بعد سنوات من الانتظار انطلقت بطولة كأس العالم 2022 في قطر، وهي البطولة الأكثر جدلاً ربما في تاريخ كل كؤوس العالم السابقة. سنوات كثيرة من التشكيك في قدرة قطر على تنظيم هذا الحدث العالمي، لكن بمجرد انطلاق حفل افتتاح البطولة فنّدت قطر كل هذه الادعاءات.
أبهرت قطر العالم بحفل افتتاح عالمي، وما هو إلا شرارة البداية لما سيشهده العالم من تنظيم مونديالي استثنائي، عُدت تكلفته أكثر مما أُنفق على 21 بطولة سابقة مجتمعة، وفقاً لتصنيف شركة "فرونت أوفيس سبورتس" الأمريكية، المتخصصة في مجال الاستشارات المالية الرياضية.
على الجانب الرياضي بدأ إعداد منتخب قطر للمونديال منذ إعلان استضافتها للبطولة عام 2010، بالتوازي مع التحضيرات اللوجستية للبطولة. لم يكتفِ العنابي بالمشاركة في البطولات الآسيوية فقط، لكنه حظي بمشاركات استثنائية في بطولة "كوبا أمريكا"، الخاصة بقارة أمريكا اللاتينية، و كأس "الكونكاكاف"، الذي يُقام في أمريكا الشمالية، كل ذلك من أجل الاستعداد للمونديال، وتقديم بطولة كأس عالم مثالية، تليق بالتنظيم الساحر الذي تُقدمة قطر.
لكن ما حدث في المباراة الافتتاحية للبطولة أمام منتخب الإكوادور كان مُخيباً للآمال، حيثُ خسر المنتخب القطري على أرضه ووسط جماهيره بهدفين مقابل لا شيء، كان فيها العنابي بعيداً ذهنياً قبل أن يكون بعيداً فنياً عن مجريات اللقاء. ليترك المنتخب القطري الحسرة في نفوس مُحبيه جراء الهزيمة، ويترك لنا سؤلاً مهماً، وهو:
هل يُعد الضغط النفسي والذهني عاملاً رئيسياً في أداء اللاعبين في المنافسات الرياضية الكبرى، لدرجة أنه قد يُحدد هوية بطل كأس العالم؟
مقصلة النجوم
إن كان هناك وصف دقيق يصف بطولة كأس العالم فلا شك أنه سيكون "مقصلة النجوم". في ذاكرتنا الجمعية عن كأس العالم العديد من لقطات النصر والتتويج لمنتخبات ولاعبين، تمنينا فوزهم بالبطولة، لكننا أيضاً نمتلك ذكريات أليمة لخذلان هذه البطولة لنجومنا المفضلين، أو بالأحرى خذلان هؤلاء النجوم لنا.
مَن منّا ينسى ركلة ترجيح "روبرتو باجيو" المُهدرة في نهائي مونديال 1994، أو طرد "زيدان" في نهائي مونديال 2006، أو هدف "ماريو جوتزه" الذي حرم ميسي من مونديال 2014، وغيرها من عشرات اللقطات الأليمة لخيبات أمل لنجومنا المفضلين، ولنا بالتبعية.
إن فكّرت في العامل المشترك بين كل الإخفاقات السابقة التي ذكرناها، على سبيل المثال لا الحصر، ستجد أن العامل النفسي والذهني كان فاعلاً رئيسياً بشكل أو بآخر فيها جميعاً، تخيّل أنك مكان باجيو ودخلت لتسدد ركلة الترجيح التي ستحسم إما فوز بلدك بالبطولة أو خسارته للقب، أو تعرضت لما حدث لزيدان من سبّ لأخته، أو أنك مكان ميسي، فعلت كل شيء في كرة القدم، وأمامك خطوة وحيدة لتفوز باللقب الوحيد الذي ينقصك، لكن كل ذلك يتبخّر في غضون دقائق.
تلعب الطقوس الجماعية دوراً مهماً في حياة الناس، من خلال خلق الهوية، أو تعزيزها، والتمسك بها، ومن هنا تأتي أهمية البطولات الدولية بالنسبة لمتابعي الرياضة، وحتى غير المتابعين، وتُعد كأس العالم إحدى أهم هذه البطولات، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، وبالتالي تزداد توقعات وطموحات المشجعين من فرقهم ولاعبيهم في مثل هذه الأحداث.
تطمح الفرق والأندية إلى اجتذاب أكبر قدر من النجوم، مع توفير مدرب يتناسب مع خطة النادي، يكون هدفه الرئيسي إيجاد خطة لعب مناسبة طيلة الموسم، تساعد في تحقيق المرجو من الفريق، لكن بالنسبة للمنتخبات فالأمر مغاير، فلا يملك مدرب المنتخب رفاهية تجريب عدة خطط، للوصول لخطة مثالية، هنا يتحقق عامل كبير، حول كيفية إعداد اللاعبين ذهنياً للبطولات.
يمكن لأي شخص أن يلعب بشكل جيد عندما لا يكون هناك ضغط، ولكن مع ارتفاع درجة الحرارة العاطفية خلال مسابقة رياضية أمام الملايين من المتفرجين، فإن أولئك الذين لا يستطيعون تحمل الخوف والذعر تقع رقابهم تحت المقصلة.
يعتقد دكتور "توماس تشامورو"، أستاذ علم النفس الرياضي في جامعة نيويورك، أن المُتحكم الرئيسي في أداء المنتخبات في البطولات الدولية الكبرى هو حجم الضغط النفسي والذهني الكبيرين الواقعين على اللاعبين، ومدى معرفة اللاعبين لكيفية التعامل مع هذا الضغط، لهذا السبب دائماً ما تتميز كأس العالم- من وجهة نظره- بنجوم غير مُتَوقَعين، لا يقع عليهم في الأساس الكثير من الضغط النفسي والذهني، ولا يُنتظر منهم تقديم الكثير في البطولة.
يُجادل دكتور توماس أنه رغم أن كرة القدم أصبحت لعبة تعتمد على سياسة رأس المال، وأن الفريق صاحب رأس المال الأعلى تزداد فرصه في الفوز بالبطولات، إلا أن المنتخبات الوطنية لا يمكنها شراء النجاح نقداً، على عكس الأندية؛ لذا فإن النجاح في بطولة مثل كأس العالم يتطلب إعداداً نفسياً قوياً للاعبين، وخلق ما يُسميه بـ"روح الفريق" بينهم.
يضرب لنا مثالاً بالمنتخب الألماني، الذي لا يمتلك طيلة الوقت أحد اللاعبين الخارقين مثل ميسي ورونالدو، لكن لاعبيه يفهمون جيداً معنى وقيمة روح الفريق، ويستطيعون تطويع ذلك في خلق هوية خاصة بهم، مكنتهم من حصد البطولة عام 2014، وأن منتخبات مثل إيطاليا وإسبانيا حققت المجد، بعدما ظلا لعقود يحاولان إرساء هذه الروح، كما في حالة إسبانيا، أو استعادتها في حالة إيطاليا.
صرَّح نجم المنتخب البرازيلي "رونالدينو" ذات مرة، أثناء حديثه عن كأس العالم بالتحديد، أن الضغط النفسي الذي يقع على عاتق اللاعبين أثناء هذه البطولة لا يمكن احتماله، فهي البطولة التي يطلب الجميع منه ومن زملائه الفوز بها، ليس فقط المشجعون، بل رئيس الدولة، والساسة، وكل فرد في البرازيل، وعلى قدر هذا التوقع يأتي العقاب، إذا ما عادوا إلى البرازيل وهم يجرون أذيال الخيبة.
إذاً، إن كانت المشكلة في أن يمتلك الفريق أو المنتخب طبيباً أو مُعداً نفسياً، لِمَ لا تقوم كل المنتخبات بفعل ذلك؟
حتى وإن امتلكت طبيباً نفسياً
في كأس العالم 2014، وقبل سُباعية ألمانيا في مرمى البرازيل في ملعب الماركانا الشهير في نصف النهائي، كانت تصريحات قائد المنتخب البرازيلي تياغو سيلفا أنه واثق من أداء فريقه تحت الضغط، لأنهم يمتلكون "ريجينا براندوا"، وهي الأخصائية النفسية الحاصلة على دكتوراه في علم النفس الرياضي، من جامعة ساو باولو، والتي تساعدهم على الاسترخاء. تحدث سيلفا عن أهمية توفير الراحة للاعبين، والحفاظ على أذهانهم صافية، وأكد أنه من دون ذلك لن يستطيعوا تحقيق اللقب.
فيما خرج نجم المنتخب البرازيلي نيمار، في تصريحات حينها، يُعرب فيها عن ثقته في ريجينا، مؤكداً على أهمية علم النفس الرياضي، حيثُ قال:
"في كرة القدم نحتاج دائماً إلى العواطف كل يوم، ونحتاج إلى علماء نفس، أعتقد أنه يمكن أن يكون مفيداً لكل شخص، لجعله أكثر استرخاءً".
بدا وقتها أن كل لاعب قد خضع لمجموعة من الاختبارات النفسية، لتقييم ردود أفعاله العاطفية في المواقف المختلفة، تم تزويدهم بمحفزات مختلفة، وتم تحليل ردود أفعالهم. كان الهدف هو تنسيق ردودهم وجعلهم في كامل تركيزهم على أرض الملعب، لكن ما حدث كان كالكابوس، يمكنك أن تُشاهد الرُّعب لا الحزن فقط في أعين اللاعبين، بعد تسجيل ألمانيا للهدف السابع في مرماهم.
ما شاهدناه على وجوه اللاعبين البرازيلين يومها ليس بشيء جديد على كرة القدم، ولا على الرياضيين عامةً، فالرياضة الاحترافية هي اختبار للأعصاب وليست فقط مسابقة للمهارة الفنية والبدنية، وإن كانت كذلك ستكون النتيجة مُتوقَعة كل مرة سيفوز الأكثر كفاءة فنية وبدنية كل مرة.
في كأس العالم 2014، منتخب آخر امتلك طبيباً نفسياً مميزاً، لكنه تزيّل مجموعته، وودّع البطولة بنقطة واحدة فقط، وهو المنتخب الإنجليزي، الذي عيَّن الدكتور "ستيف بيترز" خصيصاً لمساعدة اللاعبين وتأهيلهم نفسياً من أجل الفوز باللقب، لكن ما حدث أن إنجلترا قدمت أسوأ أداء لها في المونديال منذ عام 1958.
يمكننا القول إن جزءاً كبيراً من فشل هذه التجارب يقع في الأساس على اللاعبين، فالمنتخبات أصبحت تُعين أخصائيين نفسيين، فقط لأن كرة القدم الحديثة تتطلب ذلك، لا لأهميته، أو لمساعدته الفريق حقاً.
كما أنها أصبحت أداة للتربُّح، عن طريق إنشاء مؤسسات خاصة، بهدف تقديم النصائح لجيل الشباب من اللاعبين. فلاعب مثل هاري كين مثلاً يمتلك مؤسسة من هذه المؤسسات، فحتى وإن كانت تهدف فعلاً إلى المصلحة، لكنها خرجت عن سياقها، وأصبحت سبيلاً للربح قبل تحقيق الفائدة المجتمعية، كما يقول كين عن مؤسسته:
"هذا هو هدفي، خاصة مع جيل الشباب، التحدث معهم، ومحاولة توفير طرق للتحدث عن الصحة العقلية والرفاهية. كلما تحدثنا عن الأمر بطريقة أكثر انفتاحاً سيساعد ذلك بالتأكيد في حله، ونأمل في تشجيع الناس على عدم الخوف من طلب المساعدة، خاصةً عندما تشعر بأنك أقل قليلاً".
يقول دكتور ستيف عن تجربته في منتخب إنجلترا في كأس العالم 2014:
"قوبلت بالريبة من قِبل بعض اللاعبين"، ويضيف أن أحد اللاعبين صرَّح له ذات مرة "أنه لا يرى جدوى من وجوده في الفريق، وأنه يفضل الاسترخاء والنوم بعد المباراة، على جلساته العلاجية".
من هُنا يمكننا استنتاج أن امتلاك طبيب نفسي وإن كان حتمياً، ليس الحل بأكمله، وإنما جزء فقط، فما الجزء الآخر؟
ما لم تفعله قطر.. تكوين الهوية
يُخبرنا الدكتور "فيفيان فيجنولز"، القارئ في علم النفس الاجتماعي، أن تكوين هوية الفريق هو أمر محوري، لضمان تحقيق أقصى نتيجة من لاعبي هذا الفريق، بمختلف أعمارهم، وهو ليس بالأمر السهل لتحقيقه.
يُعد الفوز بالميداليات الذهبية الأولمبية، وكأس العالم، ذروة الإنجاز الرياضي. بالنسبة لفيفيان، فإن السبب الرئيسي لتحقيق ذلك الإنجاز هو بذور الهوية والمعتقد التي تُزرع أساساً في اللاعبين منذ صغرهم.
يقول فيفيان: "ما نُريده هو أن يحلم الطفل باللعب لمنتخب بلده، عندما يذهب لمشاهدة مباراته الأولى مع والده أو والدته، من هنا فإن حلمهم يتبلور بما تريدهم أن يكونوا عليه بعد عشرين عاماً".
ويضيف: "لذلك نحاول أن نقدم لهم قصة في أذهانهم منذ مرحلة مبكرة جداً، وبعد ذلك مع تقدمهم عبر الفئات العمرية إلى المستوى الدولي الكبير، ستكون الرسالة هي نفسها".
ما أخطأت فيه قطر، بالرغم من أننا أمام مشروع عربي حقيقي لبناء منتخب قوي، على أسس علمية، هو عدم التركيز على أهمية الجانب الذهني الذي تحدثنا عنه، والنقطة الأخرى هي افتقادها لجزء كبير من اللاعبين الذين يحملون هوية البلد، منذ صغرهم، حتى وإن كانوا مجنسين.
في النهاية، كأس العالم بطولة رياضية عريقة، ولكن عراقتها تلك، والتفاف الناس حولها، يجعل الفوز بها لا يتطلب فقط أن تمتلك منتخباً قوياً، بلاعبين جيدين، بل يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى الجانب النفسي، ومسألة الهوية، التي نأمل أن تفطن لها منتخباتنا العربية قريباً، إذا ما أردت أن تذهب ولو لمرة للبطولة، لتقدم أداء جيداً، لا لغرض التمثيل المشرف فقط.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.