تمثل العملية العسكرية التركية المرتقبة في الشمال السوري أزمة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، خاصة أن طرفي الصراع في هذه الأزمة هما حليفان مع الفارق في الأهمية لواشنطن، فتركيا الآن تمثل المنفذ الغربي الوحيد على الحرب في أوكرانيا ووسيط العلاقة مع روسيا، وأيضاً الفصائل الكردية لعبت دوراً محوروياً بالنسبة للإدارة الأمريكية في حربها على تنظيم الدولة الإسلامية "داعش".
تختبر العملية العسكرية التركية الوشيكة مساعي الولايات المتحدة لتحقيق التوازن بين الأكراد الذين تراهم شريكاً مهماً في مكافحة الإرهاب بمنطقة الشرق الأوسط وحليفتها تركيا ذات الأهمية المحورية جغرافياً وسياسياً في الحرب الجارية بأوكرانيا، بحسب تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
ما هي نقاط الخلاف بين واشنطن وأنقرة؟
يكمن الخلاف بين أنقرة وواشنطن في الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة لما يُعرف بـ"قوات سوريا الديمقراطية"، وهي ميليشيا ذات أغلبية كردية اتخذتها واشنطن شريكاً لها في قتال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
أما أنقرة، فتقول إن قوات سوريا الديمقراطية ليست إلا امتداداً لحزب العمال الكردستاني، الذي يقاتل تركيا منذ عقود بدعوى الاستقلال وإنشاء دولة كردية. وتصنف الولايات المتحدة "حزب العمال الكردستاني" منظمة إرهابية، لكنها تأبى قطع العلاقات مع قوات سوريا الديمقراطية، بزعمِ أنها كانت أكثر القوات القتالية فاعلية في محاربة تنظيم الدولة.
شنَّت تركيا أول عملية عسكرية لها في سوريا عام 2016، وكانت الغاية منها حرمان المقاتلين الأكراد من اتخاذ قاعدة لهم على طول حدودها. ثم أعقب ذلك عمليتان عسكريتان أخريان في عام 2018 وعام 2019، ما هيَّأ لتركيا والميليشيات العربية المتحالفة معها السيطرة على مساحات كبيرة في شمال الأراضي السورية.
تهدد تركيا بشن عملية عسكرية برية منذ شهور، لكن حملتها المدفعية والجوية على المنطقة تسارعت بعد هجوم إرهابي شهدته إسطنبول في نوفمبر/تشرين الثاني وأسفر عن مقتل 6 أشخاص وإصابة عشرات. واتهمت تركيا حزب العمال الكردستاني والمجموعات المرتبطة به بشنِّ الهجوم، إلا أن الحزب وقوات سوريا الديمقراطية أنكرا تورطهما.
سعت الولايات المتحدة إلى الحدِّ من التصعيد بين الطرفين خلال التوترات السابقة، لكن خبراء ومسؤولين أمريكيين شككوا في إمكان نجاح مساعي الوساطة التي تبذلها واشنطن هذه المرة. وقال أندرو تابلر، الزميل الكبير بين باحثي معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى وكبير مستشاري الشؤون السورية السابق بمجلس الأمن القومي الأمريكي، لموقع Middle East Eye، إن "معضلة الولايات المتحدة في هذا السياق أن لديها أزمة أكبر يجب حلها في أوروبا، وهي تحتاج إلى مساندة تركيا في أمور أخرى، لذا كان ردُّها على هذا التوغل المحتمل خافتاً للغاية".
تمكنت تركيا من الحفاظ على روابطها بكلا الجانبين المتنازعين في الحرب الروسية الأوكرانية. والرئيس رجب طيب أردوغان من زعماء الناتو القلائل الذين لا يزال لهم تواصل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وشهدت الأراضي التركية كثيراً من اللقاءات التي عقدت بين قادة المخابرات الروسية والأمريكية، وأسهمت أنقرة في التوسط لاتفاق الحبوب الذي جاء برعاية الأمم المتحدة لتأمين خروج إمدادات الحبوب عبر البحر الأسود.
قال جوناثان لورد، مدير برنامج أمن الشرق الأوسط في مركز "الأمن الأمريكي الجديد" والمسؤول السابق بالبنتاغون، لموقع MEE: "لا يمكنك فصل ما يحدث في شمال سوريا عن السياق السياسي العام [المرتبط به]"، و"لا شك في أن أنقرة لديها مخاوف أمنية طويلة الأمد حيال نشاط حزب العمال الكردستاني، لكن ما تفعله الآن يقوِّض قدرتنا [الأمريكيين] على مواجهة تنظيم الدولة".
وزعمت الولايات المتحدة أن قواتها وقعت بالفعل في مرمى النيران. فقد شنت تركيا الأسبوع الماضي غارة بطائرة مسيرة على قاعدة في الحسكة بسوريا على بعد 300 متر من القوات الأمريكية، وقال البنتاغون إن الضربة "هددت القوات الأمريكية تهديداً مباشراً"، وإن لم تذكر اسم حليفتها في الناتو.
قال متحدث باسم البنتاغون يوم الثلاثاء 29 نوفمبر/تشرين الثاني، إن "استمرار النزاع، وخاصة التوغل البري، يهدد بشدة المكاسب التي حققها العالم بشق الأنفس ضد تنظيم داعش، ويزعزع استقرار المنطقة".
لكن ثمة ما يثير التساؤل في هذه السردية الأمريكية، فإلى أي مدى ما زال تنظيم الدولة الإسلامية فاعلاً في سوريا أو في غيرها منذ القضاء بشكل يقارب النهائي على داعش نهاية عام 2017 ولم يبقَ من الخلايا المسلحة منه شيء.
الحيرة الأمريكية.. من ستدعم؟
من جهة أخرى، فإن العملية العسكرية التركية الوشيكة تختبر روابط واشنطن بشريكها القديم [الأكراد] في مكافحة الإرهاب بوقتٍ انصرف فيه الاهتمام الدولي عن سوريا. وقال سام هيلر، الخبير في شؤون سوريا بـ"معهد القرن" في بيروت، لموقع MEE: "لم يعد احتشاد الرأي العام للحملة على تنظيم الدولة الإسلامية يوازي نظيره الموجه لدعم أوكرانيا اليوم".
من جانب آخر، استغاثت ميليشيا سوريا الديمقراطية علناً بمزيد من المساندة من الولايات المتحدة، وطالب قائدها مظلوم عبدي مراراً بخطاب أمريكي "أقوى" لوقف الهجوم التركي. وزعم التنظيم أنه أوقف عملياته ضد داعش للتركيز على تدابير التصدي لأي هجوم تركي. وقالت وزارة الدفاع الأمريكية يوم الثلاثاء إنها قللت الدوريات في شمال سوريا بسبب تخفيض ميليشيا سوريا الديمقراطية للقوات المشاركة فيها.
ومع ذلك، فإن نفوذ ميليشيا سوريا الديمقراطية على الولايات المتحدة أقل بكثير من نفوذ أنقرة. وقالت ناتاشا هول، الزميلة الكبرى بين باحثي برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إن "قوات سوريا الديمقراطية تستخدم ورقة الضغط الوحيدة لديها لإقناع الأمريكيين ببذل وسعهم لوقف التوغل التركي وحمايتهم".
وزعمت هول أن قوات سوريا الديمقراطية "في حالة تأهب دائم" منذ أن سحبت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب قواتها من شمال سوريا، ومن المنطقي القول إن الشك زاد بعد انسحاب إدارة بايدن من أفغانستان، "فقد حصلوا على ضمانات، لكن إذا نظرنا إلى حملة الضغط والعلاقات العامة التي يُجرونها، يتبين لنا أنهم يدركون أن هناك درجات مختلفة من المساندة والحماية، وهم لا يستبشرون بالخير حين يقول البنتاغون إن لتركيا الحق في الدفاع عن حدودها الجنوبية".
قال تابلر، المسؤول السابق بمجلس الأمن القومي الأمريكي، إن قوات سوريا الديمقراطية تعمل على إظهار أنها لا تزال "شريكاً لا غنى عنه" للولايات المتحدة في محاربة داعش، حتى وإن قلصت مشاركتها في العمليات. "فقوات سوريا الديمقراطية ليست بأهميتها السابقة لدى الولايات المتحدة حالياً. لكن السؤال لا يزال قائماً: من يبقى تنظيم الدولة تحت السيطرة؟ هناك خياران: إما تركيا وإما قوات سوريا الديمقراطية. تريد تركيا حزاماً أمنياً يمتد على طول حدودها، لكنها لا تريد التوغل على طول نهر الفرات والتورط في عمليات مكافحة الإرهاب".
قالت هيلر، من معهد القرن ببيروت، إن تركيا تفاوضت مع روسيا وإيران قبل إجراء العمليات العسكرية السابقة ضمن اتفاق أستانا.
استخدمت موسكو الاضطرابات السابقة لترسيخ مكانتها في موقع الوسيط القوي بسوريا، وأشرفت على تثبيت الاتفاقات التي شهدت حصول تركيا ونظام بشار الأسد على مزيد من الأراضي واستبعاد الأكراد. ويقول خبراء إن نفوذ الكرملين لم يضعف أو يتأثر بما تواجهه من انتكاس في أوكرانيا. وقالت هيلر: "روسيا لديها حالياً نفوذ أكبر لإقناع تركيا بالمضي قدماً في توغلها من عدمه، وليس الولايات المتحدة".
قال أردوغان الأسبوع الماضي إن تركيا تنوي استهداف مناطق شمال غرب سوريا، عين العرب ومنبج وتل رفعت. ومنطقتا منبج وتل رفعت خارج نطاق العمليات العسكرية الأمريكية، وهذا اختلاف مهم عما كانت عليه الأمور عام 2019، حين كانت العملية تقتضي انسحاب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا للسماح بالتوغل البري التركي.
أما عن موقف الولايات المتحدة من مطالب قوات سوريا الديمقراطية، فيقول خبراء إن المرجح أن تخيب مساعي الميليشيات الكردية. وتقول هيلر: "الولايات المتحدة لن تراهن على قوات سوريا الديمقراطية في مواجهة الأتراك على النحو الذي يضغط الأكراد من أجله. إنه أمر غير معقول. لقد اقتطعت تركيا مساحات كبيرة من الأراضي التي كانت تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية من قبل، واستمرت علاقات الميليشيا بالولايات المتحدة رغم ذلك".