لا يكتفي الغرب، بقيادة الولايات المتحدة فقط، بالتصعيد في أزمة أوكرانيا ومعظم الأزمات العالمية الكبرى ضد من يعتبرهم خصومه، بل إنه يمنع العديد من دول مجموعة العشرين المحايدة من التوسط والعمل على إيجاد حلول سلمية.
وأعادت قمة مجموعة العشرين هذا العام التأكيد على فكرتين، يصر العديد من صانعي السياسة في الغرب على إنكارهما: الأولى أن الدول غير الغربية لا ترغب في عزل روسيا، والثانية أنها تفضل إجراء محادثات سلام فورية لإنهاء الحرب في أوكرانيا، حسبما ورد في تقرير موقع Responsible Statecraft الأمريكي.
وكان هذا ما عبّر عنه الرئيس الإندونيسي ومضيف قمة مجموعة العشرين، جوكو ويدودو، بالقول: "ليس لدينا خيار آخر، التعاون مطلوب لإنقاذ العالم".
ورغم ما يقال من أن إدارة بايدن تزداد نشاطاً على الجبهة الدبلوماسية، يظل الغرب وحلفاؤه، الذين لا يشكلون أكثر من 14% من سكان العالم، متمسكين بالحرب الاقتصادية دون أن يساهموا بدور بنّاء في إنهاء الحرب الفعلية. على أن زعماء آخرين اتخذوا موقفاً محايداً يمكّنهم من التوسط بين روسيا وأوكرانيا، والأهم، بين روسيا والغرب. ورفع العقوبات، على سبيل المثال، قد يكون أحد السبل لتعزيز رغبة بعض البلدان وطموحها وقدرتها على المشاركة في جهود الوساطة والخروج بنتائج.
وساطة تركيا أنقذت العالم من مجاعة، ورغم ذلك تتعرّض لضغوط غربية
فقد أدى تدخل تركيا، الذي بدأ قبل الغزو الروسي في فبراير/شباط، إلى الحد من مخاطر حدوث مجاعة عالمية بفضل صفقة الحبوب التي ساعدت في التوصل إليها. ولم يمتنع الغرب عن منح أنقرة أي مكافآت مقابل هذا الإنجاز فحسب، بل استمر في الضغط عليها، حسب وصف الموقع الأمريكي.
فرغم تعهد الرئيس، رجب طيب أردوغان، باعتماد تركيا لنظام تحويل الأموال الروسي مير، علقت البنوك الخاصة والمملوكة للدولة استخدامه بعد ضغوط من وزارة الخزانة الأمريكية.
وبالنظر إلى ارتفاع معدلات التضخم ونضوب احتياطياتها من العملات الصعبة، كانت تركيا ستفيد بدرجة كبيرة من السياحة الروسية، خاصة بعد حظر الغرب للروس، ومع ذلك حُرمت الاستفادة من هذه الإمكانات بسبب العقوبات الغربية.
والنفوذ المتنامي لتركيا في المنطقة وسياستها الخارجية المستقلة لا يجعلها قادرة على التوسط فحسب، بل حتى تقديم تنازلات من جانبها إذا عُرضت عليها الحوافز المناسبة. إذ تدرس أنقرة التطبيع الدبلوماسي بينها وبين دمشق، وهذا قد يساهم في جهود الوساطة. وفضلاً عن ذلك، بإمكان تركيا أن تتحول لوجهة الاستيراد للاقتصاد الروسي دون تهديدها بفرض عقوبات ثانوية عليها. وهذا سيساعد روسيا في الحصول على التكنولوجيا التي تشتد حاجتها إليها وتعزيز الاقتصاد التركي في الوقت نفسه، الذي ربما يكون الحافز اللازم لإحياء المفاوضات في أنقرة.
على الغرب تشجيع الوساطة السعودية أيضاً
وصحيح أن جهود الوساطة السعودية، التي تمثلت في صفقة تبادل الأسرى شملت بعض مواطني الدول الغربية، إلا أنها جديرة بالاهتمام. وفي الوقت نفسه، لم ترفض الدولة النفطية العملاقة عزل روسيا فحسب، بل إنها تستورد النفط الروسي أيضاً.
وكي تظل السعودية شريكاً بنّاءً، لا يجوز إجبارها على الانحياز إلى أحد الجانبين. ففي مقابل تخفيف للعقوبات، قد تشارك المملكة في جهود الوساطة وتساعد أكثر القطاعات الحيوية في روسيا في الوقت نفسه، مثل توفير قطع الغيار لقطاع الطاقة، الذي قد يكون أكبر تحدٍّ لروسيا على المدى المتوسط. وعوضاً عن التهديد باتخاذ إجراءات غير عملية لمواجهة أوبك +، على الدول الغربية أن تشجع الرياض على الاستفادة من علاقتها مع موسكو. وتفضيل واشنطن للعقوبات قد لا يؤدي إلا إلى تعميق التقارب بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، مثلما قاربت استراتيجية الاحتواء المزدوج بين روسيا والصين.
عزل روسيا يدفعها تجاه إيران
وقد أعرب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن صدمته إزاء امتناع إسرائيل عن تزويد أوكرانيا بمنظومة القبة الحديدية، لكن هذا منطقي تماماً من منظور تل أبيب. فمن مصلحة إسرائيل أن تظل روسيا قوية عسكرياً، لأنها تساعدها في تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا.
وهذا الانفصال الروسي الغربي دفع روسيا إلى توثيق علاقاتها مع إيران. وخبرة إيران الطويلة في العقوبات تجعلها حليفاً مفيداً لموسكو في أشياء كثيرة مثل مكونات السيارات والطائرات المسيّرة. وعلى الحكومة الأمريكية، عوضاً عن تشجيع المتشددين الإسرائيليين، أن تستغل عداء إسرائيل الغريزي تجاه إيران للأغراض السلمية في أوروبا الشرقية. وفي مارس/آذار، زار رئيس الوزراء الإسرائيلي موسكو، وهذه القناة الخلفية تعطلت لكن إحياءها قد يساهم في دبلوماسية متعددة المسارات. وكما في حالة تركيا، فالقدرة على التجارة بُحرية في القطاعات الخاضعة للعقوبات قد تكون حافزاً إيجابياً.
والصين والهند تخشيان العقوبات الغربية
ويمكن القول إن الدولتين اللتين ربما تتمتعان بأكبر قدر من النفوذ، وهما الصين والهند، وكلتاهما تدعمان إنهاء الحرب والمفاوضات، ولكن لا تجدان حوافز كثيرة للاشتراك في جهود الوساطة. والعداء الأمريكي المستمر للصين بخصوص مشكلة تايوان والرفض العنيد لمساعي الهند لتبني سياسة مستقلة، نتج عنه خشية البلدين من التعرض للعقوبات الغربية. إذ إن التدخل الدبلوماسي لأي من البلدين ينطوي على خطر استعداء الولايات المتحدة/الغرب دون فوائد تُذكر. وفي غياب ضمانات لفوائد قصيرة أو متوسطة الأجل، فيُستبعد أن يتزحزح أي من البلدين عن موقفهما.
قد تقنع المستويات العالية من الاعتماد الاقتصادي المتبادل في قطاع معين كلا البلدين بالمشاركة في جهود الوساطة في حال تقليل المخاطر إلى أقل درجة والفوائد المباشرة، مثل رفع بعض العقوبات. ويمكن أن تفيد كل من الصين والهند من سوق روسيا إذا كانت مفتوحة، خاصة في مجال التكنولوجيا، التي خرجت منها معظم الشركات الغربية. ويمكن لقطاع التصنيع عالي التقنية في الصين إلى جانب قوة الهند في خدمات تكنولوجيا المعلومات أن يفعلا الكثير لسد هذا النقص بمنافسة محدودة نسبياً. واستعداد كلتا الدولتين لزيادة اندماجهما اقتصادياً مع روسيا وامتناعهما في الوقت نفسه عن الإفراط في إظهار تجاهلهما للعقوبات يقوي موقفهما للتوسط بين روسيا والغرب، لو أن ذلك يصب في مصلحتهما الوطنية. والإعفاء من العقوبات قد يكون أحد هذه المصالح.
وبعض حكومات مجموعة العشرين قد تتمكن من المساهمة بأدوار تكميلية. إذ عرض الرئيس المكسيكي، أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، استضافة المحادثات لحل الأزمة الفنزويلية وأطلق مؤخراً مبادرة سلام لأوكرانيا. ولولا دا سيلفا الذي انتخب مرة ثانية في البرازيل يوازن بين العلاقات الودية مع الولايات المتحدة وإيران، وبإمكانه أن يفعل الشيء نفسه مع الولايات المتحدة وروسيا. ومساهمات الوساطة قد تعزز تطلعات كلا البلدين إلى مكانة القوى الوسطى، والخروج من الحدود الإقليمية. وعلى واشنطن، عوضاً عن هوسها بالهيمنة، أن تشجع المبادرات الجريئة التي تعزز مكانة هذه الدول.
ورفع العقوبات التي تعرقل التجارة بين روسيا وشركائها الاقتصاديين غير الغربيين قد يكون ذا فائدة ملموسة، يمكن أن تقنع روسيا بالجلوس إلى طاولة المفاوضات. ولعل هذه الفوائد قصيرة الأجل التي يمكن جنيها مثل حبة دواء يصعب على الساسة الغربيين ابتلاعها، لكن السؤال الأساسي الذي يواجههم: "أيهما أسوأ، مكاسب اقتصادية لروسيا، أم حرباً لا نهاية لها قد تسحب معها الولايات المتحدة ودول حلف الناتو بالكامل؟".