يبدو أن الولايات المتحدة مصرة على دفع الأوكرانيين للتفاوض مع روسيا، بعد النجاحات الأخيرة التي حققتها كييف، ولكن أي شكل من التفاوض بين روسيا وأوكرانيا لن يسفر في الأغلب عن اتفاق بين البلدين أو معاهدة سلام تحل المشكلات بينهما، بل هناك مؤشرات بسيناريو آخر يفكر به الأمريكيون.
فبعد النجاحات الأوكرانية الأخيرة، يحاول مسؤولون أمريكيون إقناع حكومة كييف بعقد مفاوضات مع روسيا، والتراجع عن رفضها المعلن للتفاوض مع موسكو، في ظل وجود فلاديمير بوتين في رئاسة روسيا وضرورة استعادة كافة أراضيها بما فيها شبه جزيرة القرم، حسب ذكرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية.
كما كشفت صحيفة وول ستريت جورنال، أن جاك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي عقد عدة مناقشات مع نظيره الروسي نيكولاي باتروشيف، رئيس مجلس الأمن الوطني الروسي، وكبير معاوني السياسة الخارجية في الكرملين يوري يوشاكوف خلال الماضية.
وحققت أوكرانيا نجاحات متعددة أوكرانيا في ساحة المعركة، بعد أن شنت هجوماً مضاداً في خاركيف بشمال شرق أوكرانيا في سبتمبر/أيلول الماضي، أعقبه هجوم آخر في إقليم خيرسون الاستراتيجي في الجنوب الشرقي الذي يمثل الممر البري الوحيد لشبه جزيرة القرم.
وبسبب هذه النجاحات تعرضت قوات روسيا لهزيمة استراتيجية دفعتها للتراجع عن مساحات واسعة من الأراضي التي احتلتها بعد 24 فبراير/شباط. وجاء الإعلان الروسي عن التراجع شرق نهر "دنيبر" بهدف الانسحاب من مدينة "خيرسون"، وهي العاصمة الإقليمية الوحيدة التي احتلتها روسيا منذ بداية الغزو، ليظهر حجم المأزق الروسي وخسائر جيشها الذي لم يستطع الدفاع عن مناطق تقول موسكو إنها جزء من أراضيها أمام قوة أوروبية متوسطة.
الانسحاب المهين من خيرسون يوفر ميزات عسكرية للروس
ورغم أن الانسحاب الروسي من خيرسون يمثل نكسة سياسية للروس، خاصة بعد إعلانهم ضم الإقليم ضمن أربعة أقاليم أخرى لأراضيهم، إلا أن هذا الانسحاب يحسن موقفهم العسكري، لأن وجود قواتهم في خيرسون كان يمثل مشكلة لوجستية وعسكرية، لأن نهر دنيبر الضخم كان يفصل القوات الروسية بالمدينة عن المناطق الرئيسية التي تسيطر عليها موسكو في أوكرانيا، الأمر الذي كان يعرقل نقل الإمدادات لهذه القوات، خاصة في ضوء تدمير كييف لعدد كبير من الجسور الرئيسية على النهر أو إخراجها من الخدمة، الأمر الذي جعل دفاع الروس عن المدينة صعباً.
ولكن الآن أصبح نهر دنيبر هو بمثابة خط دفاع الروس الرئيسي بعد انسحابهم لضفته الشرقية، ما يصعب على الأوكرانيين التقدم لتحرير مزيد من أراضيهم في جنوب شرق البلاد.
واللافت أن الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، قال مؤخراً: "يجب أن يقر الجانبان بأن النصر العسكري، بالمعنى الحقيقي للكلمة، أمر لا يمكن تحقيقه بالوسائل العسكرية، لذلك يتعين علينا اللجوء إلى وسائل أخرى. وهناك فرصة هنا، أو بالأحرى مقدمات فرصة، للتفاوض".
فبما أنه من المستبعد أن تحقق أوكرانيا مكاسب كبيرة في ساحة المعركة خلال الأسابيع المقبلة، فإن بعض الولايات المتحدة وبعض المسؤولين الأوروبيين بدأوا بالحديث عن ضرورة التوصل إلى تسوية بين الجانبين، وبعد إخفاقها في معركة كييف خلال الربيع ثم هزائمها الأخيرة، أصبحت أهداف روسيا في أوكرانيا أكثر تواضعاً، حيث تتلخص الاستراتيجية الروسية في المرحلة القادمة في التحول إلى الدفاع الاستراتيجي على جميع الجبهات لإجبار أوكرانيا على وقف تقدمها؛ مما يؤدي إلى تجميد الصراع بشكل فعال، والحفاظ على المكاسب الميدانية التي حققتها روسيا حتى الآن، مع الرد على هجمات كييف العسكرية باستهداف البنية الأساسية الأوكرانية، وإشعار المدنيين الأوكرانيين المقيمين في المناطق البعيدة عن الجبهات بوطأة الحرب، لتقليل دعمهم لاستمرارها.
ومما يعزز ذلك أن التراجع الروسي الأخير لا يعني أن موسكو يمكن أن تخضع بسهولة لمطلب حكومة كييف بالانسحاب الكامل من كافة الأراضي الأوكرانية في أي وقت قريب، حسبما ورد في تقرير لمركز أسباب.
موسكو تقترب من أن تكون نمراً نووياً جريحاً
وفي الوقت ذاته، فإن استمرار الهزائم العسكرية لروسيا التي يمكن أن تهدد الدولة أو تتسبب في إضعاف قبضة "بوتين" على السلطة، يمكن أن يحول الحرب في شرق أوكرانيا إلى حرب وجودية لموسكو، وبمعنى آخر؛ فإن استمرار الخسائر التي تلحق بالجيش الروسي في أوكرانيا ستؤدي إلى تصاعد مخاطر استخدام موسكو لترسانتها النووية، لإثبات أنها لا تزال قوة يجب الخوف منها، وهو الأمر الذي ألمح إليه بوتين وبعض المسؤولين الروس في أكثر من مناسبة، من خلال التهديد باستخدام محتمل للأسلحة النووية أو الحديث عن نية أوكرانيا استخدام القنابل المشعة أو ما يعرف بـ"القنابل القذرة".
وبالرغم من خسائر روسيا في شرق أوكرانيا والتي كشفت المشكلات الهيكلية في الأداء العسكري الروسي وضعف القدرة على استبدال الأفراد والعتاد والذخيرة المفقودة، ولكن يظل السلاح النووي الروسي مصدر تهديد قائماً، وعاملاً مؤثراً في صنع القرار في الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي "الناتو".
كما لا يتوقف الأمر على احتمالات التصعيد النووي فقط، ولكن يشمل أيضاً احتمالات استخدام أسلحة غير تقليدية؛ إذ قد تسعى موسكو لزعزعة استقرار خصومها كلما تدهورت أوضاع قواتها في أوكرانيا، وذلك من خلال أساليب غير تقليدية ويصعب تتبعها في بعض الأحيان في المجالات البيولوجية أو الكيميائية أو الفضاء الإلكتروني أو الذكاء الاصطناعي.
وحلفاء أوكرانيا أصبحوا مرهقين من الحرب
في الجانب الآخر؛ فإن أصواتاً رسمية وغير رسمية باتت تتعالى في الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو، ترى أن التراجع المحتمل للعمليات العسكرية في الشتاء، وانسحاب روسيا من خيرسون، وعودتها لاتفاق نقل الحبوب، تمثل فرصة لإطلاق مفاوضات بين موسكو وكييف لإنهاء الحرب، خاصة في ظل التخوفات من أن استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، قد يؤدي إلى أي مخاطر داخلية غربية.
فهناك شبح حدوث ركود اقتصادي عالمي وما يصاحبه من انقسامات سياسية والتي أصبحت لها مظاهرها على جانبي المحيط الأطلسي من تمدد التيارات اليمينية والشعبوية المتطرفة، وكذلك تزايد الاضطرابات الاجتماعية بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة في البلاد الأكثر استقراراً منذ عقود في القارة الأوروبية، الأمر الذي يهدد الموقف الغربي الموحد تجاه دعم أوكرانيا في مواجهة روسيا، كما قد يهدد أيضاً استقرار بعض الحكومات الغربية.
سيل المساعدات الأمريكية لم يعد مضموناً
وهناك غموض حول المعوقات المحتملة التي قد يفرضها الجمهوريون، بعد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، على المساعدات والدعم الذي تقدمه واشنطن لأوكرانيا، والذي بلغ حجمه منذ بداية الغزو حوالي 45 مليار دولار.
والشهر الماضي، حذر زعيم الحزب الجمهوري كيفين مكارثي من أن الجمهوريين لن يكتبوا "شيكاً على بياض" لأوكرانيا إذا استعادوا أغلبية مجلس النواب، ما يعكس موقف حزبه غير المتحمس بشأن الدعم المالي لكييف، حسبما ورد في تقرير لوكالة أسوشيتدبرس "AP" الأمريكية.
وقال مكارثي لموقع Punchbowl News: "أعتقد أن الناس الذين سيواجهون ركوداً لن يكتبوا شيكاً على بياض لأوكرانيا".
وأثارت تعليقات مكارثي، الذي يرجح أن يتولى رئاسة مجلس النواب في حال فوز الجمهوريين، تساؤلات جديدة حول مرونة دعم أمريكا لأوكرانيا، حيث إن عدداً متزايداً من الجمهوريين، لا سيما أولئك الذين يتماشون مع نهج دونالد ترامب الذي يرفع شعار "أمريكا أولاً"، يشككون في عقلانية توسع الإنفاق في الخارج، في وقت بلغ فيه التضخم ارتفاعاً قياسياً في الداخل الأمريكي.
ويتزايد قلق الإدارة الأمريكية من تراجع التزام بعض الدول الأوروبية تجاه دعم أوكرانيا؛ مما قد يؤدي إلى تراجع موقف أوكرانيا العسكري، كما أن هناك تقارير عن تراجع مخزونات العديد من دول الناتو العسكرية لا سيما في الذخائر، وهي مشكلة تواجهها روسيا على ما يبدو أيضاً بالأخص في مجال الأسلحة والذخائر والصواريخ الدقيقة، الأمر الذي دفعها للجوء لشراء طائرات مسيرة رخيصة من إيران الدولة المعزولة التي تنتمي للعالم الثالث، وهناك حديث أيضاً عن رغبتها في الحصول على صواريخ باليستية إيرانية مع تراجع مخزوناتها من الصواريخ الدقيقة.
كما أن استمرار الحرب ومواصلة الخسائر الروسية في أوكرانيا، سيؤديان إلى تصعيد خطير للصراع وتوسع روسيا في سياسة الأرض المحروقة، وهو ما يعني تدميراً واسعاً للبنية التحتية الأوكرانية.
والأكثر إثارة لقلق أمريكا هو التلويح الروسي باستخدام السلاح النووي الذي لم يتصاعد إلا مع ظهور مؤشرات الإخفاقات العسكرية الروسية، وتدرك الولايات المتحدة أن تجاوز روسيا للخط النووي لن يعني إلا مشاركة واشنطن وحلفائها في الناتو بشكل مباشر في الحرب، وسبق أن قال جاك سوليفان إن الولايات المتحدة أبلغت الروس بأنه سيكون هناك إجراء من الناتو إذا ما تم استخدام أسلحة نووية، وأعقب هذا التحذير تراجع التلويح الروسي بالأسلحة النووية.
ومنذ بداية غزو روسيا لأوكرانيا حافظت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو على مشاركة غير مباشرة في الصراع تتناسب مع مصالحهم، وهو الأمر الذي يزداد صعوبة مع استمرار الحرب والتهديد بالتصعيد النووي، وبينما لا يتوقع تراجع الدعم الغربي العسكري لأوكرانيا بشكل كبير في المدى القصير، إلا أن التواصل الاستراتيجي الأمريكي مع روسيا يشير إلى الحرص على تجنب أي مواجهة نووية ستتجاوز تداعياتها حتماً ساحة الحرب الأوكرانية.
هل اقتربنا من مرحلة التفاوض بين روسيا وأوكرانيا؟
قال مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان، يوم الخميس 10 نوفمبر/تشرين الثاني: "إن مهمتنا هي تعزيز موقف الأوكرانيين في ساحة المعركة، ليكونوا في أفضل وضع ممكن على طاولة المفاوضات حين تُتاح فرصة اللجوء إلى الدبلوماسية". غير أنه استدرك قائلاً: "لكن الولايات المتحدة لا تضغط على أوكرانيا، ولا تلح عليها لقبول أمور معينة".
وكان لافتاً قول جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأمريكية، في لقاء أجرته بإندونيسيا، أثناء حضور قمة مجموعة العشرين، إن بعض العقوبات المفروضة على روسيا قد تبقى سارية حتى بعد توقيع اتفاق سلام نهائي مع أوكرانيا.
ويؤشر ذلك إلى أن المفاوضات قد تسفر عن رفع بعض العقوبات الغربية على موسكو، وليس كلها، حيث ستسعى الولايات المتحدة لإبقاء بعض الضغوط طويلة الأمد على الاقتصاد الروسي، بينما قد ترفع بعض العقوبات التي تضر الاقتصادات الغربية مثل حظر استيراد المواد الخام الروسية لا سيما النفط.
ويشير غياب بوتين عن قمة العشرين إلى أن التفاهمات الأمريكية الروسية ما زالت في مراحل مبكرة، وتتمحور حول حدود استمرار الصراع أو إدارته وليس حول أجندة إنهائه، حسب تقرير مركز أسباب.
إليك النتيجة المرجحة لهذه المفاوضات
وبينما سيكون بمقدور واشنطن دفع كييف للبدء في مفاوضات مع موسكو، فمن غير المرجح أن يسفر التفاوض بين روسيا وأوكرانيا عن اتفاق نهائي في المدى القصير؛ نظراً لأن المطالب الروسية ترتكز على اعتراف أوكرانيا بالحدود الجديدة مع موسكو، والسيادة الروسية على شبه جزيرة القرم، وهو أمر بعيد المنال، خاصة في ظل صلابة المقاومة التي تبديها القوات الأوكرانية، حسب تقرير مركز أسباب.
ولكن البديل سيكون تهدئة للحرب الأوكرانية، تمنع توسعها وتقلل من احتمالات لجوء روسيا لتوسيع عملية تدمير بنية أوكرانيا التحتية، وقد يصل الأمر لتوقيع اتفاق وقف إطلاق نار أو هدنة بين الجانبين مع وجود مراقبين دوليين، بناء على خطوط التماس الحالية، دون اعتراف أي من الجانبين بالوضع القائم، ولكن قد يمثل ذلك حلاً مفيداً للطرفين.
فمن ناحية روسيا، فإن وقفاً لإطلاق النار بناء على الوضع القائم يعني احتفاظها بالقرم وأجزاء من المقاطعات الأربع التي أعلنت ضمها، حتى تتسنى لها إعادة بناء قوتها، ويستطيع بوتين أمام شعبه الادعاء بأنه أضاف أراضي جديدة على غرار قياصرة روسيا وزعيم الاتحاد السوفييتي الأشد قسوة جوزيف ستالين.
على الجانب الأوكراني، فإن كييف إذا وافقت على وقف إطلاق نار يثبت الحدود الحالية، قد تكون قد حققت عدة مكاسب (حتى لو جزء من أراضيها محتل)، أولها نجاتها كدولة كان استقلالها على المحك في بداية الغزو، حيث كان الخطاب الروسي يلمح إلى أن الهدف إسقاط حكومة كييف، أو على الأقل جعل أوكرانيا منزوعة السلاح ومحايدة.
ولكن الواقع أن أوكرانيا حافظت على استقلالها، بل جيشها بات أقوى وأحرج ثاني أقوى جيش في العالم، وهي إن لم تحرر أراضيها كما تريد، ولكنها حررت جزءاً منها بالفعل بما فيها مناطق حيوية مثل خيرسون، التي تمثل ممراً للقرم التي تؤكد عزمها على استعادتها، كما أنها ستكون قد حافظت على جزء من بنيتها الأساسية وبقية اقتصادها.
وفي الأغلب ستسفر هذه الهدنة عن مسار للتفاوض بين الجانبين، لن يؤدي على الأرجح لحل المشكلة أو تنازل كل طرف عن مطالبه، وبذلك يتحقق وقف نزيف الخسائر مع تشبث كل جانب بشروطه وخلق حالة من اللاسلم واللا حرب مثلما يوجد في العديد من الصراعات بأنحاء العالم.
وفي المقابل، فإن الغرب سيسعى لوضع استراتيجية دائمة لتسليح أوكرانيا ودعمها اقتصادياً، وجعلها حائط صد أمام روسيا، وفي الأغلب لن تنضم كييف للناتو، ولكنها فعلياً ستتحول لحارس أمامي لحدوده، وقد يصبح جزء من استراتيجية الغرب الأمنية تقديم دعم مالي وعسكري لها أكبر من أي عضو بالناتو.
وبذلك يضمن الغرب خلق حاجز قوي بينه وبين روسيا دون أن يكون ملزماً بالتورط في حرب مع موسكو.