يبدو أن إمبراطور الإعلام والملياردير المحافظ روبرت مردوخ أدار ظهره أخيراً للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، كما فعل مع العديد من الساسة السابقين الذين حظوا بصداقة مع مردوخ، حيث وصفت إحدى الصحف البارزة التابعة لمردوخ ترامب بعد نتائج انتخابات التجديد النصفي بـ"الخاسر الذي يظهر سوء تقدير متزايد". فما قصة مردوخ مع صديقه السابق ترامب؟
مردوخ يتخلى عن ترامب ولن يدعمه في الترشح مجدداً للانتخابات
بحسب صحيفة الغارديان البريطانية، فقد حذّر مردوخ ترامب من أن إمبراطوريته الإعلامية لن تدعم أي محاولة لعودة دونالد إلى البيت الأبيض، حيث يتجه المؤيدون السابقون إلى حاكم فلوريدا الجمهوري الشاب رون دي سانتيس.
وبعد الأداء "المخيّب للآمال" للحزب الجمهوري في انتخابات التجديد النصفي، ولا سيما الأداء الضعيف للمرشحين المدعومين من ترامب، يبدو أن إمبراطورية مردوخ الإعلامية اليمينية تسعى إلى انفصال تام عن سمعة الرئيس السابق المتضررة والسلطة السياسية المتضائلة.
وقامت إمبراطورية مردوخ الإعلامية المؤثرة، بما في ذلك فوكس نيوز ذات الميول اليمينية، وصحيفتاه الرئيسيتان، وول ستريت جورنال، ونيويورك بوست، بانتقاد ترامب، واصفة إياه بأنه خاسر وفاشل ومسؤول عن جر الجمهوريين إلى "سياسي واحد"، يحقق فشلاً ذريعاً، واحداً تلو الآخر.
وكتبت ليز بيك، في فوكس نيوز، أن "الفائز الأكبر في انتخابات التجديد النصفي كان بلا شك الحاكم رون دي سانتيس، الذي كان فوزه الساحق في ولاية فلوريدا مبهراً". وقالت إن "الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات هو دونالد ترامب".
وقال مصدر كبير في شركة نيوز كورب الإعلامية التي يملكها مردوخ لصحيفة الغارديان: "لقد كنا واضحين مع دونالد ترامب، كانت هناك محادثات بينه وبين مردوخ، أوضح خلالها الأخير لترامب أنه لا يمكننا دعم ترشحه مرة أخرى للبيت الأبيض".
مردوخ يريد زعيماً جديداً للحزب الجمهوري.. ورون دي سانتيس هو الرجل المنشود
من جهته، اتهم ترامب، الذي أعلن نيته الترشح للرئاسة مرة أخرى في 2024 في ظهور تلفزيوني ليلة الثلاثاء، 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، صديقه القديم مردوخ، بالقيام "بكل شيء" لدعم حاكم فلوريدا رون دي سانتيس، الذي وصفه بـ"الجمهوري العادي" وقام بالسخرية منه.
وبحسب ما ورد، أخبر لاكلان مردوخ، الوريث الظاهر والابن الأكبر لروبرت، والذي يشارك في رئاسة نيوز كورب، ويدير الشركة الأم لفوكس نيوز، أن المجموعة ستدعم دي سانتيس إذا خاض الانتخابات المقبلة. وقال مصدر في نيوز كورب: "لاكلان كان حريصاً على إبراز رون دي سانتيس، وهو ينظر إليه على أنه نسخة نظيفة وأكثر قبولاً من دونالد ترامب".
لم يعلن دي سانتيس، الذي أطلقت عليه صحيفة نيويورك بوست التابعة لمردوخ لقب "DeFuture" و"زعيم الحزب الجمهوري الجديد"، ما إذا كان ينوي المنافسة ليكون مرشح الحزب الجمهوري للرئاسة لعام 2024. لكن هناك مؤشرات عدة تشير إلى نية دي سانتيس فعل ذلك، كما أظهرت بعض استطلاعات الرأي تقدم دي سانتيس على ترامب، فيما يتعلق بالترشح لخوض غمار الانتخابات الرئاسية باسم الحزب الجمهوري في 2024.
كما لم يعلن جو بايدن، الذي دعمه أداء الديمقراطيين القوي في الانتخابات النصفية، لكنه لا يزال غير محبوب في استطلاعات الرأي كمرشح لولاية ثانية في 2024، ما إذا كان سيرشح نفسه للرئاسة مرة أخرى. وعلى الرغم من عدم وجود خليفة واضح له، إلا أن هناك مخاوف بشأن عمره وصحته إذا فاز بفترة ولاية أخرى في البيت الأبيض، حيث سيبلغ 82 عاماً عام 2024.
ترامب ليس الأول.. مردوخ لديه تاريخ طويل في التخلي عن الساسة أو الإطاحة بهم
بعد دعمه خلال فترة رئاسته 2017-2021، لم يتخلّ مردوخ عن صديقه القديم ترامب، الذي لا يزال أقوى شخصية في الحزب الجمهوري. وتُعد وسائل الإعلام التي يملكها مردوخ من أكثر مصادر المعلومات تأثيراً بالنسبة للمحافظين الأمريكيين، حيث تدعم بشكل صريح الجمهوريين وتهاجم الديمقراطيين.
لكن اليوم، يصف كبار نجوم شبكات مردوخ الإعلامية ترامب بالفاشل، مثل مضيف البرامج الحوارية تاكر كارلسون، الذي ألقى على ترامب باللوم في عدم اكتساح الحزب الجمهوري للانتخابات النصفية وصنع "موجة حمراء" في معظم الولايات كما كان متوقعاً، وكما كانت وسائل الإعلام هذه تروج لذلك طوال الفترة الماضية.
لكن ترامب ليس أول سياسي ينقلب عليه مردوخ بهذا الشكل، حيث يمتلك إمبراطور الإعلام والملياردير الأمريكي الأسترالي تاريخ طويل من التخلي عن الرجال الذين لم يعودوا يخدمون مصالحه، كما يقول تقرير لشبكة BBC البريطانية.
فقد وجّه مردوخ رسالة سرية لرؤساء التحرير لديه بفتح النار في منتصف السبعينيات على رئيس الوزراء الأسترالي حينها، كوف ويتلام، وفقاً لبرقية دبلوماسي أمريكي أُرسلها إلى وزارة الخارجية الأمريكية، تحمل عنوان "اقتل ويتلام".
وكان زعيم حزب العمال الأسترالي ويتلام يتردد بانتظام على مزرعة مردوخ للأغنام خارج كانبيرا، وكان يحظى بتغطية ايجابية جداً في صحيفة "ذا أستراليان"، ولكن بعد فوزه في انتخابات عام 1972، توقف ويتلام عن التحدث إلى مردوخ، كما يروي المؤلف الشهير مايكل وولف في سيرته الذاتية المثيرة "الرجل الذي يملك الأخبار". منذ ذلك الوقت تدهورت العلاقة بينهما، وقرر مردوخ شن حملة إعلامية على إدارة رئيس الوزراء، تضمنت سيلاً من الأخبار شملت تلميحات إلى فضائح مالية وجنسية.
وبعد 10 أشهر من صدور أمر "اقتل ويتلام"، أُقيل رئيس الوزراء من قبل الحاكم العام لأستراليا في خضم أزمة ميزانية.
منذ أن ورث مردوخ صحيفة "أخبار أديلايد" قبل 70 عاماً، ونجاحه غير المتوقع في بناء إمبراطورية إعلامية عالمية تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، عاصرت استراليا 18 رئيس وزراء. ويُقال إن مردوخ ساهم بالإطاحة بعدد منهم، بمن فيهم مالكولم تورنبول وكيفن رود مؤخراً .
النفوذ السياسي لمردوخ لم يَطل رؤساء وزراء أستراليا فحسب
خلال تلك المدة دخل 13 رئيس وزراء بريطانياً إلى مقر الحكومة في داونينغ ستريت و10 رؤساء أمريكيين تناوبوا على البيت الأبيض منذ أن بدأ إعلام مردوخ في تشكيل رأي الناخبين في المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وتقول BCC، إن المدير التنفيذي السابق لقناة فوكس نيوز ورئيس مجموعة الضغط (اللوبي) التي يمكلها مردوخ، بريستون بادن، راقب رئيسه عن كثب وهو يمارس السلطة السياسية.
ويقول بادن، الذي كان ينظم جدول مواعيد اجتماعات بارون الإعلام في "الكابيتول هيل" أثناء قيامه ببناء مملكته التلفزيونية في منتصف التسعينيات، "أنه كان رجلاً لطيفاً، وكان يمنح ويعطي بسخاء. فعندما يتصل زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل بروبرت ويقول له إنه يحتاج إلى مليون دولار من أجل لجنة العمل السياسي أو ما شابه ذلك، يوافق روبرت في معظم الأحيان". وأضاف: "كان الجمهوريون خصوصاً دائماً متحمسين لرؤيته؛ لأنه بمثابة نجم من نجوم موسيقى الروك، شخصيته عالمية".
وفي عام 2011، قال كلفن ماكينزي، محرر صحيفة صن، التي يملكها مردوخ خلال العصر الذهبي لصحيفة التابلويد البريطانية، للجنة ليفيسون (تحقيق ليفنسون، عبارة عن تحقيق قضائي عام في ثقافة وممارسات وأخلاقيات الصحافة البريطانية في أعقاب فضيحة نيوز أوف ذا وولد، التي كانت مملوكة لمردوخ): "أخبرني روبرت أنه لا يوجد شيء أكثر إثارة للغثيان من غرفة مكتظة بالسياسيين، لقد اصطفوا في طوابير مثل الأقزام الأشرار لتقبيل مؤخرته".
"شعرت أن لمردوخ كرسياً في الحكومة البريطانية"
ربما لا يوجد دليل على القوة الهائلة التي تتمتع بها صحيفة صن، أكثر من تسببها في انهيار الجنيه الإسترليني، الأمر الذي أجبر بريطانيا على الانسحاب من آلية سعر الصرف الأوروبية في عام 1992 كما هو مفصّل في كتاب بيتر تشيبينديل وكريس هوري المثير عن الصحيفة.
عندما اتصل رئيس الوزراء جون ميجور، بماكنزي لسؤاله عن خطته لتغطية الموضوع، رد المحرر: "على طاولتي برميل كبير من الفضائح والمسبّات، وأنا على وشك سكبها كلها فوق رأسك". في اليوم التالي، صدرت الصحف مكرسة صفحاتها الأولى للانهيار الاقتصادي وفساد حزب المحافظين تحت عنوان: "الآن كلنا ذهبنا ضحية الحكومة".
على الرغم من أن مردوخ يقول إنه لم يطلب قط من رئيس الوزراء أي شيء، فإن السير جون ميجور روى قصة مختلفة. وزعم أن عملاق "نيوز كورب" أثار غضبه خلال مأدبة عشاء في فبراير/شباط 1997 عندما طلب منه إعادة التفكير في عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.
وقال أثناء تحقيق ليفيسون: "غالباً لا يجلس أحد أمام رئيس الوزراء، ويقول: أريدك أن تغيّر سياستك، وإن لم تفعلها فلن تدعمك مؤسستي". وقال السير جون إنه رفض طلب مردوخ.
غيّرت صحيفة "صن"، موقفها بعد شهر، وتحولت إلى دعم منافس السير جون؛ توني بلير، زعيم حزب العمال البريطاني، الذي حقق نصراً ساحقاً في ذلك الربيع.
كان بلير قد سافر بالفعل عام 1995 إلى جزيرة هايمان في كوينزلاند، أستراليا، لضمان دعم وتأييد مردوخ له. وقدّم رئيس الوزراء الأسترالي بول كيتنغ بعض النصائح لبلير قبل ذلك الاجتماع.
وفقاً لمذكرات مدير مكتب بلير السابق، ألستر كامبل، قال كيتنغ لزعيم حزب العمال عن مردوخ: "إنه بذيء للغاية، والطريقة الوحيدة للتعامل معه هي التأكد من جعله يعتقد أنك ستكون فاحشاً وبذيئاً جداً مثله أيضاً".
يقول لانس برايس، مستشاراً بلير السابق، إن مردوخ كان عضواً فعلياً في الحكومة، خاصة فيما يتعلق بالقرارات الكبيرة.
وقال برايس لـ"بي بي سي": "كان توني بلير يأخذ في الحسبان كيف يمكن أن يرد روبرت مردوخ وإعلامه على أي قرار سياسي كان يفكر فيه.. كان أكثر اهتماماً بمردوخ ورد فعله من وزير النقل أو من سيكون في منصب وزير الخارجية لشؤون البيئة، بهذا المعنى، شعرت أن لمردوخ كرسياً في الحكومة".
هل يدمر مردوخ ترامب كما فعل مع غيره؟
على الرغم من صداقتهما العلنية، فإن ازدراء مردوخ لزميله الملياردير ترامب، ظهر جلياً في كتاب مايكل وولف حول رئاسة ترامب. ووفقاً لكتاب وولف "نار وغضب"، أنهى مردوخ ذات مرة مكالمة هاتفية مع الرئيس ترامب واصفاً إياه بكلمات بذيئة.
وتبين التحول الحاد في نبرة قطب الإعلام، الصديق السابق لترامب، جلياً بعد فشل الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي الأخيرة، في ليلة الثلاثاء، قطعت قناة فوكس نيوز بثها أثناء إعلان ترامب عن نيته خوض السباق الرئاسي الى البيت الأبيض.
ووصفت هيئة تحرير وول ستريت جورنال، ترامب بـ"الفاشل"، بل توقعت هزيمة مؤكدة له. وغطت صحيفة "نيويورك بوست" إعلان ترامب في ذيل الصفحة الأولى تحت عنوان "رجل فلوريدا يصدر إعلاناً". ولم يتضح بعد ما إذا كان ذلك أشبه بأمر مرودخ لمحرريه: "اقتل ويتلام".
والنبرة العدائية لمردوخ هذه، تؤكد نظرة بارون الإعلام إلى العلاقات الشخصية هي أنها مجرد صفقات، كما يقول هو في كثير من الأحيان. أو كما وصف أحد الشهود أمام لجنة ليفيسون غدر إعلام مردوخ وانقلابه على الساسة، بالقول: "إنها مجرد تجارة".