ربما يتمكن منتخب ألمانيا من تدارك الموقف والتأهل لدور الـ16 بكأس العالم في قطر، لكن المؤكد أن فريق الماكينات فقد كثيراً من هيبته وجماهيريته أيضاً، ولهذا السقوط أسباب داخلية، أبرزها أزمة هوية يعاني منها اللاعبون المهاجرون، واسألوا مسعود أوزيل.
وتعتبر ألمانيا واحدة من أقوى دول العالم في صناعة كرة القدم بشكل عام، وشارك "المانشافت" أو كتيبة الماكينات، وهو اللقب الرسمي للمنتخب، في 20 نسخة من المونديال، ولم يغب إلا عن بطولتي 19390 و1950 وكان ذلك لأسباب سياسية. حقق المنتخب الألماني لقب كأس العالم أربع مرات، أعوام 1954 و1974 و1990 و2014، كما لعب نهائي المونديال في أربع نسخ أخرى دون أن يحالفه الحظ، في أعوام 1966 و1982 و1986 و2002.
لكن خلال نسخة كأس العالم 2018 في روسيا، غادر المانشافت، حامل اللقب، البطولة من دور المجموعات بعد أن فاز على السويد بهدفين لهدف ثم خسر أمام المكسيك بهدف نظيف، وتكررت الخسارة أمام كوريا الجنوبية في المباراة الثالثة بهدفين نظيفين، في واحدة من أكبر مفاجآت البطولة.
وخلال النسخة الـ22 من كأس العالم 2022 في قطر، البطولة الأولى في بلد عربي، افتتح المانشافت مباريات مجموعته بهزيمة مدوية أمام اليابان، ثم تعادل بصعوبة بالغة مع إسبانيا بهدف لكل منتخب، وتنتظر الألمان مباراة ثالثة أمام كوستاريكا لتحديد مصير المجموعة. وإذا ما تعادلت اليابان وإسبانيا ستغادر ألمانيا البطولة من دور المجموعات للمرة الثانية على التوالي، فماذا حدث؟
العنصرية في ألمانيا
دعونا نبدأ القصة من كوريا الجنوبية، التي ألحقت الهزيمة بالمانشافت في النسخة الماضية من كأس العالم في روسيا. فمن المفارقات أنَّ أحد اللاعبين الكوريين الجنوبيين في الفريق الكوري الجنوبي علق بعد تلك المباراة بأنه كانت لديه أسبابه الخاصة كي "ينتقم" من الألمان.
ففي حديث لصحيفة Daily Mail البريطانية في وقت سابق من هذا العام، كشف الفائز بالحذاء الذهبي الكوري الجنوبي ومهاجم توتنهام د، سون هوينغ مين، عن العنصرية التي تعرض لها عندما كان لاعب كرة قدم مراهقاً بعد انضمامه إلى فريق شباب هامبورغ في عام 2010.
وقال إنَّ أكثر لحظات مسيرته التي لا تنسى كانت انتصار كوريا الجنوبية المذهل على ألمانيا وكيف شعر بأنه ينتقم لسنوات العنصرية التي عانى منها أثناء اللعب في ألمانيا.
وتناول تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني تفاصيل هذه العنصرية التي يتعرض لها المهاجرون في ألمانيا، وبصفة خاصةٍ الأتراك، في تقرير عنوانه "أزمة الهوية بين المهاجرين تُخيِّم على كرة القدم الألمانية"، وهي الأزمة التي أجبرت أحد أبرز اللاعبين الألمان في الجيل الحالي، وهو الألماني من أصل تركي مسعود أوزيل، على اعتزال اللعب للمانشافت.
ورصد الموقع البريطاني قصة سيزغين أكساكال، وهو أب ألماني من أصل تركي، كان لاعباً سابقاً في خط وسط نادي فريق هرتا برلين، وهو الآن عنصر دائم الحضور في تدريب ابنه البالغ من العمر 11 عاماً على كرة القدم.
ويهتف لاعب خط وسط هيرتا برلين السابق للفريق بشغف، على أمل إلهام أحد الشباب ليحاكي المسار الذي حدده لنفسه هو ومحمد شول، لاعب كرة القدم التركي المولود في ألمانيا الذي فاز بثمانية ألقاب غير مسبوقة مع نادي بايرن ميونيخ، العملاق البافاري وأحد كبار الأندية الأوروبية.
وقال أكساكال لموقع Middle East Eye البريطاني، إنه نادٍ جميل، وأضاف هامساً: "إنه نادٍ صغير. لا توجد عنصرية هنا. وهم أناس طيبون وعادلون ومتسامحون مع الآخرين".
ووقع كلماته صادق؛ فعند النظر عبر خط التماس، هناك عدد قليل من الأمهات اللواتي يرتدين الحجاب عند أرض معشبة بشكل جميل، تقع على بعد أميال قليلة من حي نويكولن الذي غالبية سكانه من أصول تركية.
كرة القدم شغف الأتراك في ألمانيا، ولكن!
تتمتع كرة القدم بجاذبية قوية عبر الأجيال في ألمانيا، لكن بالأخص داخل المجتمع التركي في برلين. وشهد الدوري الألماني (البوندسليغا) صعوداً هائلاً للنجوم الأتراك المولودين في ألمانيا مثل مسعود أوزيل وإلكاي غوندوغان. ومع ذلك، يرى سيزغين أنَّ نقاط كرة القدم المتأثرة بالأقلية أو الأتراك تطورت إلى نضالات محلية من أجل التعددية الثقافية التي غالباً ما تغفلها مناقشات الاندماج.
وقال إنَّ الأولاد الأتراك كانوا يعرفون موقعهم في المجتمع خلال فترتي الثمانينيات والتسعينيات. وأوضح: "في الأيام الخوالي، كان أمام شخص مثلي مشكلتان: أولاً، كنت تركياً، وثانياً، كنت مسلماً".
كان سيزغين مصدر إلهام مبكراً للعديد من الأطفال الألمان الأتراك الصغار، وبينما لم تتحقق أحلامه باللعب للمنتخب الوطني، فإنه يأمل أن يحظى جيل ابنه بفرصة متكافئة.
يعيش ما يقرب من 3.7 مليون شخص تركي أو من أصل تركي في ألمانيا، لكن أكبر أقلية في البلاد لا تزال مهمشة للغاية. إذ إنه وفقاً لإحصاءات الحكومة الألمانية لعام 2016، فإنَّ 246 ألفاً فقط من الأتراك الألمان يحملون الجنسية الألمانية؛ وهو ما يؤدي إلى معاناة كثيرين من أزمة هوية، حسبما قال سيزغين بأسف.
وأضاف أنَّ عدة أجيال من الأتراك يعيشون في ألمانيا ببطاقات إقامة طويلة الأمد أو دائمة؛ مما قد يشير إلى سبب قلة الولاء أو انعدام الولاء لألمانيا.
قالت أصليهان يسيلكايا، الرئيسة المشاركة للرابطة التركية في ألمانيا، لموقع Middle East Eye: "من بين المشكلات التي يواجهها المجتمع بدرجاتها المتفاوتة، فإنَّ أزمة الهوية كبيرة بين الأتراك الألمان".
وأضافت أصليهان: "في استطلاع حديث لمناهضة العنصرية، قال 65% من المستجيبين إنهم تعرضوا للتمييز أو يعرفون شخصاً تعرض له. في كل مرة حاولنا التحدث فيها عن العنصرية والتمييز، نتعرض للتجاهل. ألمانيا لديها مشكلة مع العنصرية الهيكلية؛ فهي حاضرة في المدرسة ومكان العمل وفي المجتمع".
وفقاً لتقرير وكالة التوظيف الفيدرالية لعام 2019، فإنَّ 46% من 2.27 مليون عاطل عن العمل في ألمانيا يمثلون مجتمعات الأقليات العرقية، على الرغم من حقيقة أنَّ هذه المجتمعات لا تشكل سوى 23% من السكان.
ووجدت الوكالة أيضاً أنَّ الأشخاص الذين يحملون "أسماء تبدو أجنبية" لديهم فرص أقل بنسبة 24% من أولئك الذين يحملون أسماء ألمانية لإجراء مقابلات عمل. قالت أصليهان: "الجالية الألمانية التركية تعاني من صدمة مستمرة بين الأجيال. قصص التمييز والعنصرية الممتدة مدى الحياة شائعة".
ولاءات منقسمة؟
بالعودة إلى ملعب كرة القدم، يحمل سيزغين تفاؤلاً حذراً بشأن مستقبل ابنه. وقال للموقع البريطاني: "لاعبون مثل أوزيل وآخرون فتحوا الباب لأطفالنا. الآن، نأمل أن يتمكنوا هم أيضاً من اللعب لأندية أكبر والمنتخب الوطني. لكن حتى مع أوزيل عندما كان يلعب جيداً كان ألمانيّاً، وعندما لم يفعل، كان تركيّاً!".
كان أوزيل قد تعرض لانتقادات متجددة بعد خسارة ألمانيا أمام كوريا الجنوبية بهدفين مقابل لا شيء في كأس العالم 2018 والخسارة في دور المجموعات، فضلاً عن لقائه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
واضطر نجم ريال مدريد وأرسنال السابق إلى اعتزال اللعب للمنتخب الألماني، مرجعاً السبب إلى "العنصرية وعدم الاحترام" اللذين واجههما، ودافع عن حقه في لقاء أردوغان. وكتب على تويتر: "بالنسبة لي، لا تتعلق الصورة مع الرئيس أردوغان بالسياسة أو الانتخابات، بل تتعلق باحترام أعلى منصب في بلد عائلتي".
وأضاف أوزيل: "وظيفتي هي لعب كرة قدم وليست سياسية، ولم يكن اجتماعنا تأييداً لأية سياسات. المعاملة التي تلقيتها من الاتحاد الألماني والعديد من الآخرين تجعلني لم أعد أرغب في ارتداء قميص المنتخب الألماني. أشعر بأنني غير مرغوب فيه وأعتقد أنَّ ما حققته منذ أول ظهور دولي لي في عام 2009، صار طي النسيان".
بينما يحلم سيزغين بأن يلعب ابنه للمنتخب الألماني، يعترف: "يجب أن يقدم الأولاد المنتمون للأقليات أداءً أفضل بدرجة ملحوظة من الأولاد الألمان البيض للانضمام إلى أي فريق".
الخلاصة هنا هي أن العنصرية ومعاداة المهاجرين بشكل سافر، وهي سمات مرتبطة بوقوع أغلب الدول الأوروبية- ومنها ألمانيا بطبيعة الحال- في قبضة اليمين المتطرف، تعتبر أسباباً مباشرة وراء سقوط المانشافت في المونديال، إضافة بالطبع إلى الانشغال بأمور أخرى، مثل قضية حقوق ما يعرف باسم مجتمع الميم، وهو ما أفقد الفريق تعاطف الجماهير ليس في العالَمين العربي والإسلامي فحسب، والدليل ما قاله أبرز لاعبي كوريا الجنوبية.