طفولتي مع جارة القمر
كانت هواية أبي الأولى كتابة مخطوطات بالخط العربي الأصيل، بكافة منحنياته وتفاصيله، وكذلك الرسم الحر في المطلق في الليالي الطويلة التي كان يقضيها على منضدة السفرة الدائرية في منزلنا، حيث لم يكن يخفت في الخلفية أبداً صوت جارة القمر السِّت "فيروز".
في غرفة أبي "كومدينو" معبأ عن آخره بشرائط كاسيت فيروز وعبد الوهاب ونوادر بسيطة لأم كلثوم.. لكن النصيب الأكبر كان لفيروز، بمختلف إصداراتها الدمشقية والمصرية والبيروتية.
كنت أركض خلف أبي وحوله، وفيروز تُدندن في منزلنا كثيراً: "اسهر بعد اسهر- تَ يحرز المشوار" بنغمتها الهادئة للغاية و"سلم لي عليه وقله إني بسلم عليه".
عشرات من مقطوعات فيروز لم تلفت انتباهي طفلاً، لكن وحدها نغمة "طيري يا طيارة طيري" مع صوت فيروز النَّدي هي التي أخذت بيدي إلى عالم أبي الذي كان عَصيّاً عليّ، سمعتها للمرة الأولى في مسلسل "امرأة من زمن الحب"، حين حَطت الفنانة سميرة أحمد في بيروت باحثة عن ابنها هشام سليم المختطَف، كانت التاسعة مساء إلا ربع الساعة قبل نهاية الحلقة المثيرة من المسلسل بدقائق، حين تنامت الأغنية إلى مسامعي، وصوت الأطفال يرددون خلف فيروز "طيري يا طيارة طيري يا ورق وخيطان"، هنا شعرت تماماً أن فيروز تغني لي وتستهدفني تماماً، وتسيطر على طفولتي وهي تشدو "لو فين نهرب ونطير مع ها الورق الطاير".
نظرت إليّ جدتي الكائنة تحت البطانية الحمراء احتماءً من برد الشتاء، وسألتها مستفسراً بنصف ابتسامة وعين منبهرة عن الأغنية التي كان يردد الأطفال في خلفيتها في نهاية المسلسل مع كادر عين صقر من طائرة لبيروت، فأخبرتني: "دي فيروز" اكتملت نصف ابتسامتي وهرولت من تحت البطانية صاعداً إلى الطابق الأعلى، حيث أبي يرسم في الصالة، وأخذت ألحّ عليه "عاوز أغنية الطيارة، أغنية الطيارة "لم يفهم أبي للوهلة الأولى أي طائرة أقصد، وأي أغنية أريد، حتى شرحت له تفصيلاً ورددت عليه ما تبقى من اللحن في رُوحي الطفولية، فعلت ضحكته وأخذني معه وجلسنا أرضاً جوار السرير، فتحنا "الكومدينو"، وأخذنا نبحث وسط شرائط فيروز عن "طيري يا طيارة طيري" حتى حصلنا عليه فوق أحد شرائط عبد الوهاب، ومن ثَم شغل أبي الشريط وأعاد الأغنية مرات ومرات وأنا أجلس على منضدة السفرة أتابع وصله للخطوط كي يصنع رسماً بديعاً، وكانت هذه واحدة من أسعد ليالي طفولتي وارتباطي الأول بفيروز صوتاً ولغةَ وشعوراً.
تراتبت علاقتي بفيروز في المرحلة الابتدائية على جلسات الرسم الليلة مع أبي، وكنت شديد الإلحاح في طلب "طيري يا طيارة طيري، زهرة المدائن، شط اسكندرية"، ولم يخذل أبي ذوقي الطفولي النمطي المتكرر أبداً.
سنوات طويلة مَرت بعد وفاة أبي، تخطت الثلاثة عشر عاماً الآن، ها أنا الآن مهاجر وبعيد عن قريتي الصغيرة في المنصورة، وأتابع طويلاً برد أوروبا من حولي، وإذ بي يضربني الحنين إلى أيامي الخوالي مع أبي وصوت فيروز عبر شرائط الكاسيت، ومن هنا خُضت مغامرة بحثية طويلة، من أكثر المغامرات حباً لقلبي في السنوات الأخيرة، وبدأت رحلة البحث عن شرائط كاسيت لفيروز، في البداية كانت الفكرة تبدو لي بعيدة المنال، لكنني داومت على الاستمرار.
جولة العواصم العربية بحثاً عن شرائط كاسيت فيروز
في البداية بحثت عن مكتبات صوتية عبر مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، وقادنى البحث إلى عدد من محلات الأنتيكة في القاهرة تملك شريطاً أو اثنين، وفي أقصى تقدير 5 شرائط لا أكثر، وبعضهم لا يعمل، ويباع فقط كأنتيكة.
انتشر الأصدقاء والمعارف من المحبين في المنصورة والإسكندرية بحثاً عن صوت فيروز يتهادى في إحدى زوايا المدينتين القديمتين، وما من أثر مطلقاً لشريط واحد..
جولة بيروت
لم أجد سوى صديقي المخرج اللبناني نبيل المنزلاوي، تواصلت معه بعد انقطاع ليس بكثير وسألته عن إمكانية الحصول على مجموعة كاملة لشرائط كاسيت السيدة فيروز، صمت قليلاً مستغرباً طلبي، لكنه لم يتأخر ووعدني بالبحث في بيروت.
انتظرت 3 أسابيع كي أحصل على رد نبيل، جاء في البداية إيجابياً وأن أحداً في الحمراء ببيروت يخفي مجموعة كاملة لشرائط فيروز، تهللت أساريري وشكرت نبيل كثيراً، إلا أنه عاد لي بعد أيام بعد اتصال من البائع الذي وعده بتوفير الشرائط يعتذر له بأن المجموعة غير متوفرة، واعتذر لي نبيل أنه لم يستطع تلبية طلبي، وأنهى المكالمة: "شو بدك بالشرايط، روح اليوتيوب يا حُب".
جولة دمشق واللاذقية
لم أفقد الأمل، فقصدت صديقي ملهم تمراز، مهندس الصوت السوري، وسألته عن بائع شرائط كاسيت بدمشق قادر على جمع أكبر قدر من شرائط فيروز كي اشتريها منه، لكنه مازحني قائلاً "لك ولو شو سَكر اليوتيوب؟!".
تجاوزت مزحته وأخبرته بجدية بأن يبحث قدر استطاعته عن الشرائط وبأي ثمن، وكأن التحدى زاد في رُوحي أن أسمع فيروز على شرائط الكاسيت مرة أخرى.
لم يتأخر ملهم، وبعث الرسل في حواري دمشق جميعها، من أبناء عمومته وإخوته كي يبحثوا عن فيروز في زوايا الحميدية وشارع الثورة وخالد بن الوليد، لكنه لم يأتِ منها بشيء مطلقاً ولو شريط كاسيت واحد، ولولا أن تربطني بملهم علاقة صداقة تمتد لسنوات وإنه لم يرد أن يخذلني، فأعاد البحث في محيط عائلته وأقاربه، وأخذ يجمع شريطاً من هنا وآخر من هناك حتى جمع 5 شرائط كاملة تعمل، وللمصادفة الجميلة أنها وصلتني فيروز الثامن والثمانين.
في خضم بحثي الموازي عن فيروز عبر الفضاء الإلكتروني قابلتني مكتبة "دار الألحان" في طرطوس بمحافظة اللاذقية السورية، وهي مكتبة عتيقة لبيع شرائط الكاسيت القديمة، تهللت أساريري وحاولت التواصل بشتى الطرق مع المكتبة كي أحصل منها على أكبر قدر ممكن من الشرائط، لم يردّ أحد على الرقم الخاص بالمكتبة ،وقرأت في أحد التعليقات أنها أُغلقت بعد وفاة صاحبها من شهور.
هَزيمة أخرى في طريق البحث عن شرائط الكاسيت لفيروز تأتيني من طرطوس بعد بيروت وشُح ما أتاني من دمشق.
كلمة السر أتت من بغداد
تعمّقت أكثر عبر فيسبوك، بحثاً حتى وصلت لمجموعة مغلقة لهواة بيع شرائط الكاسيت القديمة، قُبلت عضويتي بالمجموعة، ومن ثم دخلت إلى نفق زمني على الأغلب حيث وجدتني بين عشرات من هواة شرائط الكاسيت وأصحاب المجموعات النادرة لكل المطربين العرب تقريباً الأكثر شهرة والأكثر اندثاراً، شرائط لمطربين كويتيين، يمنيين، سعوديين، عراقيين، مغاربة، حتى موريتانيا البعيدة عنا في الغرب صادفت عدداً من أبنائها المهتمين بشرائط الكاسيت، ويعرضون عدداً من هذه الشرائط لمغنين تراثيين كلاسكيين لم أسمع بهم من قبل، ولم يسمع بالطبع ملايين من الشباب العرب بهم.
كتبت منشوراً عن مدى إعجابي بالمجموعة، وشعوري بالتوحد مع مشاعرهم وثقافتهم في حب شرائط الكاسيت القديمة، وسألت عن شرائط قديمة للسيدة فيروز للبيع، فأتاني الرد سريعاً من حساب القيصر، وهو شخص عراقي من هواة الشرائط الكاسيت القديمة يقطن عاصمة العباسيين القديمة ببغداد، وكتب: "أخي موجود أي كمية.. احنا بالخدمة".
وهنا تلقفت طرف الخيط، تواصلت معه، ومن ثم بدأت بيننا مكالمة فيديو فتح لي بها الباب على مرادي، حيث يحتفظ بعشرات الشرائط لكل المغنين العرب، ومنهم فيروز.
كنت مندهشاً بكمّ الصناديق التي يحتفظ بها بكل هذه الشرائط، أخبرته أن يجمع لي كل ما لديه من شرائط فيروز، فأخبرني بأن أمهله ساعة وبعدها عاد لي بـ31 شريطاً لفيروز، كنت في غاية السعادة ببلوغي لهذه المرحلة، اتفقنا على السعر سريعاً، ووقفنا على كيفية وصولها إليّ، وهنا كانت المشكلة التالية، استاذنته أنا بعض الوقت كي أرتب طريقة الوصول.
وهنا تواصلت مع صديقي الوَفي لكثير من العيش والملح والعشرة، مصطفى جاسم، مدير التصوير والمونتير المحترف في كربلاء، وأخبرته القصة كاملة، فلم يكن الوحيد الذي لم يستغرب طلبي، ولا كل هذا الوقت الذي أنفقته بين العواصم العربية بحثاً عن صوت فيروز في شريط كاسيت.
أخبرني أن أرسل له رقم صاحب الشرائط في بغداد، وهو سيهتم بالموضوع تماماً، وبالفعل تواصل مع القيصر، لكن تأخر وصول الشرائط من بغداد إلى كربلاء بسبب أحداث ومظاهرات في الداخل العراقي أغلقت طرق الوصول بين المدينتين، وكنت حينها على تواصل يومي مع مصطفى، إلى أن وصلت الشرائط بعد عناء، وأخبرته بموعد زيارتي لمدينة إسطنبول كي يقوم بشحن الشرائط مع أحد باصات نقل الأفراد التي تصل إسطنبول يومياً من العراق، لم يوفق مصطفى في إرسالها بسبب بعض الاضطرابات التي نتجت عن التظاهرات، لكن بعد عدة أيام وأثناء زيارتي لتركيا ومدينة إسطنبول نَجح مصطفى في إيصالها لي عبر الصديق علي القيسي، دارس الإخراج السينمائي في إحدى جامعات إسطنبول.
تسلمت الشرائط من علي، وغمرتني سعادة بحجم إسطنبول كاملة، كوني نجحت بعد هذه الرحلة في العواصم العربية بأن حصلت على فيروز في شرائط كاسيت مرة أخرى.
صباح اليوم التالي توَجهت إلى حي بالات التاريخي، حيث كنت أسكن من قرابة 8 سنوات، وابتعت تسجيلاً به كثير من شكل الأنتيكة، وحين جرّبته أمام جمع من حضور أحد محال الأنتيكة الشهير صَدحت فيروز"فايق لما راحوا أهالينا مشوار تركونا وراحوا وقالوا ولاد صغار"، لفت الصوت الفردوسي انتباه الحضور جميعاً واندمج كثير منهم مع شَدو فيروز، وتسرّب إحساس فيروز المُحلق إلى قلوب الجميع.
لكننى كنت المنتصر الوحيد بقرابة 40 شريط كاسيت تنقلت من يد إلى يد، ومن عاصمة إلى عاصمة، حتى أحوز أنا على هذا الشعور الاستثنائي من السعادة، وأستذكر فن أبي كثيراً في ليالي القرية الدافئة بعيداً، وصديقي الراحل مصطفى، الذي طالما تقاسمت معه سهرات حول نغمات صوت فيروز في الأندلسيات، وبراعة لحن الرحباني في المسرحيات، وشهدت المنصورة علينا خير شهادة في حب فيروز.
في ذكرى ميلاد سيدة الغناء العربي فيروز، كل عام وأنتِ جامعة القلوب حول ما خلده صوتكِ من إحساس وجمال.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.