيادة.
الرجل الذي بلغ عامه الـ60، والذي اعتاد على تحضير الأطباق الرئيسية التي تسبق المباريات المهمة مثل شريحة لحم هامبرغر وسمك السمور المشوي المنقوع مع عجينة ميسو وسمك الأنقليس
يحرص دائماً على كل التحضيرات لضمان حصول لاعبي منتخب بلاده على أكبر قدر من الفيتامينات. سيتقاعد نيشي مباشرة بعد نهاية كأس العالم بعد مشوار طويل مع المنتخب منذ سنة 2004 رافقه خلاله في 5 نسخ من كأس العالم وسافر مع المنتخب في أكثر من 130 رحلة خارج البلاد.
من أين جئنا: لاعبو الكرة في الحياة الواقعية
القلق الحقيقي ليس نتيجة المباراة المقبلة، القلق الحقيقي هو القلق على مستقبل شخص آخر أنت من أحضرته لهذه الحياة، تلك هي الصعوبة الحقيقية، مهما حدث في ملعب كرة القدم، فهو لا يقارن بما قلته أعلاه.
يورجن كلوب في كلمته عند الحصول على لقب أفضل مدرب في العالم.
مع استمرار كرة القدم على رأس قائمة الألعاب الأكثر شعبية وجماهيرية حول العالم، بات الجميع منشغلاً بمعرفة المزيد عمن يمثلونهم بقمصان فريقهم المفضل أو مدربيهم، وفي عصر الاحتراف تجد الآن لاعباً من السنغال ومدرباً من أوروبا ومساعداً له من أمريكا اللاتينية، جميعهم قد يكونوا جزءاً من فريق عربي أو أوروبي أو حتى منتخب وطني! يجتمع كل هؤلاء من أجل بناء منظومة متكاملة لجلب البطولات التي تجلب الأموال بدورها، ولكن لإسعاد وتلبية رغبة الجماهير في الأساس. جميع هؤلاء ينحدرون من بيئات اجتماعية مختلفة بشكل كلي أو جزئي، ولكنهم بشر يمارسون هذه المهنة في الأساس للحصول على سُبل عيش ملائمة لهم ولذويهم، في حديث يورجن كلوب، وهو يبكي من فرحته عند حصوله على لقب أفضل مدرب في العالم عام 2019، أشار إلى أسرته التي كان مسؤولاً عنها في عمر العشرين. قد تمنح الكرة المجد لكل من صمدوا في وجه اليأس والإحباط والإصابات، ولكنها أيضاً خيَّبت ظن الكثيرين ممن لم يبتسم لهم الحظ، يقول دينيس بيركامب، اللاعب الهولندي عن بداياته:
"كنت وحيداً معظم الوقت. أركل الكرة ضد الجدار، وأراقب كيف ترتد، وكيف سأسيطر عليها. وجدت الأمر مثيراً للاهتمام. جرّبت ركل الكرة بكل الطرق، بقدم واحدة ثم بكلتا القدمين، بباطن القدم ووجه القدم وخارج القدم. أحاول التحكم في الإيقاع: تسريعه أو إبطائه. ربما أقرر أن أركل الكرة في قالب قرميد معين من الحائط. لاحقاً، اقتنعت بأن كل تمريرة يجب أن يكون وراءها فِكر ما. لذا، عندما أركل الكرة في الجدار، ألعب لعبة الاحتمالات الناتجة من ارتداد الكرة. كنت مفتوناً بكيفية تحريك الكرة والسيطرة عليها".
يشير بيركامب للتكرار من أجل الحصول على محاولة ناجحة، ومن ثم التمكن منها، لم تعد الكرة في هذا العصر مجرد كرة منفوخة يركض خلفها 22 لاعباً من أجل التسلية أو جلب المال، ولكنها مهنة شديدة القسوة في بعض تفاصيلها تتطلب الكثير من التضحية.
"الناس يعتقدون أننا موجودون لمطاردة الكرة لتسعين دقيقة في نهاية كل أسبوع، لكننا بشرٌ أيضاً، ويتعين على الكثير منا التعامل مع كوننا بعيدين عن أحبائنا. يا رجل الثمن لذلك باهظٌ ، خاصةً حين تأتي من بعيد مثلي. حينها لا ترى أصدقاءك وهم يكبرون، ولا يمكنك التعرف على أطفالهم، عندما يمرض أجدادك لا يمكنك الحضور بقربهم ومساعدتهم".
"رافينيا دياز"، لاعب برازيلي
يحكي كل لاعب قصته الإنسانية حينما يسمح له القدر، حينما يصل لقمة المجد الشخصي فقط يمكنه أن يحتفل ويتم التقاط الصور له وإتاحة مساحة خاصة له على شاشات التلفاز أو المجلات ليتحدث عن الصعوبات التي عانى منها في حياته ليصل لنا نحن في أقصى مكان في العالم بالنسبة إليه، بالطبع نحن لا نعشق كل لاعبي الكرة، لأن لكل لاعب طريقته وأسلوبه، وكذلك لكل مشجع هواه الخاص، ولكن الكرة في حد ذاتها هي المبتغى، هي النجم الخاص لعشاقها في كل مكان مهما اختلفت المواقع، قد تقسو الكرة أحياناً، وقد نشتاق إليها كشوقنا لكأس العالم التي ننتظرها مرة كل 4 سنوات، ولكنها فن خاص لعُشاقها لا يمكن التخلي عنه.
"عندما يتحدّث الناس عن كرة القدم، في الغالب يتحدّثون عن الأموال أو البطولات، لكن كرة القدم توفّر أشياء أخرى لصغار السن، توفّر لهم تجربة الحياة الحقيقية، وأحياناً الحياة تكون صعبة".
"خوان ماتا"، لاعب إسباني
من إفريقيا ما زال الناس يذكرون "جورج ويا" كلاعب ليبيري مهاري، وليس كرئيس جمهورية بلاده حالياً، وفي الأرجنتين الجميع غفر لمارادونا أخطاءه كمدرب، لأنه من جلب لهم كأس العالم عام 1986، وفي مصر نحب نحن من لم نشاهد "حسن شحاتة" كلاعب كرة موهوب، نحبه كمدرب حفر اسم مصر كبطل لقارة إفريقيا 3 بطولات على التوالي، وفي البرازيل يطلقون اسم "رونالدينيو" على اسم كل موهوب يلمس الكرة بفن، آملين في نجاحه وشهرته مثل صاحب الاسم الذي اشتهر على أنه أمهر لاعب في تاريخ اللعبة. يمكنني أنا أيضاً طرح سؤال يورجن كلوب في خطابه المؤثر: هذه اللعبة في الأساس لمن؟
إنها، وكما قال يورجن كلوب، للحالمين، لمن يحلمون بمستقبل أفضل، وجميعنا نعلم ذلك..
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.