ازداد قلق المؤسسات الدولية ومقرضي مصر من بعض الدول العربية بشأن عدم قدرة القاهرة على الخروج من أزمتها المالية، حتى بعد حصولها على قرض صندوق النقد الدولي، لأن حجم التزامات مصر المالية بالدولار أكبر بكثير من المتاح لها، وظهر ذلك في تخفيض وكالة فيتش للتصنيفات الائتمانية من مستقرة لسلبية.
ويعاني الاقتصاد المصري من أزمة حدثت نتيجة التداعيات الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث أثر ارتفاع أسعار النفط والسلع، بشدة على مصر التي تعد أحد أكبر مستوردي القمح في العالم. وسحب مستثمرو المحافظ الأجنبية حوالي 22 مليار دولار من مصر التي كانت في السابق سوقاً مفضلاً للديون، ويرى محللون أن التوسع في الديون خلال السنوات الماضية، وتثبيت سعر العملة، فاقم الأزمة المالية المصرية.
ولدى مصر فجوة في التمويل الخارجي تبلغ 16 مليار دولار على مدى 4 سنوات تقريباً، ولكن القاهرة تعتقد أنها ستؤمن أموالاً كافية لتغطية احتياجاتها بالكامل؛ لأن قرض صندوق النقد الدولي يمكن أن يفتح مصادر التمويل القادمة من الخارج، ولكن مؤسسات دولية تشكك في ذلك أو على الأقل في سرعة تدفق الأموال على القاهرة من الأسواق الدولية المتوجسة.
وتهدف مصر، إحدى أكثر دول الشرق الأوسط مديونية، إلى خفض نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 70.4% في السنة المالية التي تنتهي في يونيو/حزيران 2027. وذلك بالمقارنة مع 85.3% في السنة الماضية، وسيكون هذا هو الأدنى منذ عام 2010 على الأقل.
لماذا خفضت فيتش نظرتها المستقبلية لمصر؟
راجعت مؤسسة فيتش الأمريكية توقعاتها لمصر قائلة إن ضعف السيولة الخارجية وانخفاض احتمالات الوصول إلى أسواق السندات يجعلها عرضة للصدمات العالمية.
وبينما قامت وكالة قياس التصنيف بمراجعة التوقعات بشأن التصنيف الافتراضي طويل الأجل لمُصدِر العملات الأجنبية في مصر إلى سلبي من مستقر، لكنها ثبتت معدل تصنيف مصر الائتماني عند "B+".
وجاء تثبيت تصنيف مصر نتيجة الاقتصاد الضخم للبلد والنمو القوي "الذي توقعت أن يظل أعلى من المتوسط "B" عند 4.5٪ في السنة المالية 2023 و6.6٪ في 2024، ولكنها قالت إن الظروف النقدية الصارمة وتوافر التمويل تشكل مخاطر كبيرة على النمو في مصر.
وقالت فيتش إن تصنيف مصر B+ يعكس الدعم من الشركاء الثنائيين ومتعددي الأطراف، حيث تتوقع البلاد المزيد من الاستثمارات من دول مجلس التعاون الخليجي، حيث تم الانتهاء من عمليات استحواذ بقيمة 3.6 مليار دولار حتى الآن في عام 2022.
في تقرير صدر يوم الثلاثاء، أشارت وكالة فيتش أيضاً إلى انخفاض الاحتياطيات الأجنبية هذا العام، قائلة إنها تساوي الآن ما يزيد قليلاً عن 3 أشهر من المدفوعات الخارجية الحالية.
وتعافت أصول البنك المركزي المصري بالعملات الأجنبية غير الاحتياطية، ومعظمها ودائع في البنوك المحلية، إلى ملياريْ دولار بحلول أكتوبر/تشرين الأول 2022، من 1.5 مليار دولار في مارس/آذار الماضي، وإن كانت لا تزال أقل بكثير من مستواها في فبراير/شباط 2022 البالغ 9 مليارات دولار.
وانخفضت السيولة الخارجية مدفوعة بالتدفقات الخارجة لاستثمارات غير المقيمين في الديون الحكومية الصادرة محلياً، إلى حوالي 13 مليار دولار بحلول سبتمبر/أيلول 2022، من أكثر من 17 مليار دولار في مارس/آذار 2022 وأكثر من 30 مليار دولار في عام 2021.
بعد تخفيض قيمة العملة في أكتوبر/تشرين الأول 2022، ورفع أسعار الفائدة، واتفاق على قرض بقيمة 3 مليارات دولار مع صندوق النقد الدولي ومليار إضافي من صندوق تابع له، من المحتمل حدوث بعض التعافي على الرغم من أن "40٪ من حيازات المحافظ الاحتياطية تظل نقطة ضعف كبيرة"، حسبما قالت فيتش.
مصر تبحث عن تمويل إضافي ولكن الأسواق الدولية لم تستجب
وتكثف مصر جهودها لتوسيع إصدار السندات، وتأمل في تحسين الوصول إلى أسواق رأس المال في النصف الثاني من العام المقبل.
ورغم حصول مصر على حزمة إنقاذ من صندوق النقد الدولي، وتجميد سداد مليارات أخرى من التمويلات الثنائية المقدمة من الدول العربية من قبل، وتبني القاهرة نظام عملة أكثر مرونة وزيادة أسعار الفائدة. إلا أنه سرعان ما تبدد أي توقع بأن موجة الأنباء السارة ستُحدث انتعاشة في السوق، حيث بدأ تراجع السندات المصرية وارتفعت تكلفة تأمين ديون البلاد ضد التخلف عن السداد في الأسواق الدولية.
وقالت وكالة بلومبيرغ الأمريكية إن سوق الديون الدولية لم يستجب لاتفاق مصر مع صندوق النقد حتى الآن، فالسندات المصرية تتراجع مع تجاهل المضاربين لاتفاق قرض صندوق النقد الدولي والإصلاحات المنتظرة، خاصة أن مسار بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي المتشدد برفع الفائدة يحد من الإقبال على الاستثمارات الخطرة في الدول النامية.
وتعلق الوكالة الأمريكية قائلة تبدو الاستراتيجية الخاصة بمصر التي يقودها صندوق النقد الدولي لتجاوز أزمة الديون بمثابة وصفة ممتازة لجلب مزيد من التمويل عبر الديون من الأسواق الدولية، إلا أن صناديق إدارة الثروات العالمية تشكك في نجاعة هذه الخطة.
فالاستجابة المتشككة من جانب حاملي السندات تجاه الإعلانات المصرية الحاسمة والمفاجئة ربما تقدم درساً للدول التي تعاني من نقاط ضعف مالية مشابهة على غرار باكستان والأرجنتين وغانا، حسب بلومبيرغ، فلم تعد الوعود المجردة كافية لتبديد هذه الشكوك، إذ يطالب المستثمرون بتقديم دليل على أن البلدان تتخذ الإجراءات الحاسمة اللازمة لسد فجوات التمويل والحد من الديون.
من المقرر أن يتقلص عجز الحساب الجاري لمصر إلى 3.1٪ من الناتج المحلي الإجمالي (13 مليار دولار) في السنة المالية المنتهية في يونيو/حزيران 2023 من 3.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2022 و4.4٪ في السنة المالية 2021. سيكون هناك "المزيد من التحسينات في السنة المالية 2023 سيكون مدفوعاً بشكل أساسي بارتفاع رسوم الشحن في قناة السويس ومزيد من النمو في السياحة".
وقال وزير المالية المصري محمد معيط في مقابلة إن صفقة صندوق النقد الدولي البالغة قيمتها 3 مليارات دولار "ممولة بالكامل"، ما يعني أن متطلبات التمويل لمصر ستُلبى خلال مدة البرنامج البالغة 46 شهراً. وقال إن بعض المستثمرين اتصلوا بالفعل بالوزارة لطرح خاص لسندات إسلامية، وهو خيار تدرسه الشركة الآن، حسبما نقل عنه موقع قناة "العربية".
وقال معيط في منتجع شرم الشيخ المصري مكان انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي هذا العام: "نتعامل مع الظروف الصعبة للسوق الدولي من خلال تنويع مصادر تمويلنا". "نرى إمكانات في أسواق السندات الصينية واليابانية والصكوك، ونعمل على إصدار سندات مستدامة".
وأضاف معيط: "لقد رأينا بعض التدفقات في سوق الدين المحلي في الأيام الأخيرة بعد خفض قيمة العملة واتفاق صندوق النقد الدولي". لكنه قال: "علينا أن نتعلم الدرس، وهو أن هذا النوع من التدفقات ليس آمناً، ويجب على مصر التركيز على تعزيز الاستثمار الأجنبي المباشر والصادرات".
وتتوقع الحكومة صافي تدفقات المحفظة الوافدة إلى ملياري دولار لكل من السنوات المالية الأربع، بما في ذلك السنة الحالية التي تنتهي في يونيو/حزيران 2023.
من المقرر أن يشمل التمويل في 2022-2023 شريحة أولى بقيمة 750 مليون دولار من صندوق النقد الدولي، وإقراض البنك الدولي للأمن الغذائي وقرض مساعدة الميزانية الذي يساهم فيه أيضاً البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية وخزانة المملكة المتحدة، وفقاً لما قاله معيط.
ومن المتوقع أن يبلغ الاستثمار الأجنبي المباشر 10 مليارات دولار في السنة المالية الحالية، مع هدف 13 مليار دولار في 2025-2026. قد يأتي جزء كبير من أرقام 2022-2023 من بيع حصص مملوكة للدولة في شركات مصرية إلى حلفائها الخليجيين.
ورغم ذلك، تواجه مصر الآن مهمة صعبة في إعادة بناء احتياطياتها الأجنبية، حيث إن العجز المتوقع في الحساب الجاري للبلاد وتسديد الديون على مدى الأشهر الـ18 المقبلة هو تقريباً نفس احتياطياتها البالغة 33 مليار دولار.
لماذا كان حجم قرض صندوق النقد أقل من المتوقع؟ وفيم تحتاجه القاهرة؟
كان قرض صندوق النقد الدولي الذي تم توقيع الاتفاق الخاص به في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2022 أكثر تواضعاً مما كان متوقعاً (4 مليارات دولار)، ويبدو السبب أن القاهرة استنزفت أرصدتها لدى صندوق النقد بعد أن اقترضت منه مرتين خلال 6 سنوات، وأصبحت ثاني مدين للصندوق بعد الأرجنتين المشهورة بتخلفها عن سداد ديونها.
والقرض الذي حصلت عليه مصر من الصندوق عام 2016، كان أكبر بكثير من القرض الأخير، حيث كان بقيمة 12 مليار دولار، رغم أن الاقتصاد المصري كان أصغر، والديون كانت تبلغ ثلث الرقم الحالي الذي يزيد عن 150 مليار دولار.
وتعتمد فعالية قرض صندوق النقد الجديد على أنه سيكون بجانبه تمويل ثنائي إضافي من عدد من الدول الصديقة لمصر.
الحل قد يكون في مزيد من الدعم الخليجي
المشكلة في ضوء ما سبق: يبدو استغلال أسواق الديون الدولية أمراً غير وارد، الاضطرابات الاقتصادية سوف تجعل المستثمرين الأجانب حذرين في العودة لمصر. وبالتالي من المحتمل أن تتجه القاهرة إلى طلب مزيد من الدعم من أصدقائها في الخليج، حسب تقرير لمجلة The Economist البريطانية.
بين أكتوبر/تشرين الأول 2021 ومارس/آذار من هذا العام، أقرضت الكويت والسعودية والإمارات مصر 18 مليار دولار للاحتفاظ باحتياطياتها الأجنبية. وأفاد صندوق النقد الدولي أنه يجري العمل على صفقة تمويل أخرى من أصدقاء مصر بقيمة 5 مليارات دولار، على الرغم من أنها لم تذكر من أين ستأتي الأموال.
مصر ليست الدولة الوحيدة التي تعتمد على هذا الشكل غير العادي من الكرم الأجنبي، حسب وصف مجلة The Economist.
تقدم الودائع والمبادلات حلاً سريعاً؛ حيث تكون شروطها مخففة، وتميل أن تفرض أسعار فائدة منخفضة.
في أغسطس/آب، جددت المملكة العربية السعودية وديعة بقيمة 3 مليارات دولار في البنك المركزي الباكستاني، الذي تلقى عرضاً باليوان من الصين بقيمة ملياريْ دولار. وبينما تكافح الأرجنتين للحفاظ على البيزو ثابتاً مقابل الدولار، يأتي حوالي 60٪ من احتياطياتها من مقايضة عملة صينية بقيمة 23 مليار دولار.
ولكن رغم هذه الودائع الثنائية يمكن أن تصبح الاحتياطيات الأجنبية المستنزفة كابوساً لمحافظي البنوك المركزية. تُترك الحكومات غير قادرة على سداد القروض، ويجب في بعض الأحيان تقييد عمليات السحب وفرض ضوابط على الواردات. قد يتبع ذلك نقص في السلع الأساسية، وهو ما بدأ يحدث في مصر.
هذه السيناريوهات في الأسواق الناشئة تهدد بأن يتسبب ذعر المستثمرين الأجانب في أزمة عملة.
دول الخليج لا تريد انهيار مصر ولكن تخشى ألا تستعيد أموالها
رسمياً، يريد المقرضون الخليجيون استعادة أموالهم التي قدموها لمصر. لكن تجديد هذه الودائع أمر شائع. بالنظر إلى السرعة التي أحرقت بها مصر وباكستان احتياطياتهما، فمن غير الواضح ما إذا كان بإمكانهما إعادة الأموال إذا لزم الأمر، حسب المجلة البريطانية.
عندما تتم مثل هذه الاتفاقات الثنائية، يربح المدين فجأة قدراً كبيراً من السيولة الأجنبية.
لسنوات، حجبت مقايضة اليوان الصيني في الأرجنتين التراجع السريع للأموال الأجنبية في البلاد. لكن على عكس المقرضين الخليجيين، تفرض الصين شروطاً صارمة على أموالها. في بعض الظروف، يحتاج المسؤولون الأرجنتينيون إلى إذن بكين لاستخدام الأموال الصينية المودعة لدى بيونيس آيريس.
قد ينتهي الوضع في مصر بمشكلة أخرى مع هذا النوع من الإقراض غير الرسمي. ليس من الواضح تماماً كيف سيتم التعامل مع ودائع المقرضين إذا تخلفت الدولة عن السداد. سيتعين اختبار وضعهم خلال عملية إعادة الهيكلة. وكما يلاحظ براد سيتسر من مجلس العلاقات الخارجية، وهو مؤسسة فكرية في نيويورك، فإن هذا يضع احتمالية المواجهة بين المانحين.
تم تقديم قروض لمصر من المملكة العربية السعودية في وقت سابق من العام، عندما لم يكن الوضع الاقتصادي في مصر بهذا السوء.
كلا الجانبين السعودية وصندوق النقد يتطلعان الآن إلى إخراج نفسيهما من موقف حرج.
ولا يريد صندوق النقد والسعودية (الداعم الأكبر لمصر) تقديم المزيد من القروض الكبيرة. لكنهم لا يريدون أن يخسروا أموالهم، أو أن تغرق مصر.