مع نهاية الحرب العالمية الأولى، بدأ القلق يتنامى في ألمانيا نتيجة الخسارة الفادحة للشباب الألماني، فقد قتل أكثر من مليونيْ رجل ألماني في الحرب.
سرعان ما بدأ ذلك القلق يتحوّل إلى خوفٍ لدى السلطات الألمانية، خصوصاً بين سنوات 1920 و1932، وذلك بعد أن انخفض معدل المواليد في ألمانيا بنسبة 43%، بالمقابل عرفت نسبة الإجهاض بين الألمانيات ارتفاعاً كبيراً وصل حينها إلى 600 ألف حالة سنوياً، حسب تقريرٍ لـ dailymail.
الهوس الآري.. لماذا أطلق هتلر برنامج ليبينزبورن؟
عندما استولى الزعيم الألماني أدولف هتلر ورئيس القوات الخاصة الألمانية (الإس إس) هاينريش هملر، على مقاليد السلطة في ألمانيا عام 1933، خطط الرجلان معاً من أجل سباقٍ رئيسي حول العرق الذي كانا يعتقدان أنه الأفضل والأمثل، من أجل أن يسود ويحكم ألمانيا وأوروبا.
كانت الخطوة الرئيسية الأولى نحو هذا التطلع لتجسيد رؤية هتلر وهملر هي فصل الألمان "الأصليين" عن الأقليات حسب magellantv.
في سبتمبر/أيلول 1935، بدأت المساعي النازية لتجسيد تلك الرؤية، عبر إقرار قانون رايخ للمواطنة وقانون حماية الدم والشرف الألماني، جسدت هذه القوانين العديد من النظريات العرقية التي تقوم عليها الأيديولوجية النازية الجديدة التي ترى بأفضلية العرق الآري على غيره، من خلال الفصل والقمع على نطاق واسع لليهود وغيرهم من غير الآريين، وكذلك المعارضين السياسيين والمرضى العقليين.
كما أصدرت السلطات النازية تعليمات للألمان بعدم إقامة علاقات جنسية خارج "عرقهم"، وتم حظر الزواج بين الألمان من "العرق الآري" وغيرهم من الأعراق الأخرى، كما تم إخصاء المواطنين الألمان من "غير المرغوب فيهم" لأسباب عرقية أو صحية، وذلك من أجل منعهم من الإنجاب.
برنامج ليبينزبورن.. مخطط هتلر الجهنمي للحفاظ على العرق الآري
من جانب آخر، ولضمان تفوق العرق الذي تعتبره السلطات النازية ذا مستوى قيّم على الأقليات المكوّنة لألمانيا النازية، سعت السلطات النازية إلى الرفع من نسبة مواليد ذلك العرق.
وفي سبيل ذلك، تم إنشاء برنامج ليبينزبورن بواسطة قوات الأمن الخاصة الألمانية (الإس إس) في أواخر عام 1935، من أجل تعزيز نمو السكان "الآريين" الأصحاء في ألمانيا.
تأثر برنامج ليبينزبورن بشدة بالأيديولوجية العرقية النازية ونظريات تحسين النسل، بحيث تمّ قبول المتقدمين الأصحاء الذين يمكن أن يثبتوا سلفهم "الآري" فقط.
فحصت قوات الأمن الخاصة التاريخ الطبي الشخصي للأفراد المسجلين في البرنامج، وكذلك سجلات عائلاتهم.
تم حرمان الأشخاص الذين لديهم تاريخ عائلي من الإعاقات الجسدية أو العقلية أو النفسية.
قدمت النظريات النازية لعلم تحسين النسل، فكرة أن السمات الشخصية مثل الولاء والشجاعة، يمكن توريثها وتعزيزها من خلال عملية التربية الانتقائية.
وبهذه الطريقة، كانت قوات الأمن الخاصة الألمانية التي كانت تقود المشروع، تأمل في تحفيز نمو النخبة العرقية الألمانية القوية لدفع الأهداف النازية من أجل احتلال أراضي أوروبا الشرقية.
كان زعيم قوات الأمن الخاصة الألمانية الجنرال هاينريش هيملر، يعتقد أن رجال قوات الأمن الخاصة الذين كانوا تحت قيادته، كانوا النخبة البيولوجية والعرقية لألمانيا النازية، وحثهم على تكوين عائلات كبيرة من أجل سيادة العرق الألماني.
أشرف هيملر شخصياً على العديد من جوانب برنامج ليبينزبورن، وشجع رجال القوات الخاصة على الزواج مبكراً وإنجاب 4 أطفال على الأقل، كما قدّم البرنامج مساعدة مالية لرجال قوات الأمن الخاصة الذين لديهم عائلات كبيرة.
ركّز برنامج ليبينزبورن على جذب النساء "الآريات" غير المتزوجات والحوامل، وفي ذلك الوقت، كانت هناك ضغوط شديدة ضد الأمومة العزباء في المجتمع الألماني، وقدم البرنامج للأمهات خدمات الدعم المالي والتبني. كما قدمت سلسلة من دور الولادة الخاصة بعيداً عن أعين أفراد الأسرة والأصدقاء والمعارف.
بتلك الطريقة، كان هيملر يأمل في الحدّ من عمليات الإجهاض، وعزز النظام النازي القوانين الألمانية الحالية التي تحظر معظم عمليات الإجهاض.
في الوقت نفسه، كان النظام النازي يدير محاكم "الصحة الوراثية" التي أمرت بالإجهاض والإخصاء للذين تقرر السلطات النازية أنهم ليسوا من "مخزون عرقي جيد".
على الرغم من عقوبات النظام النازي المتزايدة لإجهاض العرق الآري، قدّر هيملر أن هناك ما لا يقل عن 100 ألف حالة حمل "ذات قيمة بيولوجية" يتم إنهاؤها في ألمانيا كل عام.
تم تصميم منازل برنامج ليبنزبورن لتكون مساحات ممتعة، حيث يمكن للنساء العيش بشكل مريح أثناء تلقيهن رعاية ما قبل الولادة، وأثناء ولادة أطفالهن، وفترة التعافي من المخاض.
بحسب BBC، ولد ما بين عامي 1935 و1945، حوالي 10 آلاف طفل ألماني، وما يقدر بنحو 9 آلاف طفل نرويجي بخصائص "آرية" من الشعر الأشقر والعيون الزرقاء، وذلك من خلال برنامج ليبنزبورن.
400 ألف طفل ضحايا لبرنامج ليبينزبورن
في سياق الحرب العالمية الثانية، ومثل العديد من جوانب علم تحسين النسل النازي، أصبح برنامج ليبنزبورن متطرفاً للغاية، فقد نمت الحاجة الكبيرة للبرنامج خلال تلك الفترة، حيث أصبح هيملر قلقاً من أن الخسائر الألمانية الحتمية ستكلف الأمة الألمانية الآلاف من جنودها "ذوي القيمة من الناحية العرقية".
وحينما لم يتمكن النازيون من إنجاب عدد كافٍ من أطفال "العرق الخارق"، سعى النازيون إلى إيجاد أطفال "ذوي قيمة عرقية" من السكان غير الألمان، أي أولئك الذين لديهم سمات "آرية" مثل الشعر الأشقر والعيون الزرقاء أو الخضراء.
خلال الحرب، سعت قوات الأمن الخاصة للبحث عن الألمان الذين يعيشون في بلدان أجنبية، وقامت "بإعادتهم" إلى الرايخ الثالث رفقة أطفالهم.
كما تم اختطاف آلاف الأطفال -معظمهم من شرق وجنوب شرق أوروبا- لأنهم ينحدرون من أصول ألمانية، أو ببساطة بسبب "السمات العرقية" التي كانت تراها السلطات النازية مناسبة.
حسب family court of justice، تم إعطاء الأطفال الأنقياء عرقياً، اسماً جديداً وشهادة ميلاد جديدة وسلسلة نسب مزورة، وأمر هيملر بإرسال إلى ألمانيا النازية؛ الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين عامين إلى 6 أعوام، يرسلون إلى دور "نبع الحياة"، حتى تتبناهم عائلة ألمانية، أما الذين تتراوح أعمارهم بين 6 إلى 12 عاماً، فيرسلون إلى مدارس منزلية خاصة، لتعليمهم مبادئ الأيديولوجية النازية.
تعرض الأطفال الذين قاوموا "الجرمنة" إلى سوء المعاملة والضرب والتخدير والحرمان من الطعام، وإذا لم يمتثل هؤلاء الأطفال إلى الواقع الجديد، فستقوم قوات "الإس إس" بقتلهم أو إرسالهم إلى معسكرات الاعتقال.
كانت السلطات الألمانية تجري فحوصاتٍ للأطفال المنتقين عرقياً للتأكد من أنّ عرقهم نقيّ وينتمي إلى العرق الآري، وفي حال تمّ إقصاء أي طفلٍ من الأطفال المختطفين، فسيكون أمامه خياران:
إذا كان فوق سنّ 12 سنة، فستقوم القوات الخاصة بإرساله إلى مراكز القتل الرحيم، أو إرسالهم إلى مراكز خاصة، ليتمّ استخدامهم فيها فئران تجارب لتجاربهم الصحية؛ إذ يقوم الألمان النازيون بمنحهم أدوية نفسية ومواد كيمائية لإجراء الفحوصات الطبية.
أمّا الخيار الآخر، فهو الإعدام؛ إذ يجبر الطفل المقصى على الجلوس على كرسي معصوب العينيين، ويضع الجلاد يد الطفل خلف مؤخرة رقبته، واليد الأخرى خلف عظام الكتف، مع بروز الصدر للأمام، ثم يحقن الطفل بحقنة فينلون، لا يستغرق الطفل وقتاً ليلفظ أنفاسه، ثم يحمله الجلاد ويلقي الجثة بجوار العديد من الجثث، بهذه الطريقة الباردة قضى أكثر من 200 طفل بولندي نحبهم في معسكر "اعتقال أوشفيتز".
وخلال فترة الحرب العالمية الثانية، خطف النازيون نحو 400 ألف طفل، من ضمنهم أكثر من 200 ألف طفل بولندي، ومع نهاية الحرب، فقدت النسبة الكبرى من هؤلاء الأطفال عائلاتهم الحقيقية للأبد، فبينما واصل بعضهم حياته لدى العائلات التي تبنتهم اضطر البعض الآخر للبقاء بدور اليتامى أو العيش بالشوارع والتشرد، بحسب ما ورد في تقرير لـ dw.
محاكمات نورمبيرغ تفصل في جرائم برنامج ليبينزبورن
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا، وفشل سياسة الجرمنة التي انتهجها النازيون، التقطت الدول التي كانت خاضعة لسيطرة ألمانيا أنفاسها، وبدأت بالتحرك لمحاسبة ألمانيا على تلك الجرائم البشعة التي ارتكبتها، وفي ذلك الوقت سعت بولندا وغيرها من الدول المجاورة لألمانيا إلى استعادة أطفالها المختطفين.
وخوفاً من المحاسبة، شرع النازيون في وقت مبكرٍ في إتلاف سجلات برنامج ليبنزبورن، وذلك منذ مطلع عام 1945، لكنّ ذلك لم يمنع المحققين من جمع الكثير من المعلومات حول الأطفال المختطفين، وذلك عبر وكلاء البحث عن المفقودين التابعين للأمم المتحدة الذين أجروا مقابلات مع العائلات والأطفال الأكبر سناً.
في الأخير، أعيد حوالي 25 ألف طفل بولندي من أصل 200 ألف تم الإبلاغ عن فقدهم إلى عائلاتهم، وذلك من خلال جهود فرق البحث عن المفقودين الفردية التابعة للأمم المتحدة، بينما فشلت المساعي في إعادة مئات الآلاف الآخرين، وفي نهاية المطاف وجد الباحثون أنه من المستحيل تقريباً تحديد عدد الأطفال الذين تم اختطافهم وعدد الناجين منهم، وذلك حسب family court justice.
ما بين عام 1947 وعام 1948 م، أجرت قوات الحلفاء سلسلة من المحاكمات العسكرية وفقاً للقانون الدولي وقوانين الحرب تعرف باسم محاكمات نورنبرغ، وذلك لمحاكمة كبار المسؤولين النازيين عن الجرائم البشعة التي ارتكبوها تجاه البشرية والإنسانية، وكان أهمها "القضية رقم 8"، والتي تعرف بقضية مكتب الأعراق والتجمعات العرقية، والتي اتهم فيها 14 مسؤولاً نازياً.
استمرت المحاكمة من 20 أكتوبر/تشرين الأوّل 1947 حتى 17 فبراير/شباط 1948، وأصدرت المحكمة حكمها في 10 مارس/آذار 1948، وحُكم على المتهم الرئيسي، أولريش جريفيلت، بالسجن المؤبد.