تواجه أرض النيل أزمة متفاقمة، لها أسباب متعددة، تهدّد بانقراض محاصيل زراعية تتصدّر مصر العالم كله في إنتاجها، فهل توجد حلول لإنقاذ مصدر الرزق الرئيسي لعشرات الملايين من المصريين من تغير المناخ؟
تعددت الأسباب والمصيبة واحدة كما يقال، فمن زحف نسبة الملوحة المرتفعة على الدلتا، حيث يوجد أكثر من ثلث أرض مصر الزراعية، إلى نقص المياه وغيرها من الأسباب، التي يرجع أغلبها إلى التغير المناخي، يجد ملايين المزارعين مصدر رزقهم الوحيد في مهبّ الريح.
الزيتون.. فقدان صدارة مصر العالمية
في السنوات الثلاث الأخيرة، تعرّض محصول الزيتون في مصر لخسائر فادحة تجاوزت 50%، بحسب مصادر محلية لأسباب مناخية بالأساس، أهمها التذبذب غير المتوقع في درجات الحرارة.
الزيتون نوعان، الأول زيتون المائدة، والثاني زيتون إنتاج الزيوت، وفي عام 2019 تصدّر الإنتاج المصري من النوع الأول دول العالم، حيث أنتجت مصر 610 آلاف طن، متفوقة على إسبانيا التي أنتجت 500 ألف طن.
يوجد في مصر 58 مليون شجرة زيتون، وهناك خطة مستمرة منذ سنوات للتوسع في زراعة الزيتون. لكن عام 2020، أنتجت مصر نفس الكمية التي أنتجتها في العام السابق، بينما زاد إنتاج إسبانيا إلى 700 ألف طن، لتتراجع مصر إلى المركز الثاني عالمياً.
أما في عام 2021، فقد شهد الإنتاج المصري من الزيتون تراجعاً ضخماً، فمن 900 ألف طن كان متوقعاً إنتاجها هذا العام، بلغ الإنتاج 320 ألف طن فقط، لتخرج مصر من قائمة الدول العشرة الأولى عالمياً.
هذه الأرقام تكشف عن حجم الكارثة، التي تزداد بصورة تضع مزارعي الزيتون في موقف لا يُحسدون عليه، بسبب التراجع الحاد في الإنتاج، ما سدّد لهم ضربات مالية موجعة.
صلاح، أحد مزارعي الزيتون في مصر، قال لهيئة الإذاعة البريطانية BBC، إنه يفكر في اقتلاع أشجار الزيتون التي زرعها قبل بضع سنوات، موضحاً أن إنتاجية الأشجار لم تعد تغطي حتى نفقاتها، وبات يبحث إمكانية زراعة محاصيل بديلة أكثر مقاومة للتغيّر المناخي.
يقول صلاح: "لم يعد لدينا أي طموح؛ فالخسائر مستمرة. كنت أتطلع لبناء بيت وشراء سيارة جديدة. باتت كل هذه الخطط معلقة"، ويشير إلى أحد الأشجار في مزرعته الواقعة في شمال مصر قائلاً: "كانت هذه الشجرة عادة ما تحمل بين 50 إلى 60 كيلوغراماً من الزيتون، لكنها الآن بالكاد تحمل 10 كيلوغرامات".
يشعر صلاح، الأب لأربعة أبناء، بالارتباط الشديد بأشجاره، لكن التفكير في اقتلاعها هو خيار المضطر. "هل أفكر في الأشجار، أم أفكر في أولادي الذين يحتاجون مبالغ كبيرة من أجل التعليم والزواج؟ ليس لديّ خيارات أخرى".
ويشكو صلاح غياب الدعم الحكومي في مواجهة كل هذه الخسائر. ويقول إن الحكومة لا تقدم لهم شيئاً يُذكر، رغم أن المزارعين يحتاجون لدعم أسعار الأسمدة والمبيدات، خاصة عندما تتضرر إنتاجية المحاصيل بفعل عوامل خارجة عن إرادتهم.
الملوحة ونقص المياه يهددان أرض النيل الخصبة
الأزمة التي ضربت محصول الزيتون في مصر في مقتل، ما هي إلا مثال على الأزمات التي بدأت تؤثر سلبياً على المنتجات الزراعية في مصر بفعل التغير المناخي، فالأرز والمانجو والخضروات وغيرها من المحاصيل يواجه مزارعوها مشاكل لا تختلف كثيراً.
عماد عطية رمضان، مزارع من مدينة دمياط في شمال الدلتا، كان قد بدأ زراعة الأرز في قطعة أرض مساحتها 12 فداناً (5 هكتارات)، متخلياً عن زراعة الطماطم (البندورة)، التي لم تعد تنمو جيداً في تربة زادت ملوحتها بشكل كبير قرب ساحل البحر المتوسط، بحسب رويترز.
يقول رمضان، وهو يجمع العشب البري من أرضه ويتحقق من علامات تراكم الملح بها، إن الأرز يُباع بسعر أقل، لكن مياه الري المستخدَمة لزراعته تساعد في تطهير الأرض من الملح، مما يعطيه الفرصة للنمو.
رمضان هو أحد عشرات آلاف المزارعين الذين يكافحون للتكيف مع زحف الملوحة في دلتا النيل، وهي مثلث أخضر خصب مكتظ بالسكان، ويتجه نحو البحر إلى الشمال من القاهرة، ويمثل أكثر من ثلث الأراضي الزراعية في مصر. وقال رمضان "الأرض لو سبتيها (تركتِها) 10 أيام من غير ما تشرب تلاقيها طردت ملوحة على وش الأرض".
وعلى حدود أرضه يوجد حقل أصفر جاف قاحل بسبب الملوحة، وحاول رمضان استخدام المواد الكيميائية دون تأثير يُذكر، وأكد أن ملوحة التربة "كل سنة تزداد".
خبراء ومزارعون قالوا لـ"رويترز" إن ارتفاع الملوحة في الدلتا له أسباب متعددة، بما في ذلك الإفراط في استخراج المياه الجوفية واستخدام الأسمدة ومبيدات الآفات.
وقرب مدينة سيدي سالم بمحافظة كفر الشيخ، على بُعد نحو 28 كيلومتراً إلى الجنوب من البحر، أشار إبراهيم عبد الوهاب، وهو مهندس زراعي يدير أراضي 15 مزارعاً من أصحاب الحيازات الصغيرة، إلى قطعة أرض مليئة ببقع من التربة الجرداء و نباتات القطن التي تغير لونها تأثراً بحروق الملح.
منذ نحو عقد من الزمان، كانت الطماطم والخيار والبطيخ والأناناس تُزرع على نفس تلك الأرض، ولكن الآن تُزرع المحاصيل الأكثر تحملاً للملوحة مثل القطن والبنجر والأرز. وقال عبد الوهاب إن عدم انتظام هطول الأمطار ونقص المياه الصالحة للري جعل الزراعة أكثر صعوبة.
وأضاف عبد الوهاب أن الملوحة تجعله يحتاج إلى غرس ضعف كمية البذور واستخدام سماد إضافي؛ لتحقيق كثافة المحاصيل الطبيعية، لكن الإنتاجية لا تزال متأثرة.
تغير المناخ.. القاتل الصامت
تغير المناخ يزيد الأمور سوءاً، فقد أدى بالفعل إلى ارتفاع مستويات سطح البحر ودرجات الحرارة في مصر، وهو موضوع مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (كوب27) الذي تستضيفه البلاد هذا الأسبوع.
ويرى باحثون أن المناخ هو العامل الوحيد الذي يصعب السيطرة عليه في عملية الزراعة، مؤكدين أن قطاع الزراعة هو الأكثر هشاشة في مواجهة تغيرات المناخ.
مساعد رئيس مركز معلومات تغير المناخ بوزارة الزراعة المصرية، بلال عبد الحميد، قال لـ"بي بي سي" إن "تأثير التغيرات المناخية في مصر صامت؛ إذ لا يظهر في شكل ظواهر مناخية جامحة. لكن هذا التأثير يمس المحاصيل الزراعية بشدة. على سبيل المثال، إذا حدثت أي موجات برودة أو حرارة مفاجئة، في أي من المراحل الفسيولوجية المهمة لنمو المحصول، فقد يؤدي ذلك إلى تدمير المحصول بالكامل".
ويدلل عبد الحميد على وجهة نظره بالخسائر الكبيرة التي مُنيت بها محاصيل، مثل المانجو والزيتون العام الماضي. ويضيف بأن التكيّف مع التغيرات المناخية في السنوات الأخيرة بحاجة إلى دعم مالي كبير، لا تقدر عليه حكومة بمفردها، خاصة في الدول النامية، موضحاً ضرورة تكاتف دول العالم من أجل التصدي لهذه التغيرات.
ارتفعت مستويات سطح البحر في مصر بمقدار 3.2 ملليمتر سنوياً منذ عام 2012، مما يهدد بفيضان وتآكل الشاطئ الشمالي للدلتا، ودفع المياه المالحة إلى التربة والمياه الجوفية التي يستخدمها المزارعون للري. تعمل درجات الحرارة المرتفعة على تسريع عملية التبخر، مما يؤدي إلى زيادة تركيز الأملاح.
وأظهر تقرير للبنك الدولي، نُشر هذا الشهر، أن مصر هي خامس دولة على الصعيد العالمي عرضة للتأثير الاقتصادي لارتفاع مستوى سطح البحر على المدن، وسط وجود مخاطر على الزراعة ومياه الشرب من الفيضانات والتعرية وتسرب المياه المالحة.
ومن المتوقع أن تنخفض غلة المحاصيل الغذائية في مصر بأكثر من 10% بحلول عام 2050 بسبب ارتفاع درجات الحرارة وندرة المياه وزيادة ملوحة مياه الري، وفقاً لورقة بحثية نشرها المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية العام الماضي. وتشير بعض الدراسات إلى أن التأثير في منطقة الدلتا قد يكون أعلى من ذلك بكثير.
وعلى مدار الثلاثين عاماً الماضية، زادت درجات الحرارة في مصر بمقدار 0.4 درجة مئوية لكل عقد، وفقاً لبيانات من وحدة أبحاث المناخ بجامعة إيست أنجليا. وتُظهر بيانات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ ارتفاع درجة حرارة شمال إفريقيا بمقدار 1.5 درجة مئوية بحلول منتصف القرن، مقارنة بفترة 1995-2014.
هل توجد حلول لإنقاذ الزراعة في مصر؟
يلجأ بعض المزارعين المقتدرين إلى زراعة محاصيلهم داخل صوبة زجاجية، للتكيّف مع تبعات التغيّر المناخي؛ إذ يسهل التحكم في الظروف البيئية داخل الصوبة، خاصة درجات الحرارة. لكن بناء الصوبة أمر مكلف، لا يقدر عليه الجميع.
أنفق ياسر، أحد المزارعين المقتدرين، مبالغ ضخمة لإنشاء صوبة زجاجية لزراعة الخيار بعد أن تلَفت محاصيل كثيرة منه بفعل تذبذب درجات الحرارة. يقول ياسر: "تحملت تكاليف كثيرة من أجل إنشاء الصوبة، لكنني أثق بأن النتيجة ستغطي هذه التكاليف. فإذا كانت إنتاجية الفدان تصل في العادة إلى 20 طناً مثلاً، فإنتاجية فدان الصوبة قد تصل إلى 60 طناً".
ويؤكد ياسر أن توفير الحرارة المناسبة لنمو المحصول "تقيه شر الكثير من الحشرات والآفات التي قد تعصف به، ولذلك ترتفع الجودة بشكل ملحوظ". لكنه أشار أيضاً إلى غياب المساعدات الحكومية، ويشكو من ارتفاع أسعار الأسمدة والمبيدات: مضيفاً: "إذا واصلت الأسعار الارتفاع بهذا الشكل، كيف يمكنني أن أواصل عملي في المواسم الزراعية المقبلة؟ فالمبيعات لن تغطي التكاليف في نهاية الأمر".
يمس تأثير التغيرات المناخية على الإنتاج الزراعي الاقتصاد المصري بشكل مباشر، وهو ما ينعكس بوضوح على المواطن المصري البسيط الذي يشكو بالفعل من ضيق ذات اليد. ورغم أن نسبة إسهام المصريين في تلويث الكوكب بسيطة، فإن الفاتورة التي سيدفعونها كبيرة.
علي أبو سبع، المدير العام للمركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة (إيكاردا)، قال لـ"رويترز" إنه بالنسبة لمزارعي الدلتا، تتراوح خيارات التكيف من إنشاء أحواض زراعة مرتفعة، أو استخدام قوالب الزراعة الطولية، لتحسين كفاءة الري والصرف، إلى استخدام سلالات بذور جديدة.
وقال وائل السيد، وهو مزارع في شرق الدلتا بالقرب من مدينة الزقازيق، إن الأحواض المرتفعة ساعدته في توفير الأسمدة والمياه، وضاعفت إنتاجية محصول القمح. لكن البعض الآخر يكافح من أجل معالجة التربة وغسلها، وهم يقومون بتجربة محاصيل جديدة أو يعتمدون على الدورات الزراعية.
محمد عبد المنعم، أحد كبار مستشاري منظمة الفاو، يرى أنه "مع مرور الوقت ومع ارتفاع مستوى سطح البحر ستتغلغل الملوحة إلى الدلتا. وسوف تتعمق أكثر".
وتشير دراسة نُشرت العام الماضي في مجلة الاستدامة إلى أن 60% من مساحة 450 كيلومتراً مربعاً في شمال شرق الدلتا ستتأثر سلباً بنهاية القرن بارتفاع نسب المياه الجوفية المرتبط بارتفاع مستوى سطح البحر.
وللتكيف مع تلك المشاكل المتشعبة حدود وقيود، فعلى سبيل المثال، قد تساعد زراعة الأرز في غسل التربة وحمايتها من الملوحة، لكن الحكومة فرضت قيوداً على المحصول في أجزاء من الدلتا، وذلك بسبب شح المياه.