يجد قادة مجموعة العشرين أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه، بسبب أزمات الديون والتضخم وأسعار الطاقة، لكن كيف سيؤثر التنافس بين أمريكا والصين على هذه الملفات الاقتصادية الصعبة؟
دول مجموعة العشرين، التي تضم أمريكا وروسيا والصين واليابان وكندا وأستراليا والسعودية وفرنسا وألمانيا والهند وإندونيسيا وتركيا والبرازيل والأرجنتين والهند وكوريا الجنوبية والمكسيك وجنوب إفريقيا والاتحاد الأوروبي وبريطانيا، ستعقد قمتها في بالي (إندونيسيا) في 15 و16 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، في أجواء أقرب ما تكون إلى بدايات الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بقيادة واشنطن والشرقي بقيادة موسكو، قبل نحو 8 عقود.
فالقمة تأتي وسط تصاعد حدة الأزمات الاقتصادية، في وقت لم تتعافَ كافة الدول من التبعات السلبية التي أحدثتها جائحة كورونا، ثم جاءت الحرب الروسية في أوكرانيا لتضع الاقتصاد العالمي على مسار سريع نحو ركود قد يكون الأكثر حدة منذ الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي.
أزمات الديون والتضخم تخنق العالم
الملفات الاقتصادية التي ستكون على طاولة قادة دول العشرين تتمثل بشكل أساسي في أزمة الديون والتضخم العالمي وأزمة الطاقة العالمية وتباطؤ الاقتصاد العالمي، وسط تقديرات بأن الاقتصاد العالمي على وشك الدخول في مرحلة ركود خلال وقت لاحق من 2023.
وستلقي هذه الوجبة الدسمة من الملفات بأعباء وجهود إضافية على مستوى القادة واللجان الفنية من أجل تشخيصها وإيجاد حلول لإدارتها في الفترة المقبلة، ما يشير بوضوح إلى أن الظروف السيئة التي يمر بها العالم هذا العام قد تكون مجرد البداية لقادم أسوأ.
فحول العالم، تنجرف بلاد كثيرة نحو أزمة ديون متفاقمة، إذ أدى التباطؤ الاقتصادي وارتفاع التضخم إلى زيادة الطلب على الإنفاق، ما يجعل من الصعب على العديد من الحكومات سداد الأموال التي تدين بها، بحسب تحليل لوكالة الأناضول.
في الأوقات العادية، يمكن لهذه البلدان ببساطة أن تأخذ على عاتقها ديوناً جديدة لتحل محل الديون القديمة؛ لكن الظروف الدولية جعلت القيام بذلك أكثر صعوبة، وسط زيادات حادة في أسعار الفائدة العالمية.
نتيجة لذلك، لن يتمكن بعض أولئك الذين يقتربون من مواعيد السداد النهائية ببساطة من الوفاء بها؛ لقد فوّتت سريلانكا وزامبيا مدفوعات بالفعل، ما أوقع كلا البلدين في حالة من الانهيار الاقتصادي.
أحد الأسباب الرئيسية لهذا السيناريو المقلق هو أن البلدان في جميع أنحاء العالم مضطرة أساساً إلى اقتراض الأموال بالدولار الأمريكي أو اليورو، والاحتفاظ باحتياطيات العملات الأجنبية لسداد الديون في المستقبل. لكن هذه الاحتياطيات تواجه مطالب حيوية أخرى، فهناك حاجة إلى شراء النفط والواردات الأخرى، وكذلك الحفاظ على القيمة الموثوقة لعملتهم المحلية.
الأسبوع الماضي، قالت رئيسة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد إن التضخم العالمي قد يصل إلى ذروته، لكنها حذرت من أن المستهلكين معرضون لخطر مواجهة ضغوط مستمرة من ارتفاع تكاليف المعيشة بسبب انهيار سلاسل التوريد العالمية.
وهناك مؤشرات على أن الارتفاع العالمي في أسعار المستهلكين منذ تفشي جائحة كورونا، والذي فاقمته الحرب الروسية في أوكرانيا، يقترب من ذروته، وأن النسب الحالية ليست هي القمة. ويظهر ذلك في اتحاد البنوك المركزية حول العالم في مكافحة التضخم كأولوية قصوى؛ وإذا لم تنجح فسيتراجع أساس النمو وهو استقرار الأسعار. وتشهد نسب التضخم العالمية مستويات غير مسبوقة في بلدان مثل الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، وعند قمة 4 عقود في بلد مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
والإثنين 13 نوفمبر/تشرين الثاني، قال وزير المالية الفرنسي، برونو لو مير، إن أوروبا وفرنسا تدفعان ثمناً باهظاً لتصرفات روسيا في أوكرانيا من خلال ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم، وإن الأولوية الاقتصادية لفرنسا هي خفضها، بحسب رويترز.
وقال لو مير لوزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، في بداية اجتماع ثنائي على هامش قمة مجموعة العشرين، إن من المهم للولايات المتحدة وفرنسا التعاون لخفض التضخم. وأضاف لو مير: "لذلك أعتقد فعلاً أن هذه هي القضية المطروحة على الطاولة، وهي كيفية خفض أسعار الطاقة وكيفية التخلص من التضخم".
أزمة الطاقة.. كارثة أخرى مرشحة للتفاقم
كشف تقرير الأسبوع الماضي لوكالة الطاقة الدولية أن آفاق الطاقة العالمية 2022 تظهر أن أزمة الطاقة يمكن أن تكون نقطة تحول تاريخية نحو مستقبل أنظف وأكثر أماناً، لكنه مكلف ويحتاج وقتاً.
وتسببت أزمة الطاقة العالمية الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية في حدوث تغييرات عميقة وطويلة الأمد، لديها القدرة على تسريع الانتقال إلى نظام طاقة أكثر استدامة وأماناً.
أزمة الطاقة اليوم تتسبب في صدمة ذات اتساع وتعقيد غير مسبوقين؛ إذ تم الشعور بأكبر الهزات في أسواق الغاز الطبيعي والفحم والكهرباء، مع اضطراب كبير في أسواق النفط أيضاً. وبسبب أزمة النفط، استلزم إطلاق مخزون نفط لا مثيل له من قبل الدول الأعضاء في وكالة الطاقة الدولية لتجنب المزيد من الاضطرابات الشديدة.
وحذرت وكالة الطاقة الدولية من هشاشة وعدم استدامة نظام الطاقة العالمي الحالي، في ظل المخاوف الجيوسياسية والاقتصادية التي لا تلين، ولا تزال أسواق الطاقة ضعيفة للغاية.
وإلى جانب التدابير قصيرة المدى لمحاولة حماية المستهلكين من آثار الأزمة، خاصة في موضوع الكهرباء، تتخذ العديد من الحكومات الآن خطوات لزيادة أو تنويع إمدادات النفط والغاز، ويتطلع الكثيرون إلى تسريع التغييرات الهيكلية.
من الطبيعي، في ظل تلك الأزمات المتشابكة والمتزامنة أن يشهد النشاط الاقتصادي العالمي تباطؤاً واسع النطاق وأكثر حدة من المتوقع، مع ارتفاع معدل التضخم عما كان عليه منذ عدة عقود.
ووفق تقرير الشهر الماضي، لصندوق النقد الدولي، تؤثر أزمة تكلفة المعيشة والأوضاع المالية المشددة في معظم المناطق، والحرب الروسية الأوكرانية وفيروس كورونا الذي طال أمده، بشكل كبير على التوقعات.
إذ من المتوقع أن يتباطأ النمو العالمي من 6% في 2021 إلى 3.2% في 2022 و2.7% في عام 2023. وهذا هو أضعف معدل نمو منذ عام 2001 باستثناء الأزمة المالية العالمية والمرحلة الحادة لوباء فيروس كورونا، وفق بيانات الصندوق.
وتعليقاً على تلك التوقعات، قال الصندوق في بيانه إن العالم ينتظره "عام أكثر كآبة مما كان متوقعاً"، مشيراً إلى تدهور مطرد في استطلاعات مديري المشتريات في الأشهر الأخيرة. وأنحى الصندوق باللوم في التوقعات الأكثر قتامة على تشديد السياسة النقدية الناجم عن استمرار التضخم المرتفع والواسع النطاق وضعف زخم النمو في الصين واستمرار الخلل في الإمدادات وانعدام الأمن الغذائي الناجم عن الغزو الروسي لأوكرانيا.
وقال الصندوق في مدونة معدة لقمة زعماء مجموعة العشرين في إندونيسيا إن أحدث المؤشرات "تؤكد أن التوقعات أكثر كآبة"، ولا سيما في أوروبا. وأضاف أن المؤشرات الحديثة لمديري المشتريات التي تقيس نشاط التصنيع والخدمات توضح ضعف معظم اقتصادات مجموعة العشرين، مع توقع تقلص النشاط الاقتصادي في الوقت الذي ما زال فيه التضخم مرتفعاً.
الحرب الباردة الجديدة بين الصين وأمريكا
في ظل هذه الأجواء الاقتصادية الملبدة بغيوم كثيفة، يحتاج العالم بلا شك إلى تعاون مكثف للبحث عن حلول سريعة وجذرية لتفادي كارثة الركود التضخمي على المدى القصير، ووضع الأسس لاستعادة التعافي الاقتصادي تدريجياً على المدى البعيد.
لكن المؤشرات الجيوسياسية التي تغلف المسرح العالمي الآن ترسم صورة مغايرة تماماً لهذه الأجواء المطلوبة للمرور من عنق الزجاجة. فالتنافس بين أكبر اقتصادين في العالم، أي الصين وأمريكا، قد تخطى مرحلة التعايش السلمي ودخل مرحلة الحرب الباردة شكلاً ومضموناً، ولم يعد هذا الأمر سراً أو مجرد توقعات أو تحليلات.
فاللقاء الأول الذي يجمع الرئيس الأمريكي جو بايدن بنظيره الصيني شي جين بينغ لا تحمل أجندته شيئاً يمثل بارقة أمل لباقي العالم، ففي واشنطن يتركز الحديث حول ما إذا كان بايدن سيثير قضية "أصل فيروس كورونا وقضية حقوق الإيغور" مع شي، وفي الصين ينتظر قادة الحزب الشيوعي الصيني من زعيمهم أن يكون صارماً، وأن يحسم قضية تايوان.
وفي كلمته أمام قمة شرق آسيا (آسيان) في كمبوديا، قال بايدن إن الولايات المتحدة ستظل تتنافس مع الصين وتنتقد علانية سجلها في مجال حقوق الإنسان، لكنه شدد على أهمية السلام في مضيق تايوان وضمان حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي.
ونقل بيان البيت الأبيض عن بايدن القول فيما يتعلق بالصين إن "الولايات المتحدة ستتنافس بقوة… وستُبقي في الوقت نفسه خطوط الاتصال مفتوحة لضمان عدم تحول المنافسة إلى صراع".
وألقى تقرير لوكالة بلومبيرغ الأمريكية مزيداً من الكآبة فيما يتعلق بالعلاقات بين بكين وواشنطن على المدى القريب، رصد كيف أن "المنافسة بين القوى العظمى سيظهر تأثيرها السلبي جلياً على العالم بأسره خلال العام المقبل".
"من سيئ إلى أسوأ.. المخاطر الاقتصادية التي كانت متوقعة العام المقبل أصبحت واقعاً هذه الأيام"، تحت هذا العنوان رصد تقرير بلومبيرغ كيف أن المنافسة الشرسة بين الولايات المتحدة والصين هي العامل الأبرز الذي سيضيف مزيداً من الضغوط على الاقتصاد العالمي المنكمش بالفعل.
فالنمو الصاروخي للاقتصاد الصيني بدأ منحنى التراجع بالفعل، وتفعل الإدارة الأمريكية كل ما تستطيعه لحرمان بكين من أي فرصة لاستعادة هذا النمو، في ظل التنافس الشرس بينهما للهيمنة على العالم، في إعادة لمشهد بدايات الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو ما سيفاقم ولا شك من التحديات الاقتصادية الخانقة التي تواجه أغلب دول العالم، ليس فقط الدول ذات الاقتصادات الهشة، ولكن حتى دولاً متقدمة كالاتحاد الأوروبي.
الخلاصة هنا هي أن الملفات الاقتصادية الصعبة، من أزمات الديون والتضخم وأسعار الطاقة والتباطؤ الاقتصادي، ستكون حاضرة على طاولة الاجتماعات في قمة العشرين، لكن شي وبايدن سيكون شغلهما الشاغل هو الصراع الجيوسياسي المستعر بين الصين وأمريكا، ما يرجح ألا يجد العالم متنفساً يحتاجه بشدة قبل أن تبدأ 2023، العام المتوقع أن يكون أسوأ مما يعانيه العالم اليوم.