ليس القمل مجرّد حشراتٍ صغيرة جداً، بلا أجنحة، تعيش على فروة رأس الإنسان وتتغذى من دمه.. فهذه الطفيليات الصغيرة -التي لا علاقة لها بالنمل إطلاقاً- لها تاريخ طويل وقديم جداً، يعود إلى الحقبة الكنعانية، ولن تصدّق أنها كانت سبباً أساسياً في انتشار الطاعون مثلاً خلال العصور القديمة.
ورغم أن الإصابة به تسبّب رعباً في العديد من المجتمعات العالمية والعربية، خصوصاً مع انتشاره بسرعة لافتة، فإن موضة شراء حشرات القمل منتشرة بين بعض السيدات في منطقة الخليج لاعتقادهن أنها تعالج ضعف الشعر وتزيد من كثافته.
أسبابٌ جديدة كلياً على تاريخ هذه الطفيليات.. لكن قبل الدخول في دوره التاريخي، لنتعرّف سريعاً على "ما هو القمل"؟
هو عبارة عن حشراتٍ صغيرة سوداء، يبلغ طولها 2-3 ملم، أي أنك ستجد صعوبةً في رؤيتها. تتغذى القملة على دم الإنسان، وتضع بيضها على الشعر بالقرب من الجلد وفروة الرأس.
ينتقل من شخصٍ إلى آخر من خلال المخالطة "اللصيقة" ومشاركة المتعلقات الشخصية، ولا يطير من شعرٍ إلى آخر كما هو متعارف، فليس للقملة أجنحة.
لكن المشكلة أن هذه الحشرات تضع بيضاً يفقس بسرعة، فينتشر بسرعة هائلة على شعرنا؛ لذلك، فإن علاج القمل يتطلب أيضاً القضاء على الحشرة وبيضها.
اكتشاف مشط كنعاني للقضاء على "القمل"
اكتشفت مجموعة من الباحثين في فلسطين نقشاً نادراً على مشطٍ من العاج، عمره أكثر من 4 آلاف عام، كان استُخدم لإزالة القمل قديماً؛ ويمثل أوّل "جملة لفظية كاملة" مكتوبة باللغة التي تحدث بها سكان المنطقة القديمة.
ووفقاً لما نقلته صحيفة The Guardian البريطانية، فإن الأحرف الـ17 المنقوشة على المشط تُكَوِّن جملة من 7 كلمات، وهي: "أتمنى أن يقتل هذا الناب قمل الشعر واللحية".
والمشط، الذي يبلغ طوله 5,3 سنتيمتر، اكتُشف في الواقع عام 2017؛ لكن لم يلاحظ العلماء الحروف المنقوشة على سطحه حتى ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، بعد إجراء فحصٍ معمّق.
وأكد تحليل العلامات أن المكتوب على المشط نُقش بالخط الكنعاني، الأبجدية الأولى التي اختُرِعَت منذ نحو 3700 عام، ما يُعتبر "دليلاً مباشراً" على استخدام الأبجدية الكنعانية في الحياة اليومية.
ووفقاً للعلماء، فإن المشط نفسه كان على الأرجح قطعة فاخرة مستوردة، إذ لم تكن هناك فيلة في كنعان، وبالتالي لا وجود للعاج فيها. ولم تنجح الجهود المبذولة باستخدام الكربون في تأريخ عمر المشط بدقّة، لكن يُرجّح أنّه يعود إلى حوالي 1700 عامٍ قبل الميلاد.
سبق الإنسان إلى الأرض وصار يقاومه!
يتم استخدام الطفيليات -مثل القمل- كواحدة من العلامات الفريدة التي تساعد على التحقيق في تاريخ تطور الإنسان.
وبما أن القمل يتكون من سلالتين قديمتين -كلتاهما سبقت وجود الإنسان على الأرض- تمكنت مجموعة من الباحثين، تتبع تاريخ القمل وتاريخ البشر بالتوازن، من اكتشاف أن انتقال النوع الذي نعرفه الآن من القمل تطلب تواصلاً جسدياً بين الإنسان القديم والحديث؛ ما ينفي وجود فجوة، أو بمعنى أصحّ حلقة مفقودة في تاريخ تطور البشر!
ليس هذا كل شيء، فالقمل صار الآن يقاوم الموت؛ تم توثيق تلك النتيجة المخيفة بواسطة دراسة بريطانية نُشرت في العام 2003، كانت قد أشارت إلى مقاومة قمل الرأس للمبيدات الحشرية، والأمر في ازدياد.
هكذا لم تعد أكثر علاجات القمل التقليدية، التي يتم صرفها من دون وصفة طبية، تجدي نفعاً. وقد ذيّل الباحثون دراستهم بجملة لافتة قالوا فيها: "تشير البيانات إلى وجود مقاومة قمل الرأس للمنتجات التي لا تستلزم وصفة طبية، والتي تحتوي على مبيدات حشرية صناعية في أجزاءٍ كثيرة من إنجلترا".
وتابعوا يُشيرون إلى أن "المقاومة بدأت في التطور، ومع الاستخدام المكثف لعلاجات الشعر المعروفة، ستصير المقاومة أكبر".
لكن الخوف من "القملة المقاومة" لم يعد مقتصراً على إنجلترا وحدها؛ المخاوف ذاتها راودت عدداً من الباحثين في الولايات المتحدة الأمريكية، الذين أجروا مزيداً من الدراسات حول فاعلية مبيدات القمل وأيها أكثر قوة في قتله.
لكن الأمر الأكيد الذي انتهت إليه دراسة أخيرة نشرتها مجلة Jama Dermatology -وهي مجلة طبية تنشرها الجمعية الطبية الأمريكية- فإن هذه الحشرات صارت مقاومة للعلاجات المتوفرة في الأسواق!
كلمة السر في "الموت الأسود"!
في كتابه "تاريخ الفئران والقمل"، المنشور عام 1935، يتتبع هانز زينسر (وهو طبيب أمريكي وأخصائي في علم الجراثيم) تاريخ الطفيليات على مدار العصور وكيف تحكمت كائنات صغيرة جداً في مجرى التاريخ.
ووفقاً لزينسر، فقد تمكن القمل من حسم معارك تاريخية كبرى، وأحداث عصيبة لن تصدّقوها. فقد تبيّن أخيراً أنه المسؤول الأول عن انتشار الطاعون، وليس الفئران، كما كنا نعتقد.
فقد أشارت الدراسات التي أُجريت لاحقاً إلى أن القملة، التي تحمل بكتيريا الطاعون، يبقى فيها الطاعون لمدة ثلاثة أيام، أي أنها تكون مُعدية خلال هذه الأيام. ويمكن للشخص الواحد أن ينقل لمن حوله متوسط 6 قملات!
بحسب الكتاب الشهير لزينسر، فإن القملة تقف كمتهمة رئيسية وراء فشل جهود جستنيان الأول، الإمبراطور البيزنطي الذي تولى الحكم في الفترة الممتدة من العام 525 إلى 548، في استعادة وحدة بلاده بسبب نقص الموارد عقب انتشار الطاعون.
وبسببها أيضاً، فشلت القوات الرومانية والفارسية في مقاومة الجيوش الإسلامية عام 634، بعدما أنهكتهم الأمراض التي تكفلت هذه الحشرات بنقلها خلال تلك الفترة!
من يصيبه القمل أكثر؟
كثيرةٌ هي المعلومات المتداولة عن هذه الطفيليات، على غرار أنها تنتقل من رأس إلى رأس وتفضّل الشعر المتسخ، وغيرها من التفاصيل غير الدقيقة.. لنتعرّف هنا إلى بعضها:
هل تنتشر الإصابة في مجتمعات دون غيرها؟
الإجابة لا؛ ففي أستراليا على سبيل المثال، أجرت مجموعة من الباحثين دراسة حول قمل الرأس لدى تلاميذ مدرسة ابتدائية، في محاولة لفهم مدى إمكانية السيطرة عليه لدى أطفال المدارس.
وتبيّن، عقب مسح 735 تلميذاً، أن الإصابة بقمل الرأس موجود عند مستوى مفرط التوطن، أي أن الفصل الدراسي كان المصدر الرئيسي للإصابة؛ لذا انتهت الدراسة بتوصية تعليم الأساتذة وأولياء الأمور استراتيجيات التحكم في تلك العدوى المتفشية.
هل يُصيب أشخاصاً بعينهم أكثر من غيرهم؟
شغل هذا التساؤل مجموعة من الباحثين في جامعة غنت في بلجيكا، قاموا بإخضاع 6169 تلميذاً -تتراوح أعمارهم بين عامين ونصف إلى 12 عاماً- للدراسة، حتى يتمكنوا من إيجاد رابط بين الحالة الاجتماعية والاقتصادية للأسرة، وبين إصابة الطفل بقمل الرأس.
الدراسة التي استمرت لـ14 يوماً، أوضحت إصابة 8.9% من الأطفال بقمل الرأس، وقد فشل العلاج في 41% من حالات الأطفال، وكانت النتيجة النهائية مفاجئة لأعضاء فريق البحث.
فقد تبيّن أن الحديث عن علاقة لون الشعر الفاتح والإصابة بقمل الرأس، وكذلك حصر الإصابة في المستويات الاقتصادية المتواضعة للأسر، لا أساس له من الصحة.
فالإصابة تتعلق فقط وبشكلٍ حصري بـ"التواجد في تكتلات مصابة"، حيث يمكن أن يصاب أغنى الأغنياء وأفقر الفقراء بالنسبة ذاتها، إذا ما تواجدوا في تجمعات تتضمن أطفالاً مُصابين.
القملة بـ15 ريالاً!
بعيداً عن تاريخه الأسود، تحوّل القمل فجأة إلى موضة وبطلٍ سرّي يقف خلف طول الشعر وكثافته؛ هذا بالضبط هو الاعتقاد الذي ساد لدى عددٍ من السيدات في منطقة الخليج.
ففي العام 2016، أُدرج كنوعٍ من "التجارة" وتنوعت أسعاره بحسب حجم القملة وأدائها. ووفقاً لمجلة "الإمارات اليوم"، وصل سعر الحشرة الواحدة في دولة الإمارات إلى 14 درهماً.
أما في الكويت، فقد وصل ثمنها إلى دينارٍ وربع، أما سعر الجملة فهو 6 دينارات للخمس قملات، بينما وصل سعرها في المملكة العربية السعودية إلى 15 ريالاً سعودياً.
بعض النساء لديهن قناعة كاملة بأن تلك الحشرة تساهم في كثافة الشعر، وتعمل على زيادة نموّه. ووفقاً لمجلة "لها"، عملت بعض الصالونات النسائية على تربية القمل، من خلال جمع الشعر التالف ووضعه في علبة مع درجة حرارة مرتفعة، من أجل نموّه وبيعه للراغبات في كثافة الشعر.
في المقابل حذّرت بلدية دبي هذه الصالونات النسائية من ترويج القمل، مؤكدة أنه يُعتبر من الممارسات المخالفة للقانون. فبيع هذه الحشرة يُعتبر من الأنشطة غير المصرّح بها، ويعرّض صاحب/ة الصالون إلى غرامة مالية تصل إلى 2000 درهم، وقد تتضاعف في حال تكرار المخالفة، وصولاً إلى إغلاق المحل.
القمل يُلهم أيضاً
"أربي قملة في رباط عنقي وأبتسم للحمقى الذين يهبطون من الأشجار"؛ بهذه الأبيات يختم الشاعر التشيلي نيكانور بارا إحدى قصائده، والحق أن كثيراً من الأدباء، مثله، قد وجدوا ضالتهم في هذه الحشرة الصغيرة، كموضوعٍ داخلي لكتبهم أو كعنوان مناسب لأعمالهم.
فقد أطلقت إليف شفاق مثلاً على روايتها الصادرة عام 2002 عنوان "قصر القمل"، ولم تجد كاتبة الأطفال ميثاء الخياط عنواناً أنسب من "القملة الهاربة" لقصتها المصورة للأطفال عام 2013.
وكذلك الأمر للكاتب شريف كناعنة الذي طرح كتاباً للأطفال بعنوان "القملة"، يروي فيه حكاية تراثية مقتبسة من القصص الشعبية، عن قملة تتزوج من برغوث فتفقده وهو يقوم بمساعدتها في إعداد الطعام لضيوفها. تحزن القملة على زوجها ويبدأ كل من حولها في مشاركتها الحداد عليه.