ليس وارداً فيما يلي أن نبرر أي ارتكاب ضد حقوق الإنسان، لا سيما حقوق العمال الأجانب وسلامتهم في أي بلد من بلدان العالم، ولا أن ننكر مساهمة بعض الفعاليات الرياضية في العالم في زيادة نسبة الاحتباس الحراري، ولا أن نقزّم من شأن هذه الأمور الأساسية وغيرها.
كما أنه ليس وارداً، في المقابل، أن نضخّم، لحاجة في نفس يعقوب، من هذه الخروقات، كما يفعل الكثير من الإعلاميين في الغرب، ولا أن نغرق في مبالغات فيما خص مداها، ولا أن نمارس الانتقائية في تسليط الأضواء حصرياً نحو بلد معين كقطر فيما يتعلق بهذه الأمور وتناسي البلدان الأخرى، لا سيما تلك التي تبرع في إعطاء الدروس للغير في حين أنها تتبارى فيما بينها على تحويل البحر المتوسط لمقبرة للمهاجرين بفعل تلكؤها في واجبها الإنساني على نجدتهم، والتي هي غالباً نفسها المسؤولة الأولى عن أزمة الاحتباس الحراري بفعل صناعاتها الثقيلة ومراوغتها لعدم مواجهة هذه الأزمة بجدية.
لا نقصد فيما يلي الدفاع عن قطر التي تجيد الدفاع عن نفسها ببراعة، لاسيما أنها تحلّت بالشجاعة في عدم دفن الرؤوس بالرمال، وعدم إنكار المشاكل المتعلقة بحقوق الإنسان وبالبيئة المرافقة للتحضير للمونديال خلال السنوات الـ12 الأخيرة، بل واجهتها بتصميم وفاعلية.
وما إصدار قطر قوانين عصرية جديدة لحماية حقوق العمال الأجانب، وهي قوانين تحسدها عليها الكثير من الدول العربية الأخرى، والجهود الكبيرة التي قامت بها من أجل الحد من انبعاثات الكربون، إلا غيض من فيض أمثلة كثيرة على جدية الإمارة الخليجية في معالجة هذه المشاكل المهمة.
ما يعنينا في هذا المقال هو محاولة فهم ما المسببات الحقيقية التي تقف وراء هذه الحملة العاتية في الغرب ضد مونديال قطر ودعوات المقاطعة المرافقة له، سيما أن حجم هذه الحملة قد تخطى بمدى كبير الأسباب المعلنة لها.
زيجمونت باومان والخوف المرافق "للأزمنة السائلة"
يعتبر الفيلسوف البولندي زيجمونت باومان أنه في ظل ما يسميه "الأزمنة السائلة" أو "أزمنة اللا يقين" التي نعيش فيها حالياً، الإدراك بأن "لا أحد يتحكّم" يشكّل المصدر الرئيسي للخوف المعاصر، وغالباً ما يأتي صعود حركات اليمين الشعبوي الهوياتي المتطرف في الغرب كردة فعل غير عقلانية على هذا الخوف.
في ظل هذه "الحداثة السائلة"، يتسم العالم بانقسام بين السلطة الفعلية من جهة، والسياسة من جهة أخرى، بمعنى أنّ السياسيين لم يعودوا هم من يمتلك السلطة الفعلية. فبحسب باومان، "في ظل حركة السيولة، كل شيء يمكن أن يحدث، ولكن لا شيء يمكن أن نفعله في ثقة واطمئنان، فتتولد حالة من اللا يقين تجمع ما بين الإحساس بالجهل (استحالة معرفة ما سيحدث) والعجز (استحالة منع ما سيحدث) والإحساس بالخوف دون أن نستطيع إدراكه ولا تحديده". (من كتاب "الحداثة السائلة").
ومثلاً، في هذا العالم "السائل"، يصبح اللاجئ مرآة تعكس للمواطن في بلد اللجوء ما يمكن أن يحصل له بين ليلة وضحاها، ومن هنا سبب كرهه له.
يقول باومان: "جلب اللاجئون، بشكل جزئي، أهوال القوى العالمية الغامضة المستترة -والتي نأمل أن تكون بعيدة- إلى جوارنا المرئي والملموس. قبل أسابيع قليلة كان هؤلاء الوافدون يشعرون مثلنا بالأمان في مساكنهم، ولكن الآن ينظرون لنا محرومين من بيوتهم، وممتلكاتهم، وأمنهم، وحقوقهم الإنسانية "الأساسية" واستحقاقهم للاحترام والقبول الذي يضمن الكبرياء.
واتباعاً للعادة القديمة يُلام الرسل على محتوى رسائلهم. فليس عجيباً احتقار الموجات المتتالية من المهاجرين بوصفهم -كما قال بريشت- "نُذر الأخبار السيئة". فهم تجسيد لانهيار التسلسل، ذلك الوضع الذي تستقر فيه العلاقة بين المقدمات والنتائج بشكل قابل للإدراك والتنبؤ، بطريقة تسمح لمن داخله معرفة كيفية التصرف. بالتالي يسهل شيطنة اللاجئين لأنهم يكشفون لنا نقاط الضعف تلك".
ومفعول المرآة هذا الذي تكلم عنه باومان وحلله، هو تحديداً ما يبدو أنّ مونديال قطر قد فعله في الغرب، فما أظهره المونديال ليس أزمة قطر مع جزء من العالم، بقدر ما هو أزمة الغرب مع نفسه، ومع حاضره، ومع العالم والزمن اللذين نعيش فيهما.
نجاح قطر في تنظيم كأس العالم عكس للغرب انحداره، فالغرب قد رأى بأم عينه أنه لم يعد يحتكر مبدأ العالمية (يونيفيرساليسم)، لاسيما أنّ فعاليةً ككأس العالم في كرة القدم من أهم مظاهر العالمية، وبدأ هذا الغرب يفهم أنّ من استعمرهم في الماضي وحقّرهم لقرون بفعل استشراقه (أي العرب والمسلمين)، ومن شيطنهم لعقود بوصم ثقافتهم الدينية بالإرهاب، ومن ما زال يبدع في إطلاق الصور النمطية عنهم باستعلاء حضاري، أصبحوا اليوم ينافسونه في الحضارة ويزاحمونه في العالمية.
الشرخ الحاصل بين عالمين
آية قرآنية: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ)، ثم تفسير مبسّط من أمير البلد المستضيف ليفهم الجميع الزبد من مغذى الآية: "ما أجمل أن يضع الناس ما يفرقهم جانباً لصالح ما يجمعهم".
مباشرة نحو الهدف، كما يقول شعار نادي مارسيليا لكرة القدم، مباشرة نحو المعنى الأساسي في كل رمزية الاحتفال، ألا وهو حوار الحضارات وانفتاحها على بعضها، هكذا جاء مسار الاحتفال الافتتاحي لكأس العالم في قطر، دون إضاعة وقت في استطرادات غير ضرورية تؤخر الوصول إلى المرمى، دون استفاضات مراوغة تغرق المعنى بما لا يغني ولا يسمن من جوع.
فضح هذا الافتتاح الكثير والكثير، لا سيما بالنظر للتباين الكبير بين أجواء البهجة التي أضفاها من جهة، وبين ما سبقه وما رافقه وما تلاه من نكد ومن محاولات لإفساد الفرحة وتعكير البهجة من قبل غلاة المنتقدين، لا سيما في الغرب.
أظهر افتتاح كأس العالم في قطر الشرخ الحاصل في حاضرنا بين عالمين. من جهة أولى، ذاك العالم الذي أصبح يبدو قديماً، شائخاً، متعجرفاً، حاقداً، تملؤه العقد والضغائن، ذاك العالم الذي يشعر بأنّ الزمن قد سبقه، وأن حضارته في ضعف وانحدار، وبأنه قد تم المس باستعلائه الحضاري، وأنه يفقد تدريجياً احتكاره للعالمية ولمبادئها، وأنّ نجاح دولة عربية "فيها الكثير من المساجد" (كما قال بامتعاض أحد المعلقين الرياضيين الفرنسيين) بتنظيم كأس العالم يشكل صفعة مدوية لعجرفته واستعلائه، فيزداد كرهاً للآخر، لا سيما للإسلام والمسلمين؛ ذاك العالم الذي يصبح شيئاً فشيئاً أكثر انغلاقاً هوياتياً على ذاته، لا سيما بذريعة علمانية حداثية أصبح لا يبرع إلا في تحويرها.
ذاك العالم الغربي الذي يعطي الدروس المجانية بالأخلاق يميناً ويساراً، ولكن الذي غالباً ما تمارس دولُه ومجتمعاته انتقائية في الدفاع عن حقوق الإنسان، إذ تسلط الضوء على الارتكابات في بعض الدول تبعاً لأجندتها السياسية ولمصالحها ولأحلافها معها، في حين أنها غالباً ما تغض الطرف بكثير من النفاق عن الكثير من الارتكابات في دول أخرى حليفة لها، لا بل تعاير بالـ"ووكيسم" (ثقافة الوعي والإدراك لحقوق الأقليات) مواطنيها الذين يتجرأون على الدفاع عن حقوق الأقليات العرقية والدينية والجنسية على أراضيها.
أما في الجهة الأخرى، فعالم جديد آخذ بالبزوغ من رحم المعاناة والاحتلالات، عالم شاب، مضياف، محبّ، منفتح على الآخر، نشيط، يواكب الحداثة مع الحفاظ على أصالته، عالم ظهرت معالمه جلية في ثنايا المشهديات الجميلة على المسرح وعلى مدرجات استاد "البيت".
عالم مثلته خير تمثيل دولة كقطر فخورة بهويتها، ولكن نابذة للانغلاق الهوياتي، دولة منفتحة على العالم تواكب الحداثة من ضمن ثقافتها الأصيلة، ودون محو هويتها بعلمانية دوغماتية راديكالية معادية للأديان.
هي افتتاحية نقلت برمزيتها العالم من زمن إلى زمن، من زمن سرديات صراع الحضارات في بدايات هذا القرن، وشيطنة الآخر من قبل الغرب تمهيداً لغزو بلاده (أفغانستان والعراق) والهيمنة على ثرواتها، وفرض "قيمه" الثقافية عليه بدعوى عالمية إتنوسنترية تعتبر أن الغرب هو وحده من يحدد ما هي القيم العالمية وما هي ليست كذلك، إلى زمن حوار الحضارات الذي زخر بمعانيه الاحتفال الافتتاحي للمونديال في قطر.
وكأنّ افتتاح هذا المونديال نذير انتقال العالم من زمن الأحادية القطبية والثقافية الغربية، إلى عالم متعدد الأقطاب، حيث البلدان الصاعدة لم تعد بوضع المتلقي، بل أصبح لها تدريجياً كلمتها ومساهماتها الفاعلة في صياغة هذا العالم الجديد.
أما عربياً وإقليمياً، فقد كانت جميلة تلك اللقطة التي جمعت الكثير من الملوك والرؤساء، سيما بعد طول جفاء، ما عدا رئيس الحكومة اللبنانية المستقيلة، الذي كان حضوره لحفل الافتتاح نافراً، خصوصاً أنّ شعبه محروم من كل شيء.
فعسى أن تكون هذه المشهدية الجامعة فاتحة خير لشعوب المنطقة، لحقوقها العامة والفردية، لحرياتها، لديموقراطيتها، لنموها وتطورها السياسي والاقتصادي والحضاري والثقافي.
هنيئاً لقطر، وللعرب، وللمسلمين، وللعالم أجمع، لا سيما للأحرار في الغرب، وهم كثر، على خروج العالم التدريجي من الأحادية ومن احتكار العالمية ومن الاستعلاء الحضاري؛ ولا عزاء للمتعجرفين في الغرب، ولا لببّغاءاتهم الصغار في الشرق.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.