من المتفق عليه أن العالم الإسلامي اليوم يعيش حالة من التشرذم السياسي والتفكك الجغرافي منذ سقوط الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة الإسلامية وتوقيع اتفاقية سايس بيكو، التي قسمت مناطق نفوذ الدولة العثمانية إلى دويلات متفرقة.
صحيح أن المسلمين لم يعودوا كما كانوا قوة عظمى أو مؤثرة في العالم الحديث في أي مجال من المجالات، بل صاروا فوق ذلك منقسمين على أنفسهم، متنافسين فيما بينهم، تنخرهم الفتن والحروب الأهلية والنزاعات القومية والانقلابات العسكرية.
وفي ظل هذا الواقع أصبح المسلمون الذين فرقتهم الحدود الجغرافية وتقاسمتهم الأهواء السياسية والعصبية القومية بالأمس ضحية التجاذبات الإقليمية والصراعات الدولية في كل مكان.
إلا أن الأدهى والأمر من ذلك هو ما أصبح عليه واقع بعض المسلمين في الدول التي تعتبر أيديولوجياً الإسلام والمسلمين خطراً عليها، ووقوعهم فريسة سهلة تنهشها ما تسمى القوى العظمى، فرغم أن العالم الإسلامي عاش كثيراً من ويلات الاستعمار والقهر والنهب في القرن المنصرم على يد القوى الإمبريالية آنذاك، فإن ما يشهده اليوم ويتعرض له من القوى الصاعدة في الهند والصين وروسيا قد يكون أكبر وأخطر مما سبق بكثير.
المسلمون في الصين: حرب على الدين والثقافة والعرق
الصين كغيرها من القوى العالمية لها تاريخ قديم من الصراع مع المسلمين يعود إلى أيام الفتح الإسلامي في الدولة الأموية، وبالتحديد على يد القائد الإسلامي قتيبة بن مسلم الباهلي، وما تلاه من غزو المغول للعالم الإسلامي وهزيمتهم بعد ذلك في معركة عين جالوت، وهو صراع يبدو أنه بدأ ينبعث من جديد في العصر الحديث، خصوصاً بعد تولي الحزب الشيوعي الحاكم في الصين ومطالبة تركستان الشرقية بالاستقلال بالإضافة إلى ذلك.
على أن الصراع في طياته قائم على أسس أيديولوجية وعرقية؛ بسبب عقيدة الحزب الشيوعي القائمة على معاداة كل ما يمت للدين بصلة، خصوصاً الإسلام.
وعلى ذلك الأساس تحاول الصين جاهدة القضاء على أقلية الإيغور المسلمة بشتى الطرق والوسائل، بدءاً بمعسكرات الاعتقال الجماعي، ومنع ممارسات الشعائر الإسلامية، والتعذيب والإخفاء القسري، وصولاً إلى محاولات الإبادة العرقية، باستخدام التعقيم القسري، وطمس الهوية الثقافية والدينية بمنع الأطفال من الصلاة في المساجد، ومنع تسمية المواليد الجدد بأسماء إسلامية، ومنع استيراد كتب تعليم الشعائر الإسلامية، وكل ما له علاقة بالدين أو التاريخ الإسلامي.
إلا أن ما يزيد الإيغور معاناة على معاناتهم هو تواطؤ بعض الدول الإسلامية وتآمرها ضدهم، والتي قامت بتسليم العديد من النشطاء الإيغور الذين فروا من الاضطهاد لنقل معاناة شعبهم ومطالب بتدخل المجتمع الدولي لوضع حد لها إلى السلطات الصينية.
المسلمون في الهند: حرب على الدين والانتماء
لا يقل حال المسلمين في الهند عن حال الإيغور في الصين بل ربما يزيدون عليهم في المعاناة والاضطهاد، ذلك أن معظم الحكومات الهندية المتعاقبة، خصوصاً الحالية، تتخذ من الصراعات الدينية بين الهندوس والمسلمين والتعصب الطائفي ومعاداة المسلمين دعاية ووسيلة لجذب الناخبين.
لقد عاش الهنود جواً من الهدوء والتسامح والتعايش السلمي إبان حكم المسلمين للهند، وهو زمن جمع بين رغد العيش ورخاء الحال، كان جميع الهنود تحت راية حكم الإسلام فترة طويلة حتى وصول المستعمرين للهند خلال القرن السادس عشر، وحتى بعد قدومه، عاش المسلمون والهندوس جنباً إلى جنب وتكاتفوا لأجل الكفاح لطرد المستعمر الإنجليزي؛ مما تسبب في حقد الإنجليز على المسلمين، فلجأوا إلى زرع نار الحقد والتعصب بين الهندوس والمسلمين؛ لتفرقة كلمتهم، ومنع توحيد صفهم ضد مقاومة الاستعمار، وهنا لجأ الإنجليز إلى استغلال حصر السلطة في يد الهندوس على حساب قمع المسلمين الذين كانت لهم اليد الطولى في مقارعة الإنجليز، وطردهم من شبه الجزيرة الهندية، ومنذ ذلك الوقت بدأت نار الحروب الطائفية تؤتي أكلها بتأجيج الصراع بين المسلمين والهندوس، وهو ما نتج عنه انفصال باكستان عن الهند، ثم بنغلاديش عن باكستان، ولا يزال الصراع حتى اليوم بين المسلمين والهندوس في الهند على أشده، خصوصاً بعد وصول حزب بهارتيا جاناتا بقيادة ناريندرا مودي إلى السلطة عام 2014 الذي فاقم النزاع وأوقد نار الخلاف، فأوصل التعصب إلى ذروته بهدم المسجد البابري وقرار ضم كشمير، وأخيراً قانون الجنسية الذي يهدف إلى حرمان ملايين المسلمين من حق المواطنة.
المسلمون في روسيا: ذاكرة صراع تأبى النسيان
يحتفظ الروس بعداء قديم وحقد دفين على المسلمين، فذاكرة تاريخهم الحافل بالصراعات مع العثمانيين والمجازر التي ارتكبوها بحق المسلمين والأراضي التي اغتصبوها والخيرات التي نهبوها من بلاد المسلمين تأبى النسيان، وكيف لا ومعظم الأراضي الروسية هي أراض لشعوب إسلامية قُهِرت وذُلِّلت بالنار والحديد حتى أصبحت أراضي روسية خالصة، وما حادثة غروزني إلا غيض من فيض من الشواهد والأدلة على ظلم الروس وبطشهم واضطهادهم للشعوب الإسلامية في الداخل والخارج، ولنضرب لذلك مثالاً بمذابح ستالين بحق المسلمين في سيبريا، ومجازر السوفييت في أفغانستان، والروس في سوريا اليوم.
ومما لا يختلف فيه اثنان أن الهجمات والحروب التي شنتها الدولة الروسية على العثمانيين هي التي أدت في الأساس إلى انهيار الدولة العثمانية، وتمزيق نسيجها الاجتماعي، ومهدت لإضعافها عسكرياً واقتصادياً ثم سقوطها بعد ذلك، وهي هجمات وحروب قام بها الروس بدافع ديني وعرقي.
وبالجملة، فإن من نافلة القول أنه لولا الحروب التي شنها الروس على الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، لما وقع الانهيار والوهن الذي أصابها في الأيام الأخيرة من حكمه.
كانت الدولة الروسية في أوج قوتها أيام بداية ضعف العثمانيين وانحسار نفوذهم في أوروبا، وعليه فقد وجد الروس الفرصة سانحة لهم للانقضاض على العثمانيين الذين كانوا يخوضون صراعات وأزمات وانشقاقات داخلية وتمرداً من قِبل القادة العسكريين على الخليفة الحاكم.
وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي وقيام روسيا التي تعتبر وريثته الشرعية التي قامت على أنقاضه تَواصَل مسلسل المجازر والانتهاكات والإبادة بحق الشعوب الإسلامية التي طالبت باستقلالها كالشيشان وشعوب القوقاز الإسلامية، التي ارتكب فيها الروس جرائم مروعة يندى لها الجبين، يضاف إلى ذلك التدخل الروسي في سوريا اليوم، وما تمارسه روسيا هناك من قصف للمدنيين السوريين والتهجير القسري لهم، وتدمير أرضهم باتباع سياسة الأرض المحروقة التي هي ديدن الروس في حربهم على خصومهم وعاداتهم في بلاد المسلمين عامة.
المسلمون والغرب: حرب على الثقافات وصراع لأجل الثروات
ربما أعطت حرب أمريكا على أفغانستان وغزوها للعراق وقبلهما الصومال دليلاً على أن الحروب الصليبية لم تضع أوزارها بعد.
صحيح أن فرنسا وبريطانيا سبقتا أمريكا إلى غزو العالم الإسلامي، وتاريخهما معه أطول من تاريخها، فقد خبرت فرنسا وبريطانيا العالم الإسلامي من كل أوديته، وكيف لا وقد خاضتا معه ولا تزالان أطول حروب ثقافات وأديان على مر العصور وفي تاريخ البشرية جمعاء.
لقد شكلت الثورة الصناعية في أوروبا دافعاً اقتصادياً وحافزاً دينياً لغزو العالم الإسلامي وتقاسمه، لنهب ثرواته والاستيلاء على مقدراته وخيراته، خصوصاً بعد استكشاف النفط والصمغ، وجلب اليد العاملة عبر تجارة الرقيق التي قامت بها أمريكا وفرنسا والبرتغال على سواحل إفريقيا خلال القرون الثلاثة التي خلت.
لا حرج على المتحدث عن سياسة دول الغرب في العالم الإسلامي وشعوبه، وليست إبادة الهنود الحمر واستعمار دول آسيا وحرب فيتنام، وإن كان ذلك ليس من موضوعنا، عن ذلك ببعيد.
لقد رأى الغرب شدة تماسك العالم الإسلامي، رغم اتساع رقعته جغرافياً، وتنوعه ديمغرافياً، وفوق ذلك وحدته ووقوفه تحت راية وكلمة واحدة، فلجأوا إلى تفتيته بزرع الفتن وإثارة النزعة القومية والنعرات الطائفية والعرقية، وهو ما كان السبب الرئيسي مع عدة أسباب في سقوط الدولة العثمانية وبعدها الخلافة الإسلامية.
دوافع استعمار الغرب للعالم الإسلامي متعددة على تعدد أهلها؛ بدءاً بتجارة الرقيق والصمغ والنفط، إلى محاولة الاستيلاء والسيطرة على المواقع الجغرافية والممرات البحرية الاستراتيجية لضمان التحكم في الملاحة البحرية .
ساعد التفوق التكنولوجي الغرب لشن الحرب على العالم الإسلامي واحتلاله ورغبته في تصدير منتجاته وتوسيع رقعة نفوذه، ومحاولة إحياء أمجاد الماضي عبر الحملات الصليبية على المسلمين، والسيطرة على المقدسات المسيحية في الأراضي الإسلامية.
شكل سقوط الدولة العثمانية وقيام الحرب العالمية الثانية وتفكك الاتحاد السوفييتي وبعده أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول فرصة ثمينة للغرب للتفرغ للعالم العربي والإسلامي والتغلغل فيه، لا سيما في ظل حكومات غير شرعية وفاسدة لا تمتلك حاضنة شعبية ولا مقومات اقتصادية، ولا أسساً شرعية للحكم ولا تخدم سوى مصالحها ومصالح الغرب، عدو اليوم والأمس.
وأخيراً، ورغم كل ما يقع وما سبق، فلا تزال هذه الدول والحكومات تتخذ من الحرب على الإسلام كدين وعلى المسلمين كأمة سياسة تنتجها ودستوراً تتبناه، ولكن الأدهى والأمر هو تواطؤ حكومات ودول إسلامية معهم، عبر مساعدتهم وتقديم الدعم لهم، والترويج لما تسمى الحرب على الإرهاب، وما هي إلا الحرب على الإسلام والمسلمين، لكن بلغة دبلوماسية، كما يقولون.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.